بهاء الدين بن شداد وكتابه "النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية"
( سيرة صلاح الدين الأيوبي)
ابن شداد :
بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع الأسدي (1) ولد في الموصل عام 539ه (1145م) توفي أبوه وهو صغير، فنشأ عند أخواله بني شداد، وشداد هو جده لأمه، وإليه نُسب، (2) حفظ القرآن الكريم في مسقط رأسه الموصل، وفيها أيضاً تلقى علومه في القراءات والتفسير والحديث النبوي والفقه والأدب على كبار مشايخها ، مثل أبي بكر يحيى بن سعدون القرطبي، وابن الشيرجي أبي البركات عبد الله بن الخضر، ومجد الدين عبد الله بن أحمد الطوسي، وفخر الدين سعيد بن عبد الله الشهرزوري، والحافظ مجد الدين عبد الله بن محمد الأشيري الصنهاجي وغيرهم (3).
ثم سافر إلى بغداد بعد التأهل التام، ونزل بالمدرسة النظامية أعظم مدارس العالم الإسلامي آنذاك، ورُتب فيها معيداً بعد وصوله بقليل، نحو أربع سنين، وأفاد في بغداد من أحمد بن عبد الله الشاشي ورضي الدين القزويني وغيرهما (4).
وبعد ذلك عاد ابن شداد إلى الموصل سنة 569ه ليدّرس في المدرسة التي أنشأها القاضي كمال الدين محمد بن الشهرزوري، (5)، فاشتهر، وذاع ذكره، وارتفعت مكانته بفضل كثرة علمه وسعة حكمته ورجاحة عقله، وصار علماً من أعلام الموصل، فعهد إليه أتابكها بالسفارة إلى الخليفة العباسي وصلاح الدين الأيوبي في كثير من الأمور الهامة (6) وهذه السفارات هي التي عرّفت صلاح الدين به، وجعلته يعجب به، ويحبه، ويطلب منه أن يلتحق بخدمته مع غيره من أكبر رجالات العصر علماً وأدباً مثل القاضي الفاضل والعماد الكاتب الأصفهاني ، وكان ذلك سنة 583ه في أثناء زيارته لدمشق في طريق عودته من الحج، إذ استدعاه صلاح الدين الذي كان قد عرفه من قبل، وكان آنذاك يحاصر قلعة كوكب، فقابله بالاحترام والإكرام، وسمع منه بعض الأحاديث النبوية في صحيح البخاري، وأمر العماد الكاتب أن يطلب منه العود إليه (أي إلى السلطان) بعد انتهائه من زيارة بيت المقدس (7).
رجع ابن شداد إلى صلاح الدين فأعلمه برغبته في بقائه عنده، فقبل ذلك على الرغم من أنه كان قد قرر الاعتزال والتفرغ للعبادة وللعلم في الموصل (8) وذلك لما كان يكنه من حب لصلاح الدين، ولما رآه من حبه للجهاد والإخلاص، وكان ذلك في مستهل جمادى الأولى عام 584ه بعد فتح القدس (9) خلافاً لما ذكره محمد حلمي محمد أحمد محقق كتاب الروضتين في مقدمته (ص 25) من أن ابن شداد قد لازم صلاح الدين قبل فتحه للقدس، وذلك لأن القدس كان في 27 رجب عام 583ه (10).
جعل صلاح الدين ابن شداد قاضي عسكره (11)، وأول قاض للقدس وناظراً لأوقافها بعد تحريرها (12) وصار أيضاً واحداً من أقرب أصفيائه وموضع سره لا يفارقه ليل نهار، ويرافقه في أكثر معاركه، كما غدا كذلك شيخاً له يتلو عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحث على الجهاد (13) ويبتهل معه إلى الله عند الشدائد، ويواسيه في النكبات، ويحمد الله معه في الانتصارات(14).
كان ابن شداد مخلصاً لله وللسلطان صلاح الدين، ناصحاً لهما، عالماً عاملاً، لم ينافس أحداً على حطام الدنيا، زاهداً في المناصب، يعمل في الصمت أعمالاً جليلة تثبت جدارته، فينال ما يستحق بهدوء وتواضع، مما جعل صلاح الدين يزداد في تقريبه إليه، حتى كان هو والقاضي الفاضل آخر من يبقى معه كل ليلة من ليالي مرضه الأخير الذي توفي به ليلة الأربعاء 27 من صفر عام 589ه في دمشق (15).
ومما يدل على إعجابه الشديد بصلاح الدين قوله عنه: "انظر إلى الهمّة التي لم يشغلها عن الغزاة أخذ حلب ولا الظفر بها، بل كان غرضه الاستعانة بالبلاد على الجهاد، فالله يحسن جزاءه في الآخرة كما وفقه للأعمال المرضية في الدنيا (16).
أخلص ابن شداد لصلاح الدين في حياته، كما أخلص لـه بعد وفاته، وذلك بوقوفه من أولاده موقف الناصح لهم المصلح لما بينهم، لذا نجده كثير التنقل بين حلب والقاهرة لهذا الأمر (17)، ولقد اعتمد عليه الملك الأفضل ابن صلاح الدين واحترمه كثيراً، وكان يشاوره في جليل الأمور ودقيقها، ولكنه عندما ورد إليه كتاب أخيه الظاهر ملك حلب يطلب فيه أن يتحفه بابن شداد أجابه إلى ذلك إيثاراً وحباً، وسيّره إليه (18).
وصل ابن شداد إلى حلب، فأعظمه الملك الظاهر، وفوّض إليه قضاءها (19) والإشراف على أوقافها، وجعله عنده في رتبة الوزارة والمشاورة (20) فعني بترتيب أمرها وجمع الفقهاء بها، وعمّرت في أيامه المدارس الكثيرة، كما أنشأ هو نفسه مدرسة فخمة وداراً للحديث، وجعل تربته بينهما ليدفن بها عند وفاته، وتشمله بركة العلم ميتاً كما شملته حياً (21)، وكان ذا ثروة كبيرة أنفقها كلها على المدارس والعلم (22)، وبفضله علت منزلة حلب العلمية، فأتاها الطلاب ليدرسوا فيها عليه وعلى غيره ممن وفد عليها من العلماء (23)، ومن هؤلاء الطلاب ابن خلكان (24) وابن واصل الحموي، وبفضله أيضاً جالس طلاب العلم رجالات الدولة وعلت منازلهم (25).
استمر ابن شداد في عطائه العلمي وهو أقرب الناس إلى الظاهر منزلة، وله الإقطاع الجليل والحرمة التي لم يصل إليها أحد من العلماء إلى أن توفي الملك الظاهر عام 613ه.
وفي زمن الملك العزيز ابن الظاهر ازدادت منزلة ابن شداد سمواً، إذ اعتمد عليه طغريل أتابك الملك في تسيير أمور المملكة (26)، وجعله شريكاً له في الوصاية على الملك العزيز الذي كان صغيراً إلى أن بلغ سن الرشد (27)، وكان العزيز ينزل إليه في كل وقت ليستشيره في المهمات الخطيرة، ومنها أنه رأس الوفد الذي سافر إلى القاهرة عام 629ه ليحضر ابنة الملك الكامل محمد زوجاً للملك العزيز رغم شيخوخته (29) وذلك لما لهذا الزواج من أهمية سياسية كبرى جعلته شبيهاً بزواج أبيه الظاهر من ابنة عمه العادل ضيفة خاتون من قبل (29).
وبسبب شيخوخته بعد ذلك تضاءل دوره السياسي والإداري، ولكن دوره العلمي استمر حتى أواخر عمره، إذ ظل ملازماً لمجالس العلم ومجالسة رجالاته (30)، وكان يسلك طريق البغاددة في ترتيبهم وأوضاعهم وملبوسهم، والرؤساء الذين يترددون إليه كانوا ينزلون عن دوابهم على قدر أقدارهم، لكل واحد منهم مكان معين لا يتعداه (31)، وصار للفقهاء في أيامه حرمة تامة، خصوصاً أهل مدرسته، فإنهم كانوا يحضرون مجلس السلطان، ويفطرون على سماطه في رمضان، كما مدحه بعض الشعراء، ومنهم ابن خروف الشاعر الذي مدحه واستهداه فروة قائلاً:
بهاء الدين والدنيا | | ونور المجد والحسب |
طلبت مخافة الأنوا | | ء من نعماك جلد أبي |
وفضلك عالم أني | | خروف بارع الأدب |
حلبت الدهر أشطره | | وفي حلب صفا حلبي (32) |
وبعد ثلاث وتسعين سنة من التعب المضني في ميادين السياسة والعلوم والآداب أسلم روحه لبارئها في حلب عام 632 (33)، ودفن في تربته التي أنشأها، ولازم الفقهاء والقراء تربته مدة طويلة يقرؤون القرآن الكريم فيها.
وعلى الرغم من أن ابن شداد كان ثالث علمين عظيمين في ميادين الأدب والعلوم والسياسة والإدارة حول صلاح الدين، وهما القاضي الفاضل (34) والعماد الكاتب (35)، إلا أنه تميز عنهما بأنه لم يتصل بصلاح الدين بوساطة أحد، بل إن صلاح الدين قد عرفه في أثناء سفاراته إليه، وهو الذي ألح عليه بالبقاء معه بسبب فضله قبل أربع سنوات من وفاته (أي وفاة صلاح الدين)، وهي على قلتها كبيرة الأهمية ملأى بالأحداث، أرخّها ابن شداد تأريخاً متميزاً خلّدها وخلده بسبب التصاقه الشديد بصلاح الدين. بينما كان القاضي الفاضل متصلاً بأسد الدين شيركوه عم صلاح الدين عندما كان وزيراً في مصر، ومنه انتقل إلى صلاح الدين عندما تسلّم وزارة مصر من عمه، وأما العماد الكاتب فإنه كان من حاشية نور الدين محمود زنكي، ثم غادر الشام بعد وفاته إلى الموصل، وبعد دخول صلاح الدين دمشق رجع إليها، واتصل بالقاضي الفاضل ليتوسط له عند صلاح الدين ليجعله في ديوان الإنشاء (36).
لم يضن ابن شداد بعلمه الغزير على غيره (37)، بل أوصله إلى أعلام عصره الذين أتوا إليه وإلى مدرسته في حلب، ومنهم ابن خلكان (38)، وابن واصل الحموي مؤرخ الأيوبيين الذي افتخر بتلمذته عليه (39)، وأبو شامة صاحب "كتاب الروضتين في أخبار الدولتين" الذي جعل كتاب سيرة صلاح الدين لابن شداد مصدراً هاماً من مصادره (40).
ولعل من المفيد أخيراً أن نميز بين ابن شداد بهاء الدين الذي تحدثنا عنه آنفاً، وابن شداد عز الدين محمد بن علي صاحب كتاب الأعلاق الخطيرة الذي ولد في حلب عام 613ه (1217م)، ثم انتقل إلى القاهرة، وتوفي فيها عام 684ه (1285م) (41)، بعد أن عاصر ابن شداد بهاء الدين في حلب مدة تسعة عشر عاماً، وأخذ منه إجازة برواية الحديث.
وتشابه كنيتي الرجلين بهاء الدين وعز الدين، واشتراكهما في الإقامة بحلب والتأريخ والخدمة السلطانية والوفاة في قرن واحد، هو السابع الهجري، جعلا بعض الباحثين يخلط بينهما، وبين مؤلفاتهما، مثل حاجي خليفة وجرجي زيدان والغزي وأحمد أحمد بدوي وبروكلمان وعبد اللطيف حمزة، والسيد الباز العريني (42).
وبعد فإن بهاء الدين يوسف بن رافع أشهر من سميه عز الدين، وأهم كتبه التي وصلت إلينا هي:
1- كتاب دلائل الأحكام (تحدث فيه عن أحاديث الأحكام النبوية).
2-كتاب ملجأ الحكام عند التباس الأحكام (في القضاء).
3-كتاب العصا (المقصود موسى وفرعون).
4-كتاب الموجز الباهر (في الفقه).
5-كتاب أسماء الرجال الذين في المهذب للشيرازي.
6-دروس في الحديث (ألقاها في القاهرة عام 629ه)
7-كتاب فضل الجهاد (ألفه لصلاح الدين) (43).
8-النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (أو سيرة صلاح الدين).
وسوف أعرض آخرها "النوادر السلطانية"، لأنه هو الذي خلد ابن شداد، وجعله من كبار المؤرخين، كما حاول هو أن يخلد صلاح الدين فيه، ولا يخفى الأثر الذي يتركه موضوع الكتاب على مؤلفه شهرة أو خمولاً، ولا يعني هذا أن ابن شداد كان يسعى إلى ذلك أو يدركه، وإنما الذي لا شك فيه أنه ألفه مخلصاً لا يريد به إلا وجه الحق، ورد بعض جميل صنيع صلاح الدين لأمته، وجعله قدوة لمن سيأتي بعده، وتخليده رمزاً تتجسد فيه على مدى الأيام أسمى صورة للفروسية والنبل والعروبة والإخلاص، تزرع الأمل منيراً في أكثر ليالي الأمة ظلاماً، ولنؤمن إيماناً راسخاً أن الأمة التي حررت القدس بعد احتلال وحشي دام واحداً وتسعين عاماً قادرة على أن تحررها في عصرنا الحديث هذا مرة أخرى.