قامت الدولة اليهودية في 15 مايو 1948م في فلسطين، وكان قد قامت مملكة صليبية فيالقدس في 15يوليو 1099م، وشكّلت هاتان الهجمتان الصليبية سابقاً واليهودية حالياًخطرا على الأمة، وقد نجحت الأمة في التصدي للخطر الصليبي وإزالته، وما زالت تعانيفي مواجهة الخطر اليهودي، وتنتقل من تعثّر إلى آخر·
فكيف كان النجاح في التصديللخطر الصليبي؟ ولماذا كان الفشل في التصدي للخطر اليهودي؟ وهل يمكن الاستفادة منالنجاح السابق في مواجهة الخطر الحالي؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في السطورالتالية:
الحملات الصليبيّة:
خطب أربانالثاني بابا روما بمناسبة انتهاء مجمع كليرمون في نوفمبر 1095 م داعياً فرسانأوروبا إلى حملة صليبية لإنقاذ فلسطين من أيدي المسلمين، فلسطين التي وصفها الكتابالمقدس بأنها أرض اللبن والعسل وبأنها ميراث المسيح، وحدّد لها موعداً في أغسطس 1096 م، وبدأت الحملة الصليبية الأولى لتتبعها ستُ حملات أخرى استمرت مائتي عام،وقد اشتركت فيها كل أصناف المجتمع الأوروبي: الملوك، والنبلاء، والفرسان، ورجالالدين، والفلاحون، والأثرياء والفقراء الخ··
وقد استولت الحملة الصليبية الأولى علىنيقية عاصمة السلاحقة في 19 يوليو 1097 م، ثم استولت على مدينة الرها في شرقي تركيةوأقامت فيها أول إمارة صليبية، ثم حاصرت إنطاكية في 21 أكتوبر 1097 م ثم فتحتهاوهكذا قامت الإمارة الصليبية الثانية، ثم تحركت جموع الصليبيين نحو القدس في ينايرمن عام 1099 م، ثم فتحتها في 15 يوليو 1099م، وأعقب ذلك مذبحة رهيبة، وأبيحتالمدينة للسلب والنهب والقتل عدة أيام وفاض الدم، وظلت الجثث مطروحة في الشوارع إلىأن اجتمع الصليبيون وقرروا اختيار ريمون السانجيلي حاكما لبيت المقدس تحت لقب"حامي الضريح المقدس"ثم تحولت القُدس إلى مملكة تحت حكم بلدوين، وهكذا أسفرتالحملة الصليبية الأولى عن مملكة في القدس وإمارتين في الرها وأنطاكية·
ثمتتابعت الحملات الصليبية، والواضح أن كل الشعوب والدول الأوروبية اشتركت في الحروبالصليبية: الإنكليز، والألمان، والفرنسيون، والإيطاليون الخ···، ولم تقتصر الحروبالصليبية على تهديد أرض فلسطين وبلاد الشام، بل تعدت ذلك إلى تهديد مناطق أخرى مثلمصر وتونس، فقد تعرضت الأولى لعدة غزوات، وقد اختصها الصليبيون في إحدى المراتبحملة صليبية خاصة هي الحملة الرابعة، أما تونس فقد غزتها الحملة الصليبية السابعةبقيادة لويس التاسع ملك فرنسا لقي حتفه في تلك الغزوة·
فماذا كانت ردود فعل الأمة الإسلامية؟:
لقد أدرك المسلمونهول الغزو وأخطاره، فأخذ الفقهاء والعلماء يخطبون من فوق منابر المساجد في فضلالقدس الشريف، وفضل الجهاد والمجاهدين، ولم تكن حلقات الدروس تخلو من حديث حولالقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، كما ألفت الكتب والقصائد التي تحرضوتتناول هذا الموضوع بشكل أو بآخر، وقد أثارت أعداد اللاجئين الهاربين من مذابحالصليبيين مشاعر الاستياء في كل مكان ذهب إليه اللاجئون، لقد أدرك المسلمون أنالصليبين جاؤوا إلى بلادهم بقصد البقاء، وكانت تلك صدمة مؤلمة·
وبدأت الدعوة إلىالجهاد تسري بين أبناء الأمة، وتجاوبت معها جماهيرها، وأصبحت حركة يقودها الأمراء،وفي خضم هذه الحركة ولدت القيادة المقاتلة وعلى رأسها عماد الدين الزنكي الذي برزعام 521 هـ - 1127م رافعا راية الجهاد، حاكما للموصل، ثم حكم حلب عام 522 هـ، ثماستولى في العام التالي على حَماه، ثم استولى على حمْص عام 532 هـ - 1143م، ثمانتزع الرها من أيدي الصليبيين عام 1144 م، بعد حصار دام 28 يوماً، وكان سقوطهاصدمة نفسية مؤلمة للصليبيين في كل مكان، لأنها كانت أول أمارة صليبية تقوم على الأرضالإسلامية، ولأنها كانت مرتبطة بتاريخ المسيحية المبكر، وكان سقوط الرها من الناحيةالعسكرية كسباً كبيراً لأنه جعل وادي الفرات منطقة تخضع للسيطرة الإسلامية، وكان هذاالانتصار بداية النهاية للصليبيين·
خلف نور الدين الشهيد والده عماد الدينالزنكي إثر اغتيال الأخير على يد الباطنّية عام 1146م، وسار على نهج والده في توحيدالبلاد الإسلامية، وكانت دمشق هي البلد الوحيد الخارج عن نطاق التوحيد شمال الخلافةالإسلامية، وكان ملكها معين الدين أنر يمثل عقبة في وجه نور الدين محمود، وفي كل مرةكان يظهر فيها نور الدين محمود أمام أسوار مدينة دمشق كان الصليبيون يهبون لنجدتها،ثم عقد تحالفا ضعيفا معها بعد موت حاكمها، إلا أنه استطاع أن يدخلها في النهايةبرغبة أهلها الذين سئموا ظلم حاكمهم·
وهكذا استطاع نور الدين محمود أن يوحدالجبهة الشرقية، ثم اتجهت أنظاره إلى مصر، وكانت تحكمها الخلافة الفاطمية، وتسابقفي الوصول إليها مع الصليبيين، واستغل المنازعات الداخلية، فأرسل أسد الدين شيركوهوبرفقته شاب في السابعة والعشرين من عمره هو ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، الذي خلفأسد الدين شيركوه في الوزارة بعد وفاته عام 564 هـ -1169م، ثم استطاع صلاح الدين أنيلغي الخلافة الفاطمية ويلحق مصر بالخلافة العباسية، وذلك عام 567 هـ -1171م·
وهكذا توحدت كل من بلاد الشام والعراق والجزيرة ومصر تحت راية واحدة، ثمحدثت معركة حطين في يوليو 1187م، التي كانت مقدمة لأخذ القدس من الصليبين في 2أكتوبر 1187م، وسارعت بعد ذلك المدن والقلاع الصليبية إلى الاستسلام لصلاح الدينفلم يبق في أيدي الصليبيين إلا بعض مدن محدودة هي: صور، إنطاكية، طرابلس، وهكذاتأكدت نهاية الحروب الصليبية كثمرة لعملية التوحيد التي قامت بها الدولتان: الزنكيةوالأيوبية·
ولقد حققت القيادات الإسلامية الانتصار على الصليبيين بعد أن قامتبخطوتين مهمتين هما:
الأولى: الاستفادة من الرصيد الثقافي الذي تقوم عليه الأمة،والذي يُعد محوراً أساسياً من أساسيات وجودها وهو الجهاد والمجاهدون، وفضلهماوأهميتهما في الحفاظ على المقدسات الإسلامية والحرمات الشرعية، واستثارته وتحريكه،والبناء عليه·
الثاني: التوحد تحت راية الجهاد، وهو ما بدأه عماد الدين الزنكي،حيث حكم الموصل ثم حكم الرها وحماه وحمص، ثم جاء نور الدين الشهيد واستمر حاملاًراية الجهاد، وضم دمشق إلى الدول المتوحدة، ثم جاء صلاح الدين الأيوبي وضمّ مصر،وأصبح الصليبيون محصورين بين جناحي الأمة الشرقي الذي يضم الموصل والجزيرة وبلادالشام، والجناح الغربي الذي يضم مصر، ثم كان الإطباق الذي حقق الانتصار علىالصليّبيين في حطّين، هذا ما يتعلّق بالحروب الصليبية· والآن: كيف سارت الأموربالنسبة للحروب اليهودية؟
الحروباليهودية :
عقدت القوى اليهودية في أوروبا المؤتمر الصهيوني الأول لها فيبازل في سويسرا عام 1897م، وحدّدت أرض فلسطين هدفا لإقامة دولتها، واختارت هرتزلأميناً عاماً لها، ثم وقعت الحرب العالمية الأولى في عام 1914م، وانهزمت الخلافةالعثمانية التي وقفت إلى جانب ألمانيا في الحرب، وكانت نتيجة الحرب سقوط الخلافةالعثمانية، وتقسيم بلاد الشام، ووقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني ..
ثم بدأتالهجرة اليهودية تتوالى إلى فلسطين، ومكّن الانتداب البريطاني اليهود من إقامةدولتهم، فساعد الوكالة اليهودية على شراء أراضي العرب المسلمين، ونقل إليها كثيراًمن الأملاك الحكومية، ثم أصدرت الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين في 29 نوفمبر 1947م، واندلعت المواجهات بين العرب واليهود، ودخلت الجيوش العربية فلسطين في 15مايو 1948م، وانهزمت أمام الجيش اليهودي، وقامت الدولة العبرية على أرض فلسطين،ونزح نتيجة ذلك عشرات الآلاف من الفلسطينيين، ثم خاض العرب عدة حروب بعد ذلك معالدولة اليهودية هي حرب 1956م، 1967م، 1973م ..
ثم دخل العرب في سلام مع اليهود،فوقّعت مصر اتفاقيات كمب ديفيد مع مناحيم بيغن العام 1978، ثم وقعت منظمة التحريراتفاقية أوسلومع إسحاق رابين العام 1993م، ووقعت الأردن اتفاقية وادي عربة معإسحاق رابين العام 1994م ..
والسؤال الآن: ما أوجه الاتفاق والاختلاف بين الحملاتالصليبية والحروب اليهودية؟
1 ـ تتفق الحملات الصليبية والحروب اليهودية بأنأوروبا كانت ذات دور رئيسي في الحربين، وقد حّلت شالآن أميركا مكان أوروبا في دعمالكيان اليهودي بعد أن ضعف وضع أوروبا الاقتصادي والعسكري، وتقلص نفوذهاالسياسي·
2 ـ تتفق الحملات الصليبية والحروب اليهودية، بأنها استهدفتا العالمالعربي والإسلامي وليس أرض فلسطين وحدها، فقد أقامت الحملات الصليبية دولا وممالكلها في نيقية، والرها، وطرابلس، وإنطاكية، والقدس، وهاجمت مصر وتونس، وأفرزت الحروباليهودية احتلال أرضٍ في لبنان وسورية، ومصر، وتتطلع إسرائيل الآن إلى السيطرة علىالعالم العربي انطلاقاً من مقولة"أرضك يا إسرائيل من الفرات إلىالنيل".
3 ـ تتفق الحملات الصليبية والحروب اليهودية بأنهما تستهدفان اقتلاعالوجود الإسلامي واستبداله بوجود آخر صليبي في الماضي، ويهودي في الحاضر، ولذلك لاتتوقف أهداف الصليبيين واليهود على الاستغلال الاقتصادي، إنما تتعداه إلى وجودمغاير ودائم.
4 ـ تختلف الحملات الصليبية عن الحروب اليهودية بأن بداية النهايةبالنسبة للحملات الصليبية بدأت بعد أقل من خمسين عاماً عندما احتل عماد الدينالزنكي الرَّها في العام 528 هـ - 1144م، في حين أن الدولة اليهودية مازالت تزدادتمكينا بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على قيامها، ويدل على ذلك اتفاقيات الاستسلامالتي وقعتها أكثر من دولة عربية معها، فما السبب في ذلك؟
-السب في ذلك ثلاثةأمور:
الأول: لقد تواصلت القيادات العباسية أثناء الحملات الصليبية مع ميرانالأمة الثقافي المرتبط بقيم البذل والعطاء والتضحية والجهاد والشهادة والمقدساتوتفضيل الآخرة على الدنيا الخ····، فاستفادت منه وحركته لدفع الأمة إلى الجهادوالقتال، في حين أن القيادات العربية المعاصرة التي تصدّرت الساحة السياسية بينالحربين العالميّتين الأولى والثانية وبعدها تنكّرت لميراث الأمة الإسلاميةالثقافي، فهّونت من شأن الدين ورابطته وأعلت القومية ورابطتها بحجة تجاوز العصرلرابطة الدين، ولقد قال أحد شعراء القومية:
سلام على كفر يُوحّد بيننا **وأهلاوسهلاً بعده بجهنّم
وشكّكت في بعض حقائق القرآن الكريم بحجة العلم من جانبوالتاريخ من جانب آخر، كما حدث مع طه حسين عندما شكّك في حديث القرآن الكريم عنإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبنائهما الكعبة، وزينت السلوك الغربي القائم علىانفلات العلاقات الجنسية بين الذكر والأنثى بحجة الحرية الشخصية وعدم توليد الكبتحسب نظريات فرويد، وروجت الفنون الهابطة القائمة على العري بحجة تذوق الجمال، ونادتبأنه لا حكم في الإسلام، وأن الحكم الذي مارسه الرسول [ كان شيئاً خاصاً به، لذلكفإننا يمكن أن نختار الحكم الذي يناسبنا كما جاء في مزاعم علي عبد الرازق في كتابه"الإسلام وأصول الحكم " ثم زاد الطعن في الدين والاستهزاء به في المرحلةالاشتراكية التي بدأت في الستينيات ، وامتدت إلى معظم الدول العربية..
ولم يتوقف الأمرعند هذا فحسب بل تعداه إلى اعتباره أساس التخلف، ويجب اقتلاعه من واقع الحياةوالمجتمع والاقتصاد والأسرة والتربية لأنه أفيون الشعوب، ولأنه يقوم على الخرافةوالأوهام ومُناهض لأصول العقل والنهضة، وقد روج لهذه المقولات كثير من الكتاب منهم: جلال صادق العظم، نديم البيطار، غالي شكري، لويس عوض الخ···
وبالفعل وضعت المقوماتوالبرامج والمناهج التي تحقق ذلك في أجهزة الإعلام والتربية والاقتصاد والاجتماعوالسياسة الخ···، فكانت نتيجة ذلك تمزيق أوصال الأمة، وتوليد التناقضات في كيانها،واضطهاد علمائها، وتغييب طلائعها المؤمنة في السجون، وانهزامها في المعارك التيخاضتها أمام اليهود·
الثاني: رفعت القيادات العباسية شعار الجهاد منذ اللحظةالأولى لبدء الحملات الصليبية، واستمرت في رفعه إلى أن انتهى الوجود الصليبي، وكانتتتولد الأسر المجاهدة واحدة تلو الأخرى: فكانت الأسرة الزنكية، ثم الأسرة، ثمالأسرة الأيوبية، ثم المماليك الشراكس، ثم المماليك البحرية، في حين أن القيادةالمعاصرة أنزلت راية الجهاد بعد أقل من خمسين سنة من مقاتلة اليهود، عندما وقّعتاتفاقات سلام مع اليهود، وعندما اعترفت منظمة التحرير بالقرار 242 وبإيقافالانتفاضة والكفاح المسلح ضد إسرائيل، لذلك صارت تهمة الإرهاب تهمة جاهزة لكل منيفكر بمقاتلة اليهود، ولكل من يعد العدة لاسترداد حقه وأرضه السليبة، مع إن أطماعاليهود في توسيع الأرض والنفوذ والسيادة لم تتوقف إلى الآن عند حد·
الثالث: لقداعتبر المجتمع العباسي أن مقاتلة الصليبيين واجب الأمة جميعاً، لذلك اشتركت فيمجاهدتهم كل الأعراق والأجناس: العرب، والفرس، والأكراد، والأتراك الخ···، ثم سارتالقيادة في خطة توحيدية شملت مختلف المدن الإسلامية، ومنها: الموصل، وحماه، وحمص،وحلب، والشام، ورها الخ···، حتى توصلت إلى إجلائهم عن الأرض الإسلامية، لكن القيادةالسياسية المعاصرة اعتبرت أن مقاتلة اليهود واجب الفلسطينيين، لذلك أنشأ مؤتمرالقمة العربية العام 1964م منظمة التحرير الفلسطينية التي اعتبر دورها الدورالرئيسي والأساسي في مواجهة اليهود، واعتبر دور الدول العربية دور الداعم ويكون ذلكحسب ظروفها وإمكاناتها..
لقد أدى هذا التقسيم إلى حصر الصراع بين منظمة التحريروإسرائيل، وجعل انتصار إسرائيل مؤكداً لأنها الأقوى بالمقارنة مع منظمة التحرير،ولأنه أبعد طاقات الأمة وإمكاناتها عن ساحة الصراع·
لقد انتصرنا على الحملاتالصليبية لكننا خسرنا الحروب اليهودية ؛ لأن القيادات السياسية حاربت ميراثها وتنكرتلثوابت الأمة الدينية، ولأنها غلبت الجانب القُطْري على حساب توحيد الأمة، ولأنهاأنزلت راية الجهاد قبل انتهاء المعركة·
المصدر : مجلة الوعي الإسلامي العدد : 480