بعد أن تنازل بايزيد لابنه سليم عن الحكم بدعم الانكشارية ، أرضى السلطان سليم الانكشارية وتوجه إلى آسيا للتخلص من إخوته الذين ينازعونه السلطة أو لا يرضون به سلطاناً ، فتعقب أخاه أحمد إلى أنقره ، وقبض عليه بعد جهد ، وقتله ، ثم سار إلى ولاية صاروخان وتتبع أخاه الآخر كركود ففر منه ، وبعد البحث عليه تمكن منه وقتله ، وأخذ خمسة من أولاد إخوته في بورصة وأمر بقتلهم ، واطمأن بعدها - حسب قناعته - من المنافسة الأسرية. وكان قد عين ابنه سليمان حاكماً على استانبول ليتفرغ لأموره التي في رأسه.
انتقل بعد ذلك إلى أدرنة فوجد سفراء البندقية ، والمجر ، وموسكو ، وسلطنة مصر ينتظرونه ، فعقد معهم معاهدات حيث يريد أن يتفرغ إلى ما يخطط له.
إن السلطان سليم ذو شخصية قوية ، وهو عسكري بفطرته ، لذا كانت نظرته إلى القضايا كلها من وجهة نظر عسكرية ، فيرى أن الأمور المستعصية لا تحلها إلا القوة ، وهذا ما جعل العسكريين يحبونه ، ويعملون على تسلمه السلطة.
إن سياسة الدولة العثمانية في زمن السلطان سليم الأول سارت على هذه الأسس ألا وهي القضاء على الدولة الصفوية الشيعية ، وضم الدولة المملوكية ، وحماية الأراضي المقدسة ، وملاحقة الأساطيل البرتغالية ، ودعم حركة الجهاد البحري في الشمال الأفريقي للقضاء على الأسبان ، ومواصلة الدولة جهادها في شرق أوروبا . وهذا تفصيل هذه الخطة :
رأى السلطان سليم أن دولته قد أصبحت أقوى الدول الإسلامية آنذاك ؛ لذا عليه أن يقوم بالمهمة الملقاة على عائقه في توحيد أبناء الأمة المسلمة. ورأى أن الأندلس قد سقطت بيد النصارى الأسبان ، ولم تعد هناك فائدة للضغط على أوربا من جهة الشرق للتخفيف عن المسلمين في الغرب.
ورأى أن أوربا النصرانية لا يمكن مواجهتها إلا بالمسلمين كافة ؛ لذا يجب أن يخضع المسلمون لدولة واحدة ، ولا شك أن يفكر في أن هذا الخضوع يجب أن يكون للعثمانيين بصفة أن دولتهم أقوى الدول الإسلامية القائمة يومذاك ، ورأى أن دولة المماليك قد ضعف أمرها ، ولم تتمكن من تأدية دورها في مواجهة البرتغاليين الذين قدموا على المسلمين من الجنوب ، وأن الخلافة العباسية في مصر ليست سوى خلافة صورية يتصرف بها المماليك كيف يشاءون.
ورأى أن البرتغاليين يهددن العالم الإسلامي من جهة الجنوب ، ويهددون باحتلال المدينة المنورة ، وأخذ رفات النبي الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وعدم تسليمها حتى يتخلوا عن القدس للنصارى ، وقد عجز المماليك عن مقاومتهم ، وفوق هذا فإن هؤلاء البرتغاليين قد وجدوا لهم أعواناً بين المسلمين أنفسهم إذ طلب الصفويون من البرتغاليين أن يشكلوا حلفاً ضد العثمانيين بل ضد أهل السنة من المسلمين ، ورأى أيضاً أن موقف الصفويين في الخليج ضد البرتغاليين كان موقفاً فيه كثير من الميوعة.
ورأى أن الصفويين بعامل الخلاف المذهبي بينهم وبين العثمانيين قد بدؤوا يتحرشون بالعثمانيين من جهة الشرق ، ويحاولون التوسع ، كما يعملون على نشر المذهب الشيعي ، فقد دخل الشاه إسماعيل الصفوي ديار بكر ، وجعل عاصمته تبريز القريبة ، وطلب من المماليك التحالف معهم ضد العثمانيين للوقوف في وجه توسعهم. كما ساعد الأمير أحمد ضد والده السلطان بايزيد الثاني ، ثم ضد أخيه السلطان سليم ، فلما تمكن السلطان من أخيه كان لا بد من ضرب من كان يعاونه.
أولاً : محاربة الدولة الصفوية الشيعية :
أمام هذه المرئيات وحسب طبيعته العسكرية ، وجد أن يحسم الأمور بالعمل العسكري ، وقرر أن يسير نحو الصفويين ليأدبهم ويبعدهم عن البرتغاليين ، ثم يتحالف مع المماليك ليقفوا معاً في وجه البرتغاليين ، فإن أبي المماليك التفاهم احتل بلادهم ، ووقف أمام البرتغاليين يجاهدهم وخاصة أنها حرب صليبية واضحة ، يتابع البرتغاليون من خلالها المسلمين بعد أن أخرجوهم من الأندلس. في الوقت نفسه يكون قد قطع مرحلة في توحيد المسلمين بضم أجزاء واسعة إلى دولته ، وكلها أقسام من بلاد المسلمين ، وربما شجعه على ذلك ضعف دولة المماليك ، وخوف السكان من البرتغاليين ، وسمعة العثمانيين التي ارتفعت في نفوس الأهالي ، وأمل المسلمين في قدوم السلطان العثماني لمنازلة البرتغاليين.
اتجه السلطان سليم من أدرنه على رأس جيش عظيم باتجاه الصفويين ، وكان قد أحصى الشيعة الذين في شرقي الدولة لأنهم سيكونون أنصاراً للصفويين ، وأمر بقتلهم في شرقي الدولة لأنهم سيكونون أنصاراً للصفويين ، وأمر بقتلهم جميعاً ، ثم تقدم نحو تبريز عاصمة الصفويين الذين أرادوا خديعته بالتراجع المخطط حتى إذا أنهك الجيش العثماني انقضوا عليه ، وبقي السلطان في تقدمه حتى التقى بالجيش الصفوي في ( جالديران ) جنوب مدينة قارص في شرقي الأناضول وكانت معركة عنيفة بين الطرفين في الثاني من رجب عام 920 ، انتصر فيها العثمانيون ، وفر من الميدان الشاه إسماعيل الصفوي ، وبعد عشرة أيام دخل السلطان تبريز ، واستولى على الخزائن ، ونقلها إلى استانبول ، وتتبع الشاه ، ولكن لم يتمكن من القبض عليه ، وأقبل فصل الشتاء ببرده في تلك المرتفعات فاشتد الأمر على الجنود العثمانيين ، وبدا تذمرهم ، فترك السلطان المنطقة ، وسار نحو مدينة أماسيا حتى انتهى فصل الشتاء ، رجع السلطان إلى أذربيجان ففتح بعض القلاع ، ودخل إمارة ذي القادر ، وترك الجيوش العثمانية تنفذ المهمة التي أعطاها لها ، وعاد إلى استانبول ، فقتل كبار الضباط من الانكشارية الذين أبدوا تذمرا من التقدم بسبب البرد كي لا تتكرر الحادثة. وكانت الجيوش العثمانية قد دخلت أورفة ، والرقة ، وماردين ، والموصل.
ثانياً : ضم دولة المماليك :
بعد الحرب التي شنها السلطان سليم على الصفويين بدأ يستعد لحرب المماليك الذين تحالفوا مع الصفويين على العثمانيين ، والذين يختلف معهم بشأن إمارة ذي القادر على الحدود بين الطرفين ، والتي قاعدتها مرعش ، كما أن المماليك وقفوا مع بعض الأمراء العثمانيين الفارين من وجه السلطان سليم ، كما كان الموقف السلبي للدولة المملوكية في وقوفها المعنوي مع الشاه إسماعيل الصفوي ، وشجعه على هذه الحرب وجهاء الشام الذين خافوا البرتغاليين ، ولم يجدوا في المماليك القدرة على المقاومة ، مع الظلم الذي كان يمارسه الممالك ضد أهل الشام ، وبروز العثمانيين كقوة ضخمة اكتسحت أجزاء من أوربا .
ولما علم سلطان المماليك( قانصوه الغوري ) الملك الأشرف أبو النصر سيف الدين استعداد السلطان سليم لغزو بلاد المماليك أرسل إليه رسولاً يعرض عليه وساطته للصلح بين العثمانيين والصفويين ، غير أن السلطان سليم بطبيعته العسكرية طرد الرسول وأهانه ، لأنه قرر الحسم العسكري.
سار السلطان سليم بجيشه نحو بلاد الشام ، واستعد للسلطان الأشرف قانصوه الغوري ، واتجه نحو الأناضول ، والتقى الطرفان في مرج دابق شمال غربي مدينة حلب ، وكان السلطان العثماني قد اتصل بولاة الشام ومناهم ، أو التقوا به ، وتقربوا إليه ، وعندما التحم الجيشان يوم 25 رجب من عام 1922 ، انفصل ولاة الشام بمن معهم وانضموا إلى العثمانيون فانتصروا ، وهزم المماليك رغم شجاعة السلطان الأشرف والجهد الذي قدمه ، وثباته في المعركة حتى قتل.
دخل السلطان سليم حلب ، وحماه ، وحمص ، ودمشق دون مقاومة بل بالترحيب في أغلب الأحيان ، وأبقى ولاة الشام على ولاياتهم حسبما وعدهم ، بل زاد في مناطق نفوذ بعضهم حسبما بذلوا في ميدان مرج دابق ، واتجه إلى مصر ، بعد أن قابل العلماء وأكرمهم ، وأمر بترميم مسجد بني أمية بدمشق ، وقد عين جانبرد الغزالي على دمشق ، وفخر الدين المعني على جبل لبنان ، وهو من الدروز ، وقد ساعد السلطان سليم ، ووقف إلى جانبه بعد أن ترك المماليك ليحصل على الولاية ، وهو من ألد أعداء العثمانيين وما يحملونه من أفكار إسلامية.
كان المماليك في مصر قد اختاروا سلطاناً جديداً هو خليفة قانصوه الغوري ويدعى ( طومان باي ) ، وقد أرسل إليه السلطان سليم يعرض عليه الصلح مقابل الاعتراف بالسيادة العثمانية على مصر ، غير أن طومان باي رفض ذلك ، واستعد للقتال ، وكان السلطان سليم بيكي في مسجد الصخرة بالقدس بكاء حاراً وصلى صلاة الحاجة داعياً الله أن يفتح عليه مصر ، وتحرك نحو مصر وقطع صحراء فلسطين ، والتقى الطرفان عند حدود بلاد الشام فهزم المماليك ، ودخل العثمانيون غزة ، وفي اليوم الأخير من عام 922 التقى الطرفان في معركة ( الريدانية ) على أبواب القاهرة ، وانطلق طومان باي مع كوكبة من فرسانه إلى مقر السلطان سليم ، وقتلوا من حوله ، وأسروا الوزير سنان باشا ، وقتله طومان باي بيده ظناً منه أنه السلطان سليم ، ورغم الشجاعة التي أبداها المماليك ، والمقاومة التي أظهرها المقاتلون فإن العثمانيين قد انتصروا عليهم لتفوقهم بالمدفعية ، وفي 8 محرم 923 دخل العثمانيون القاهرة. وانطلق طومان باي إلى جهات الجيزة يقاتل العثمانيين ، غير أنه قد سقط أسيراً بأيديهم ، وقتل في 21 ربيع الأول 923.
ثالثاً : انتقال الخلافة :
بقي سليم في القاهرة ما يقرب من شهر وزع خلالها الأعطيات، وحضر الاحتفالات ، ويقال أنه قد تنازل له الخليفة العباسي محمد المتوكل على الله عن الخلافة ، وسلمه مفاتيح الحرمين الشريفين ، فأصبح السلطان العثماني منذ ذلك اليوم خليفة للمسلمين ، ولكن الواقع التاريخي يقول : إن السلطان سليم الأول أطلق على نفسه لقب ( خليفة الله في طول الأرض وعرضها ) منذ عام 920هـ 1514م ، أي قبل فتحه للشام ومصر وإعلان الحجاز خضوعه لأل عثمان. والحق أن صدق العثمانيين وجهادهم وكونهم مقصد المسلمين الذين يتطلعون لمساعدتهم من هجوم البرتغال هو الذي أكسبهم هذه المكانة ، ولم يكن السلطان سليم مهتماً بلقب الخلافة وكذلك سلاطين آل عثمان من بعده وأن الاهتمام قد عاد بعد ضعف الدولة العثمانية .
رابعاً : خضوع الحجاز للعثمانيين :
كما جاءه محمد أبو نمي بن الشريف بركات شريف مكة، وأعلن له الطاعة.
وسافر الخليفة العثماني من مصر متجهاً نحو الأناضول عن طريق الشام ، وقد عين حاكماً على مصر خير بك ، وترك عنده حامية من الانكشارية ، واصطحب معه الخليفة العباسي المتنازل أو المخلوع ، ومر على دمشق ، وأقام فيها مدة ، بنى خلالها الجامع على ضريح محيي الدين بن العربي ، ومر على حلب وأقام بها شهرين ، ثم سافر إلى أدرنه ، وهناك جاءه سفير أسبانيا من أجل السماح لنصارى الأسبان بزيارة بيت المقدس مقابل مبلغ بدفع له سنوياً ، كما كان الأمر مع المماليك ، وبدأ يستعد لمحاربة الصفويين غير أنه توفي في 9 شوال عام 926.
التاريخ الإٍسلامي لمحمود شاكر 8/99 ، والدولة العثمانية لعلي الصلابي 291