الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين ، وبعد ..
فقد تناولت في مقال سابق حركة المد والجزر داخل الدولة العثمانية ، وبينت كيف حرصت تلك الدولة على أن تظل قوية داخل أوربا رغم إحاطة الأعداء بها من كل جانب ، وإنها ما كانت تتعرض لضربة إلا وتستعيد قوتها بعد تلك الضربة ، وأنها ظلت على تلك الحال حتى وفاة الصدر الأعظم أحمد كوبريلي في 24 رمضان سنة 1087هـ الموافق 30 أكتوبر سنة 1676 م آخر الوزراء العظماء ، والذي قضى خمس عشرة سنة في منصب الصدارة العظمى بكل أمانة وصدق، سائرا في ذلك على خطى والده المرحوم كوبريلي محمد باشا ..
وبانتهاء حياة أحمد كوبريلي انتهت فترة المد والجزر في حياة الدولة العثمانية ، وانتقلت إلى مرحلة يمكن أن تسمى بمرحلة الصراع من أجل البقاء ، حيث ازداد فيها تكالب دول أوربا عليها ، محاولين اقتطاع ما يمكن اقتطاعه منها ، مستغلين في ذلك تمرد الجند الانكشارية بين الحين والحين ، وظهور الروس على الساحة ، حتى صار العثمانيون يجاهدون على الساحتين معا ، ساحة أوربا وعلى رأسها النمسا ، وساحة الروس ..
وبقيت الدولة في صراع عنيف ضدهما ، تفقد اليوم جزءا لتسترده غدا ، ومع إن تحالفات الأعداء كانت أقوى في كثير من الأوقات إلا أن تعاطف الشعوب معها كان غالبا ما يساعدها في استرداد ما تفقده ، فعلى سبيل المثال لما احتل البنادقة منطقة مورا في عهد سليمان الثاني ثار أهلها على البنادقة فطردوهم من ديارهم لتعرضهم لهم في إقامة شعائر مذهبهم الأرثوذكسي ، وإجبارهم على اعتناق المذهب الكاثوليكي ، ودخلوا في حمى الدولة العلية طائعين مختارين لعدم تعرضها لديانتهم مطلقا..
ومن صور هذا الصراع احتلال البرنس أوجين دي سافوا قائد الجيش النمساوي في 25 صفر سنة 1109هـ 12 سبتمبر سنة 1697 م لبلاد البوسنة في نفس الوقت الذي احتل فيه بطرس الأكبر الروسي ميناء ازاق ، ولكن الصدر الأعظم كوبريلي حسين باشا استطاع بعد قليل هزيمة البرنس أوجين واسترجاع بلاد البوسنة ..
وبعد قليل ألزمت الدولة العثمانية الدخول في معاهدة سميت بـ معاهدة كارلوفتس في 24 رجب سنة 1110 هـ 26 يناير سنة 1699م بعد أن تحالف ضدها النمسا وروسيا والبندقية وبولونيا ، فتركت الدولة بمقتضى تلك المعاهدة بلاد المجر بأجمعها وإقليم ترنسلفانيا لدولة النمسا ، وتنازلت عن مدينة ازاق وفرضتها لروسيا ، وردت لمملكة بولونيا مدينة كامينك ، وإقليمي بودوليا واوكروين ، وتنازلت للبندقية من جزيرة مورا إلى نهر هكساميلون وإقليم دلماسيا على البحر الادرياتيكي بأجمعه تقريبا ، واتفقت مع النمسا على مهادنة تمتد خمسا وعشرين سنة ، وأن لا تدفع هي أو غيرها شيئا للدولة العلية على سبيل الجزية أو مجرد الهدية ..
وبعد قليل من تلك المعاهدة المجحفة توجهت جيوش العثمانيين إلى روسيا ـ وتمكنت من حصار قيصرها وخليلته كاترينا في قصره ، ولو استمر عليه الحصار قليلا لأخذ أسيرا هو ومن معه ، ولانمحت الدولة الروسية كلية من العالم السياسي ؛ لكن كاترينا استمالت الوزير بلطه جي محمد باشا إليها , وأعطته كافة ما كان معها من الجواهر الكريمة والمصوغات الثمينة ، فخان الدولة ورفع الحصار عن القيصر وجيشه ؛ مكتفيا بإمضاء القيصر لمعاهدة فلكزن المؤرخة في 9 جمادى الآخرة سنة 1123هـ 25 يوليه سنة 1711 م التي أخلى بمقتضاها مدينة ازاق ، وتعهد فيها بعدم التدخل في شئون القوزاق مطلقا ..
ولا يخفى على كل مطلع له ذرة من العقل أن هذه المزية لم تكن شيئا مذكورا في جانب ما كان يمكن للدولة العثمانية أن تناله من القيصر لو أهلكت جيشه ، واستولت عليه أسيرا ، هكذا يقول الأستاذ محمد فريد ـ رحمه الله ـ .
ثم أجريت معاهدة جديدة سميت بمعاهدة أدرنه في 24 جمادى الأولى سنة 1125 هـ 18 يونيو سنة 1713 م تنازلت روسيا بمقتضاها عما لها من الأراضي على البحر الأسود حتى لم يبق لها عليه موانئ أو ثغور ..
أما على الساحة الأوربية فقد قام علي باشا ( الذي تولى الصدارة في تلك الفترة ، وكان رجلا غيورا على مصالح الدولة ميالا لاسترجاع ما ضاع من أملاكها خصوصا بلاد مورا ) بإعلان الحرب على جمهورية البندقية ، وفي قليل من الزمن استرد ما استلبته من قبل من ممتلكات الدولة العلية ، وكذلك المدن التي كانت باقية للبنادقة بجزيرة كريد ، حتى لم يبق لهم ببلاد اليونان إلا جزيرة كورفو ، ولكن هذا المجد الذي حققه علي باشا لم يدم طويلا ، إذ استعانت البندقية بشارل الثالث إمبراطور النمسا ، فأرسل قواته لمساعدتها ، وانتهى الأمر بهزيمة الوزير علي باشا ، واستشهاده في المعركة ، بعد أن أصر على عدم التراجع منهزما ..
وهكذا قضى الله أن تكون الدولة العثمانية وحدها في الساحة ، أما أعداؤها فمتعددون ، كلما كَلّ عدو أو وهن حل محله آخر ، وكلما انهزمت منهم طائفة ساعدتها أخرى ، وكلهم إصرار على إخراج الإسلام من أوربا .
يقول الأستاذ محمد فريد : ويمكننا القول بأن الاتفاق قد تم من ذلك التاريخ بين جميع الدول إن لم يكن صراحة فضمنا على الوقوف أمام تقدم الدولة العلية أولا ، ثم تقسيم بلادها بينهم شيئا فشيئا ، وهو ما يسمونه في عرف السياسة بالمسألة الشرقية ..
انتهت إذن هزيمة علي باشا في الموقعة التي عرفت باسم " موقعة بترواردين " يوم 5 أغسطس سنة 1716 م بصلح ينص على أن تأخذ النمسا ولاية تمسوار ومدينة بلغراد ، مع جزء عظيم من بلاد الصرب وآخر من بلاد الفلاخ ، وأن تبقى جمهورية البندقية محتلة ثغور شاطئ دلماسيا ، أما بلاد مورا فترجع إلى الدولة العلية..
وأنوه هنا إلى أنه في هذه الأثناء ، أي في النصف الأول من القرن الثامن عشر ، أدخلت المطبعة في بلاد الدولة العثمانية ، وتأسست دار طباعة في الأستانة ، وذلك أبلغ رد على المستغربين في بلادنا الذين يعلمون تلامذتهم أن العالم الإسلامي لم يعرف المطابع إلا بدخول الفرنسيين مصر في بداية القرن التاسع عشر .
ومن يزعمون أن علماء الدين وقفوا ضدها لا يعلمون شيئا ؛ لأن مفتي الدولة لم ير بها بأسا ، فقط رفض أن يطبع بها القرآن الكريم خشية أن تقع به بعض الأخطاء ؛ لأن المطبعة لم تكن بها الإمكانية التي ترسم بها الكلمات بالخط العثماني في هذا الوقت ..
كما أن الدولة رغم متاعبها تلك لم تغفل عن القيام بواجبها في توفير الأمن ، حتى إن السلطان العثماني كان من عادته المرور ليلا في الشوارع والأزقة متنكرا لتفقد أحوال الرعية والوقوف على حقيقة أحوالهم..
كما حرصت على أن تستغل أوقات السلم المحدودة في التفرغ لإجراء الإصلاحات الداخلية ، ومثال على ذلك ما قام به السلطان مصطفى الثالث الذي كان ميالا للإصلاح محبا لتقدم بلاده ، فتعاون هو ووزيره راغب باشا في إصلاح بعض الشئون ، فعهد بإدارة الأوقاف العمومية إلى أحد أغوات السراري قيزار اغاسي ، وأسس مستشفيات للحجر على الواردات الخارجية ، إذ كانت الأوبئة منتشرة في الخارج لعدم تعديها إلى بلاده ، وأنشأ مكتبة عمومية على مصاريفه الخاصة ، وفكر في ابتكار وسيلة جديدة لتسهيل المواصلات داخل المملكة منعا لحصول الغلاء والمجاعات في إحدى الولايات ، وذلك بأن يصل بين نهر دجلة وبوغاز الأستانة بخليج عظيم ، تستعمل الأنهار الطبيعية مجرى له على قدر الإمكان ، فيسهل نقل الأغلال من أطراف المملكة إلى الأستانة ، فيمتنع عنها الغلاء كلية ، وهو مشروع جليل يقدره العارفون حق قدره ، ولو امتد به العمر لأتمه وسبق المسيو دي لسبس إلى ايصال بحر الروم بخليج فارس فالمحيط الهندي، لكنه توفي رحمه الله في 24 رمضان سنة 1176 هـ 8 أبريل سنة 1762 م ولم يجد مشروعه منفذا حتى الآن ..
وأثناء انشغال قيادة الدولة بتلك الإصلاحات سعت كل من النمسا وفرنسا وروسيا ضدها ، ففي سنة 1735 م أبرمت النمسا معاهدة مع فرنسا لتفرغ لمحاربة الدولة العثمانية ، وأخذت في التأهب والاستعداد للاشتراك مع روسيا في محاربة الدولة ، وأوعزت إلى روسيا بافتتاح القتال ، فاتخذت هذه الأخيرة مرور بعض قوزاق القرم من أراضيها في مارس سنة 1736 متجهين إلى بلاد الكرج لمساعدة الدولة ضد الفرس حجة لإعلان الحرب ، وأغارت بكل قواها على بلاد القرم ، واحتلت ميناء آزاق وغيرها من الثغور البحرية ، ولكن الصدر الحاج محمد باشا هيأ جنوده لهم على الفور وتمكن من وقف تقدم الروس الذين كانوا قد احتلوا إقليم البغدان ودخلوا مدينة باسى عاصمة هذا الإقليم ..
وفي نفس الوقت انتصرت جيوشه على جيوش النمسا التي أغارت على بلاد البوسنة والصرب والفلاخ ، وألجئوا النمساويين على الجلاء عنها ، تاركين في كل موضع قدم جثث رجالهم ، وتقهقروا إلى ما وراء نهر الدانوب في سنة 1737 م ..
وهذا يؤكد أن دول أوربا لم تترك للدولة العثمانية أي فرصة لتنهض بنفسها من الداخل ، ويفسر لنا سر التراجع الذي شهدته ممالك الدولة العثمانية والجمود الذي سيطر عليها ، حيث استنفذت الأمور الدفاعية كل قواها ، وصرفتها عن الأخذ بأسباب التقدم في الوقت الذي كان العالم من حولها يتسارع نحو المدنية الحديثة والتطور العلمي بخطى حثيثة .
وبعد الانتصارات التي حققتها جيوش الصدر الحاج محمد باشا على جيوش النمسا طلبت الأخيرة الصلح بواسطة المسيو فلنوف سفير فرنسا ، فقبل التوسط وسار إلى معسكر الصدر الأعظم وعرض عليه الصلح بالنيابة عن النمسا ، فاشترط الصدر شروطا ما كانت لتقبلها النمسا لولا انتصار المسلمين المدوي على جيوشها ، إذ كان من ضمن بنوده أن تتنازل النمسا للدولة العلية عن مدينة بلغراد .. فضلا عما أعطي للدولة العثمانية من بلاد الصرب والفلاخ بمقتضى معاهدة بساروفتس ..
وأما روسيا فتعهدت قيصرتها حنه بهدم قلاع ميناء آزاق وعدم تجديدها في المستقبل ، وبعدم إنشاء سفن حربية أو تجارية بالبحر الأسود أو ببحر آزاق ، بل تكون تجارتها على مراكب أجنبية ، وبأن ترد للدولة كل ما فتحته من الأقاليم والبلدان ، وسميت هذه المعاهدة معاهدة بلغراد ..
وبذلك انتهت هذه الحرب باسترداد جزء عظيم مما فقدته الدولة من ممالكها بمقتضى معاهدة كارلوفتس ..
ولم يكن ذلك هو الصراع الأخير ، وإنما تبعه صراعات وصراعات ؛ مما جعل الدولة العثمانية تعيش تلك الأيام في حالة حرب دائما ، وتركز كل جهودها في هذا الأمر ، مما جرأ ولاة الأقاليم البعيدة في السعي إلى الانفصال عنها وهم واثقون من كونها في شغل شاغل عنها ، وكان أول من فكر في ذلك هو علي بك ( المسمى عند بعض المؤرخين بعلي بك الكبير ) الذي خرج على الدولة ، وأعلن استقلاله بمصر ، ولم يكتف بذلك بل اتصل بالروس ليمدوه بالذخائر والأسلحة ، فساعده القائد الروسي رغبة في إشعال الحروب الداخلية في الدولة ..
وتمكن علي بك هذا بتلك المساعدات الروسية من أخذ مدن غزة ونابلس والقدس ويافا ودمشق ، والجزيرة العربية ( بالإضافة إلى مصر ) وكان يستعد للسير إلى حدود بلاد الأناضول معتمدا على الروس ومساعدتهم لولا أن ثار عليه أحد بكوات المماليك الذين كانوا يدينون بالولاء للدولة العثمانية ، وهو محمد بك الشهير بأبي الذهب ، فعاد علي بك إلى مصر لمحاربته فانهزم علي بك أمامه ..
وبعد أن تحصن في القلعة التجأ إلى الشيخ طاهر الذي كان عاملا على مدينة عكا من قبل الدولة العلية ، واستأثر بها ، واتحد معه على محاربة العثمانيين بالاتحاد مع الروس وتخليص مدينة صيدا التي كانوا يحاصرونها ، فسارا معا إلى هذه المدينة ، والتقيا بالعثمانيين خارجها ، وانتصرا عليهم بمساعدة المراكب الروسية التي كانت ترسل مقذوفاتها على الجيش العثماني ، ثم أطلقت السفن الروسية قنابلها على مدينة بيروت فأخربت منها نحو ثلاثمائة بيت ، وبعد ذلك عاد علي بك إلى مصر في محرم سنة 1187 هـ الموافق أبريل سنة 1773 م لمحاربة محمد بك أبي الذهب ، وانضم إلى جيوشه أربعمائة جندي روسي ، فقابلهم أبو الدهب عند الصالحية بمحافظة الشرقية فانتصر عليهم أبو الدهب ، واستطاع أسر علي بك الخائن وأربعة من ضباط الروس بعد أن قتل كل منكان معهم ، ورجعا إلى مصر ، حيث توفي علي بك بسبب ما أصابه من الجراح ، فقطع رأسه وسلم مع الأربعة ضباط الروسيين إلى الوالي العثماني خليل باشا ..
وانتهت حركة علي بك بالقضاء عليه ؛ ولكنها نبهت كثيرا من الولاة إلى إمكانية السعي للخروج على الدولة ، كما نبهت أعداءها الذين لم يفلحوا في النيل منها خلال القرون التي مرت إلى إمكانية القضاء على الدولة العثمانية أو على الأقل إنهاك قوتها باستغلال هؤلاء الأمراء ، وبذلك دخل في حلبة صراع الدولة من أجل البقاء عدو جديد هو هؤلاء الأمراء أصحاب الأهواء ، لتصارع أوربا في الغرب وروسيا في الشرق ، وتمرد الانكشارية داخلها ، وهؤلاء الأمراء على حدودها .
والأخطر في الأمر أن الدولة العثمانية اضطرت لأن تقدم لروسيا تنازلات ما كانت لتقدمها لأحد وهي في أشد الأزمات ، من بينها :
ـ استقلال تتار القرم وبسارابيا وقوبان مع حفظ سيادة الدولة العلية فيما يتعلق بالأمور الدينية ، مع إن هؤلاء كانوا مسلمين ، ولا صلة لروسيا بهم فتدافع عنهم ، إلا أن تمهد لابتلاعهم بعد فصلهم عن الدولة العثمانية ، وهذا ما حدث بالفعل بعد ذلك ، يقول الأستاذ محمد فريد : أما روسيا فأخذت تبث رجالها في بلاد القرم لإيجاد المشاغب الداخلية بها ، وبالتالي لابتلاعها وضمها إلى أملاكها ، حيث لم يكن قصدها من استقلالها السياسي وقطع روابط تبعيتها للدولة إلا الوصول لهذه الغاية ..
ـ وأن يكون للمراكب الروسية حرية الملاحة في البحر الأسود والبحر المتوسط ، وأن تبني روسيا كنيسة بقسم بيرا بالأستانة ، ويكون لها حق حماية جميع المسيحيين التابعين للمذهب الأرثوذكسي من رعايا الدولة .
ـ أن تدفع إلى روسيا مبلغ خمسة عشر ألف كيسة بصفة غرامة حربية على ثلاثة أقساط متساوية في أول يناير سنة 1775 وسنة 1776 وسنة 1777 ..
وكان أخطر ما فيها موافقة الدولة على أن تكون روسيا مسئولة عن حماية المسيحيين داخل ممتلكات الدولة العثمانية ، وأن لسفرائها الحق في الاتصال بالكنائس ، وقد وافقت الدولة على هذا الطلب الذي كان فيه حتفها ، وكانت تحسب أولا أنها ما دامت تحسن معاملة المسيحيين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى فإن ذلك سيكون مجرد منحة تقدم للروس ، وما درت أن ذلك سيكون وسيلة للاتصال بالمسيحيين وتحريضهم على الخروج عليها ، واشتعال ثوراتهم في كل مكان ، بعد أن كانوا آمنين خلال القرون الماضية .
وفي الوقت الذي كانت فيه روسيا تجري المعاهدات بينها وبين الدولة العثمانية كانت الاتصالات السرية تجري بينها وبين النمسا بهدف :
محاربة الدولة العثمانية ، والعمل على إنشاء حكومة مستقلة عنها تكون حاجزا بينهما وبين الدولة ، ومكونة من الفلاخ والبغدان وإقليم بساربيا ، يكون اسمها مملكة داسي ، ويعين لها ملك من المذهب الأرثوذكسي ، وبأن تأخذ روسيا ميناء اوتشاكوف التي تسمى في كتب الترك بمدينة اوزي وبعض جزائر الروم ، وتأخذ النمسا بلاد الصرب وبوسنه وهرسك من أملاك الدولة ، وبلاد دلماسيا من أملاك البندقية ، وتعطيها عوضا عن ذلك بلاد مورا وجزيرتي كريد وقبرص ، وأن تعطي باقي دول أوروبا أجزاء أخرى يتفق عليها فيما بعد ..
أما إن أتيح لهم النصر ، ودخلوا مدينة الأستانة فيعيدون مملكة بيزنطة كما كانت قبل الفتح العثماني ، ويعين الغراندوق الروسي قسطنطين بن بولص ملكا عليها بشرط أن يتنازل عن حقوقه في مملكة روسيا حتى لا يتفق وجود المملكتين الروسية والبيزانطية الوهمية في قبضة ملك واحد ..
ورأت النمسا أن روسيا حققت بالمعاهدات السلمية ما لم تحققه بالسيف فأقبلت هي الأخرى في إتمام معاهدة مع الدولة العثمانية من نظر فيها على عجل أحس أنها في صالح العثمانيين ؛ بسبب ما قدمته من تنازل عن البلاد التي اغتصبتها ، ولكن من دقق فيها علم أنها كانت قيدا آخر يلتف حول رقبة الدولة العثمانية ، وأن البلاد التي تنازلت عنها لم تتنازل عنها إلا لأنها أحست أنها ستكون عبئا عليها ، وأن أهلها لن يرضوا بها مما يسهل عودها إلى العثمانيين بقوة السلاح .
وإليك بعض ما تضمنته تلك المعاهدة :
ـ سيكون الصلح من الآن بين الدولة العلية وإمبراطور النمسا صلحا أبديا برا وبحرا بينهما وبين متبوعيهما ، ومن يكون لهما حق السيادة عليهم ، ويكون الاتحاد بينهما في غاية الإحكام ، ويمنع كل من الطرفين حصول التعدي والإهانة على الآخر ، ويعفو عمن اشترك في الحرب من رعايا أحد الطرفين ضد الآخر ، وعلى الأخص جميع صنوف أهالي الجبل الأسود والبوسنة والصرب والأفلاق والبغدان ، بحيث يكون لهم الحق بمقتضى هذا العفو العمومي في الرجوع إلى أوطانهم والتمتع بجميع أملاكهم وحقوقهم أيا كانت بدون أن يسألوا أو يحاكموا أو يعاقبوا على عصيانهم ضد ملكهم صاحب السيادة عليهم الخليفة الأعظم أو لإظهار ولائهم للحكومة الإمبراطورية الملوكية النمسا.
ـ يتخذ كل من الطرفين العاليين المتعاقدين ما كانت عليه الحالة العمومية قبل إشهار الحرب في 9 فبراير سنة 1788 أساسا للمعاهدة الحالية ، ولذلك فإنهما يجددان ويؤيدان بتمامها مع مراعاة معناها ومبناها بغاية الضبط والدقة بدون أدنى تغيير ، وهذه بالطبع كانت عبارة عن مزايا للنمسا ..
ـ أن الباب العالي يجدد ويؤيد بالصفة المشروعة أعلاه الاتفاق الرقيم 8 أغسطس سنة 1783 الذي تعهدت الدولة العلية بمقتضاه بحماية جميع المراكب الألمانية التجارية المختصة بأحد ثغور ألمانيا من تعديات قراصين بلاد المغرب وباقي رعايا الدولة ، وأن تعوض على أصحابها كل ما يعود عليهم من الضرر ، مما يعني قيام الدولة العثمانية بدور الشرطي الحامي للغرب ، وضد القراصنة المسلمين المغاربة الذين كانوا في الأصل خارج رعاية الدولة العلية ، وكانت قرصنتهم في الأصل رد فعل على ما يقوم به القراصنة الغرب ، ولم يسبق للدولة العثمانية أيام مجدها أن اعترضت عليه ، بل أحيانا كانوا يعدونه جهادا .
ـ يجدد الاتفاق الرقيم 24 فبراير سنة 1784 الخاص بمنح تجار الحكومة الإمبراطورية الملوكية حرية التجارة والملاحة في جميع بلاد الدولة وبحارها وأنهارها وفرمان 4 ديسمبر 1788 الخاص بمرور وإقامة وعودة الماشية ورعاتها من إقليم ترنسلفانيا إلى ولايتي الأفلاق والبغدان وجميع الفرمانات والاتفاقيات واللوائح الوزارية التي كانت معتبرة لدى الطرفين ومعمولا بها قبل 9 فبراير سنة 1788 لوجود الراحة واستتباب الأمن على الحدود والخاصة بصالح وراحة وفائدة رعايا النمسا وتجارتها وملاحتها بحيث إن جميع هذه الاتفاقات والفرمانات واللوائح يكون معمولا بها كما لو كانت منسوخة حرفيا في هذه المعاهدة ..
ـ تتعهد بأن ترد إلى الباب العالي العثماني جميع ما احتلته من الأقاليم والأراضي والمدن والقلاع والحصون التي احتلتها جيوش الإمبراطور أثناء هذه الحرب بما فيها إمارة الافلاق والأجزاء المحتلة من بلاد البغدان ؛ حتى تعود الحالة وحدود المملكتين إلى ما كانت عليه يوم 9 فبراير سنة 1788 ولمقابلة تساهل الباب العالي وإجراءاته المبنية على المحبة والعدالة بمثلها .