خلف سورها تقف شواهد كثيرة تنطق بتفردها ، إنها قلعة صلاح الدين التي تضم مسجد المرمر وبئر يوسف وقصر الحريم, وسطورا من التاريخ العربي.
شيدها صلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة الأيوبية التي حكمت مصر وفلسطين وسوريا, لتكون الرباط الذي يربط كبرى مدن العاصمة المصرية القاهرة والفسطاط اللتين أحاطهما بسور واحد هي بمنزلة قلبه النابض, لكن القدر لم يمهله لكي يرى مشروعه الدفاعي عن مصر ضد أي هجمة صليبية وقد اكتمل على يد قراقوش, أول من أقام فيها هو ابن أخيه الكامل, شهدت أحداثا تاريخية دامية, فيها توج سلاطين وذبح آخرون, ومنها انطلقت الجيوش لتحرير بلاد الشام من الصليبيين ولفتح قبرص وغيرها, شهدت سقوط دولة المماليك وسيطرة العثمانيين على مصر, وقيام دولة محمد علي, هذه هي قلعة صلاح الدين في القاهرة لم تكشف أسرارها إلى اليوم, بالرغم من أنها تضم كنوزا وتحفا لا يوجد مثيل لها في أي قلعة في العالم.
تقع القلعة على ربوة صخرية من جبل المقطم, قام بالإشراف على بنائها بهاء الدين قراقوش الذي أمر بفصل هذه الربوة عن جبل المقطم لتكون وحدة منعزلة حصينة ، قسمت القلعة إلى قسمين رئيسيين, القسم الشمالي كحامية عسكرية, تحيطه أسوار في الاتجاهين الشمالي والشرقي, تم بناؤها في عهد صلاح الدين الأيوبي وعهد أخيه الملك العادل, وهي تضم أبراجاً مستديرة ومربعة, الأولى بنيت في عهد صلاح الدين والثانية بناها العادل, أما القسم الجنوبي الغربي من القلعة فقد خصص لقصر الحكم ومقراً لإقامة الوالي.
ولعلنا نتساءل الآن, ماذا بقي من هذه القلعة التاريخية? من المشاهد أن القسم الجنوبي لا أثر له سوى بئر يوسف, وذلك العمل الهندسي الرائع, أما القصر وغيره من الملحقات فلا وجود له ، وكشف أخيرا عن القاعة الأشرفية وإيوان العرش بهذا القسم.
أما القسم الشمالي فما زالت هناك بعض الأبراج والأسوار المحيطة بالقلعة, ومن هذه الأبراج برج المقطم, وهو برج ضخم ومستدير يرتفع عن باقي أبراج القلعة, كان يعرف ببرج القلة ، وفيه كان يجلس والي القلعة, والقلة مكان مرتفع يمكن منه مراقبة كل أقسام القلعة, هذا هو سر اتخاذه مقرا لوالي القلعة, وإلى جواره برج الصفة وهو ذو مبنى مربع ويتكون من طابقين, كما أنه يشتهر بأقبيته وفتحات رمي السهام.
يمثل هذا البرج نموذجا فريدا في عمارة الأبراج الحربية ، ويتسم في الداخل بالمهابة والضخامة.
تتابع الأبراج على طول أسوار القلعة, لكن برج المطار هو أكثر الأبراج إثارة, حيث استخدم البرج لاستقبال وإرسال الحمام الزاجل محملاً بالبريد إلى كل أنحاء مصر وبلاد الشام والعودة بالبريد القادم ، يعد برجا الرملة والحداد أكبر أبراج القلعة ويشكلان مقدمتها, ومنهما يتم رصد أي تحركات تجاه القلعة والتعامل معها.
أبواب القلعة :
الزائر للقلعة اليوم يدخلها عن طريق بابين, الأول على طريق صلاح سالم ، ويعرف بباب الجبل ، وتم بناؤه مع الزيادة التي أضافها الناصر محمد بن قلاوون للقلعة في عصر المماليك البحرية, أما الباب الثاني فيصعد إليه من ميدان القلعة ، ويعرف بالباب الجديد, وهو يخفي بينه وبين أسوار القلعة باب القلعة الأصلي الذي أطلق عليه الباب المدرج ، وذلك لتعدد الدرجات المؤدية إليه ، والتي حفرت في الصخر, كما يمكن الوصول للباب عن طريق درب حفر في الصخر يؤدي إلى باب الغرب, هذا الدرب حدثت به مذبحة المماليك سنة 1811, عندما حاصر جنود الوالي محمد علي باشا أمراء المماليك وأتباعهم بعد خروجهم من مقابلة محمد علي باشا وأبادوهم عن آخرهم.
تقسم القلعة إلى نطاقات, أكبرها النطاق الشمالي وهو القسم العسكري، خصص هذا المكان لإقامة الجند وتدريبهم وإعدادهم للحاق بالجيش، عثر في هذا القسم في أثناء حفائر أجريت في عقد الثمانينيات من القرن العشرين على بقايا ثكنات الجند, أما أروع الآثار الباقية به فهو مسجد السليمانية, وهو أول جامع عثماني في مصر, بمخططه ذي القبة المركزية وأنصاف القباب حولها.
أسس هذا الجامع سليمان باشا الخادم والي مصر سنة 1528م في عهد السلطان سليمان القانوني.
أما الأثر الثاني في هذا النطاق فهو قصور الحريم , وهي تتكون من ثلاثة قصور بنيت بشكل منفصل عن بعضها, لكنها تتحد في الطابق الأرضي, أقدمها القصر الأوسط أو الوسطاني , ثم القصر الشرقي , ثم القصر الغربي , عرفت هذه القصور بطريق الخطأ بقصور الحريم, حيث إنها خصصت لكثير من الأغراض , ومنها إسكان اليتامى من عائلة محمد علي باشا وأمراء المماليك, اليوم تضم هذه القصور المتحف الحربي المصري , وهو يحكي قصة العسكرية المصرية من العصر الفرعوني إلى يومنا هذا في عرض شائق , ينسي زائرها تاريخها وعمارتها الرائعة التي تعكس أسلوب العمارة العثماني , والتي تأثرت بالعمارة الأوربية وأسلوب الباروك.
وإلى جوار قصور الحريم يوجد القصر الأحمر الذي شيد في الأصل ليكون مقرا لكلية أو مدرسة لتدريس الهندسة , ثم تحول ليكون مقرا للكلية الحربية إلى أن تم نقلها إلى صحراء العباسية .
أحيت وزارة الثقافة هذا النطاق من خلال إقامة محكى تقام به مهرجانات فنية سنوية, وهو ما أضاف للقلعة درجة من الحيوية المستمرة.
أما النطاق الثاني للقلعة, فهو النطاق السلطاني, الذي شهد أوج ازدهاره في العصر المملوكي البحري.
أبرز ما تم اكتشافه في هذا النطاق خلال السنوات الماضية الإيوان الناصري, الذي كان مقرا لعرش الولاة من العصر المملوكي, وقد شيده السلطان الناصر محمد بن قلاوون سنة 1334م , كانت تعلوه قبة خضراء كبيرة تتوسط القاعة الرئيسية ,والتي كانت تقدمها بائكة من خمسة عقود , تطل على الساحة الرئيسية للقلعة.
يواجه الإيوان الناصري المسجد الجامع للقلعة الذي يعود تجديده لعصر الناصر محمد بن قلاوون, المسجد يعد من أكثر المساجد مهابة وجمالاً وبناؤه مربع تقريباً بأعمدة مبنية من الحجارة ذات اللونين الأحمر والأبيض بالتناوب, يتوسط المسجد فناء تحيط به أربعة أروقة, للمسجد ثلاثة مداخل ومئذنتان عليهما زخارف ببلاطات القاشاني على النسق المستخدم في عمائر آسيا الوسطى.
كذلك يضم النطاق الوسطاني مسجد محمد علي, وهو الأثر الأكثر شهرة ومحطا لعيون الزائرين, أطلق عليه اسم مسجد المرمر , وذلك بسبب كسوته بهذا الرخام النفيس الشاحب اللون, أسفل هذا المسجد القصر الأبلق الذي كان سكنا لسلاطين المماليك, قام بتصميم هذا المسجد مهندس من البوسنة يدعى يوسف بوشناق, بدأ العمل في بنائه سنة1830 اعتمد تصميم المسجد على قبة مركزية كسقف للمسجد, ترتفع إلى علو قدره 52 متراً, حواها أربعة أنصاف قباب كسيت جميعها من الخارج برقائق من معدن الرصاص ، وزخرفت من الداخل بزخارف الروكوكو والباروك.
أما الفناء الملحق بالمصلى فيتكون من ثلاثة أروقة ذات أعمدة وعقود, يتوسط الفناء ميضأة يعلوها قبة خشبية، وفي منتصف الضلع الغربي من الفناء توجد الساعة التي أهداها الإمبراطور الفرنسي لمحمد علي باشا مقابل المسلة الفرعونية التي تزين ساحة الكونكورد في العاصمة الفرنسية باريس.
إن أبرع ما يقف المرء أمامه مندهشاً مبهوراً هو ذلك الإعجاز الهندسي بالقلعة, ألا وهو بئر يوسف, وهو أحد الآثار الباقية من العصر الأيوبي, وهو بئر عجيب في هندسته, نادر في عمارته, يبلغ عمقه 90 متراً منها 85 متراً حفرت في الصخر, تتكون البئر من مقطعين ليسا على استقامة واحدة إلا أنهما يتساويان في العمق تقريباً, من أجل ذلك سمي هذا الأثر بئرين في كتابات بعض المؤرخين، تبلغ مساحة مقطع البئر السفلية 2.3 متر مربع, في حين تبلغ مساحة مقطع البئر العلوية خمسة أمتار مربعة، وذلك للحاجة إلى تأمين ممر إلى البئر السفلية ، يسمح بنزول الثيران اللازمة لإدارة الساقية المثبتة على البئر السفلية ، وذلك لجلب الماء من عمقها إلى مستوى البئر العلوية, ويقوم زوج آخر من الثيران بإدارة ساقية ثانية مثبتة على البئر العلوية لرفع الماء من منسوب الساقية الأولى إلى سطح الأرض.
لعل أكثر الشواهد إثارة للدهشة في تصميم وتنفيذ البئر العلوية, هو رقة الجدار الحجري الفاصل بين مهوى البئر وممر الثيران المنحدر إلى أسفل والذي بلغت سماكته في بعض الأماكن عشرين سنتيمتراً.
والعامة ينسبون هذه البئر إلى النبي يوسف عليه السلام, لكن الأدلة التاريخية تؤكد أن البئر حفرت في عهد الناصر صلاح الدين واسمه الكامل صلاح الدين يوسف الأيوبي، وبمرور الوقت نسي اسم صلاح الدين وبقي اسم يوسف, الذي مهّد لرسم قصص أسطورية من الخيال الشعبي حول البئر.
أما النطاق الثالث من القلعة فيعرف لدى خبراء الآثار باسم حوش الباشا، ولقد أضيف هذا النطاق إلى القلعة في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون لاستخدامه كحديقة للطيور والحيوانات, وتغير استخدامه لأغراض كانت للنطاق السلطاني من قبل, إلى أن أنيطت به جميع وظائف وأغراض النطاق السلطاني في عهد المماليك الجراكسة والعثمانيين.
شيد بهذا النطاق مقعد في عهد السلطان قايتباي، وألحقت به قاعة للإقامة عرفت باسم قاعة البحرة, التي شيّد في موقعها كشك للإقامة باسم قصر الجوهرة أو القصر في عهد محمد علي باشا، كذلك شيد السلطان الغوري مقعداً في هذا النطاق, مازالت بعض أجزائه باقية اليوم فيما يعرف بديوان كتخدا, والذي أصبح أول مقر لمجلس النواب المصري, في عهد محمد علي باشا وحتى عهد إسماعيل, بعدها انتقل المجلس إلى مقره الحالي، كذلك وجد في هذا النطاق بقايا دار سك النقود المصرية في عهد العثمانيين .
ومن الجدير بالذكر أن تسمية هذا النطاق بحوش الباشا, ترجع إلى كون المكان مقر الباشوات في مصر في العهد العثماني.
أما النطاق الرابع فيعرف حالياً بباب العزب, وهم طائفة من الجنود العثمانيين سكنت هذا النطاق في عهد العثمانيين, ولقد تم تجديد هذا النطاق الذي عرف في عهد المماليك, باسم باب الإسطبل, أو باب السلسلة, كما جدد الباب في عهد العثمانيين على يد رضوان كتخدا الجلفي أحد زعماء طائفة العزب, ومنذ ذلك عرف بباب العزب, ويضم هذا النطاق مسجدا يطلق عليه مسجد العزب, وهو ذو مئذنة قمتها مدببة, كان نطاق العزب مقراً للإسطبلات السلطانية في عهد الأيوبيين والمماليك, كما كان به مقعد سلطاني شهد العديد من الأحداث السياسية، يضم النطاق اليوم بقايا المصانع الحربية التي شيدها محمد علي باشا وأبرزها مصنع المدافع، كما يضم النطاق الدرب السلطاني الصاعد وباب الأربعين.
هذه صفحات منسية من تاريخ حصن حصون الإسلام قلعة الناصر صلاح الدين ، والتي عاصرت أكثر من عهد ودولة ، وكانت ومازالت تحوي في باطنها العديد من الأسرار والكثير منها مازلنا لا نعرفه.
المصدر : مجلة العربي الكويتية