لا يختلف أحد مع نفسه أن العصر الذي نعيش فيه عصر طغيان المادة واستحكام أمرهاوسيطرة نوازعها الطيبة والخبيثة على تقاليد الحياة وقوانينها ، ونعنى بالمادةتغليب البدن على الروح ٬ وتغليب الدنيا على الآخرة ، أو بتعبير أصرح جحود ما وراءعالمنا المحسوس من حياة أخرى في يومنا القريب أو في غدنا البعيد ٬ وإطراح الأديان باعتبارها أفكارا تبدي وتعيد حول هذه المعاني...!
وإن كان لا بأس من قبول الأديان ٬من حيث كونها وصايا خلقية ٬ ونصائح شخصية ٬ ومسكنات اجتماعية!!. أما الإيمان باللهإيمانا ينطوي على الجد والتوقير والملاحظة ٬ ويرتقي إلى مصاف المسائل التي تهتم بهاالدول ٬ وتعقد لها المؤتمرات ٬ على نحو ما نسمع به ونقرأ عنه فلا.. وأما الإيمانباليوم الآخر إيمانا يقذف في النفوس أن العمران البشري إلى انقراض ٬ وأن النشاطالإنساني منقلب لا محالة يوما إلى حساب دقيق ٬ ونقد عميق ٬ كما يقول الشاعر:
فإنككالليل الذي هو مدركي **وإن خلت أن المنتأى عنك واسع!
فهذا أيضا لا يكترث العالم به، ولا يستعد له ، بل لعله شيء يهزأ به ، ويسخر من أصحابه.
والأديان برغم ما يزعم لهامن منزلة تقليدية أقصيت تماما عن مراكز التوجيه الأعلى للإنسان ، والدنيا الآن تسيربقوة جارفة إلى غير غاية ٬ وهى مشغولة أعظم الشغل بالوقود الذي تستهلكه في هذاالسير من غذاء ٬ وكساء ٬ ومتاع ٬ وشهوة ٬ وذهب وفضة ٬ وما يستتبعه الحصول على هذاالوقود ٬ من خصام وسلام ٬ واغتيال واحتيال ٬ وانقسام وانسجام.
وهذا هو عمل الدول قديما وحديثا في عصبة الأمم ومجلس الأمن ، وقد سخر العلمتسخيرا ناجحا في هذه الآفاق كلها ، ويوشك أن تأخذ الأرض زخرفها وتزدان ٬ ويظن أهلهاأنهم قادرون عليها.. ثم ماذا بعد ذلك؟. إن الأفئدة لما فرغت من الإيمان باللهواليوم الأخر ٬ امتلأت إيمانا بأمور أخرى ٬ اختلقتها اختلاقا ، فالحقيقة كما يقولالعلامة ‘هارى أرسون ‘ في كتابه كيف تكون رجلا حقا؟: ‘.. إنه ما من إنسان يستطيع أنيكون غير مؤمن ٬ فقد ر كب الإنسان من الناحية النفسانية بحيث أصبح مضطرا إلىالإيمان بالله أو بغيره!. ومتى مات الإيمان الإيجابي ٬ فإن الإيمان السلبي يحلمحله ، يتعلق بالمستحيلات أكثر من الممكنات ٬ وبالآراء التي تجعل منا ضحايا للحياة ٬لا سادة لها ٬ وبالفلسفات التي تدفعنا إلى مثل الحالة النفسية التي كان ‘ رابليه ‘ يجود فيها بأنفاسه وهو يقول: اسدلوا الستار ٬ فقد انتهى تمثيل المهزلة.
وهذا صحيح ٬ فالإنسان إن لم يعبد الله عبد غيره ٬ ولن يتحرر البتة من العبودية" إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا " وفى التدليل على هذه الحقيقة يذكرالمؤلف أن صديقا لـ ‘ برجنيف ‘ كتب إليه يوما لشيء : " يبدو لي أن وضع الإنسان نفسهفي المحل الثاني هو كل مغزى الحياة ، فأجابه قائلا : يبدو لي أن اهتداء المرء إلى مايقدمه على نفسه ويضعه في المحل الأول هو كل مشكلة الحياة.. فالذي يقدمه الإنسانعلى نفسه كائنا ما كان هو ما يؤمن به ، ومتى بذل الإنسان إيمانه من قلبه ٬ فقد شدزناد النشاط الإنساني ‘ ا. هـ.
ونحن نأسف لأن الأجيال الحاضرة ضلت سبيل الإيمان الصحيح ٬ واستنفدت قواها فيباطل بعد باطل ، كما نأسف لأنها لما عجزت عن التسامي بالغرائز السفلى استنامت لها٬وهامت فيها ٬ وقررت إطلاق زمامها لتعربد كيف تشاء.
وعندي أن هذا الارتكاسالروحاني يفوت ثمرات التقدم العلمي كلها ٬ فخير للناس أن يمشوا على الأرض وهمأطهار من أن يطيروا في الجو وهم لصوص ، وخير للأرض أن تكون معابد مضاءة بالشموع ٬من أن تكون مراقص مضاءة بالكهرباء ، على أي أنقاض قامت المادية الحديثة: إن الماديةالقائمة على نوازع الأثرة وقوانين المنفعة ٬ وانتهاز اللذائذ واشترائها بأي ثمن ٬قد كسبت المعركة ضد الأديان ٬ دون أن تجد أمامها مقاومة تذكر.
ونعنى بالأديان ماكان له أصل محترم من وحى السماء ، أما ما يسود الهند والصين واليابان وغيرها منوثنيات أخذت سمت الدين وصيغته ٬ فهي أفكار وعواطف أرضية ٬ لا مكان هنا لمحاسبتها. وإنما نعرض لليهودية والمسيحية.. ثم نتكلم عن الإسلام.
ولما كان التقدم العلمي والاتجاه المادي قد طفر طفرته الكبرى في الغرب ٬ حيثتوجد اليهودية وتسود المسيحية ، ولما كان الإسلام في هذه الفترة محسورا في بلاده ٬بين همل لا يدركون شيئا ٬ ولا يحسنون عملا ٬ بل كان شائه الحقائق ٬ طامس المعالم ، راكد التيار.. فقد انفردت المادية بالديانتين القديمتين فافترستهما ٬ ونظرت في شرقالأرض وغربها فلم تسمع صوتا يتحداها ، فظنت أن الأمر قد استتب لها ، ولم تحسب فيالإسلام قوة يستطيع بها البقاء ٬ بله زيادة من قوة يستطيع بها المغالبة والنجاح ، إذكانت جماهير المسلمين أشبه بالغيوم الكثيفة حول شمس الإسلام تميت شعاعه ، وتردنهاره ظلاما طويلا