لفظ الحضارة في مفهومه الحديث، ومفهومه العالمي المعاصر، قد أصبح أكثر اتساعا، مما كان يدل عليه في مفهومه اللغوي التقليدي.. وإذا كان أصل الحضارة : الإقامة في الحضر فإن المعاجم اللغوية الحديثة ، ترى أن الحضارة هي : الرقي العلمي ، والفني ، والأدبي ، والاجتماعي ، والاقتصادي في الحضر..
وبعبارة أخرى أكثر شمولا ، هي : الحصيلة الشاملة للمدنية ، والثقافية ، والفكر ، ومجموع الحياة ، في أنماطها المادية والمعنوية..
ولهذا كانت الحضارة هي : الخطة العريضة – كماً وكيفاً - التي يسير فيها تاريخ كل أمة من الأمم ، ومنها الحضارات القديمة ، والحضارات الحديثة والمعاصرة.. ومنها الأطوار الحضارية الكبرى التي تصور انتقال الإنسان أو الجماعات من مرحلة إلى مرحلة..
ولئن كان الإسلام قد امتاز بأنه دين الحضارة الإنسانية فإن الواقع يبين للباحث والمفكر والدارس أن الحضارة الإسلامية استمدت كل مقوماتها، وعناصر وجودها، وأسباب نمائها وازدهارها، من الإسلام ذاته..
والإسلام كان ولا يزال دين الحضارة والإنسانية ، بمعنى أنه كان منذ نزوله دين عبادة ، ودين معاملة ، وأنه أنشأ لونا من الحضارة ، عرف باسمه ، وهو الحضارة الإسلامية.. لهذا نجد أن المستشرقين مدفوعين بدوافع شتى ، قد ظلموا الحضارة الإسلامية حينما أطلقوا عليها في مؤلفاتهم وكتاباتهم : الحضارة العربية أو حضارة العرب ، وهذا يدل على الجهل والتجاهل، لأن حضارة عربية بدون إسلام لم تقم..
وقد قامت الحضارة الإسلامية على دعائم أساسية ، جعلت منها حضارة عالمية متميزة وفريدة من تاريخ البشرية.. ومن ذلك..
أولا: أن الإسلام قد انطوى على طاقة روحية جعلت منه قوة فاعلة ، والشيء المهم في هذه القوة الفاعلة أنها كانت أصلا جذريا يمس كل الأوضاع في حياة الناس.
ثانيا : أن الإسلام كان دين دعوة.. وفكرة الدعوة في الإسلام قد واتتها ظروف الانتشار في النطاق العالمي ، وفي ظلال الدعوة المستمرة تمكن الإسلام من نشر طابعه الحضاري كعقيدة للحياة ، وأن يصبح في أقل من ربع قرن مقوما أساسيا من مقومات الحضارة الإنسانية..
ثالثا : كان الإسلام دينا سهلا غير معقد ، ولا مركب في عقيدته ، وكان في الوقت ذاته دينا مباشرا، يتصل فيه الإنسان بخالقه دون وساطة : "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ "، " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ " ولا نجد عقيدة تطلب من الإنسان شهادة أبسط من شهادة الإسلام ، على عمقها وعظمتها: ((لا إله إلا الله محمد رسول الله)) عبارة سهلة رائقة نظيفة ، تقف بالعاقل على عتبة الدخول في الإسلام ، موقفا سهلاً.
والمقوم الأصيل في هذه البساطة أن القرآن الكريم هو الوعاء الأساسي للعقيدة كلها.
رابعا : كان الإسلام دينا رحبا يدعو إلى سبيل العقل ، في حدود أصول العقيدة ، كما يدعو إلى سبيل الضمير، والحق.. ومن هنا كانت الدعوة إلى النظر، وإلى المعرفة ، أساسا من أسس الدعوة الإسلامية ، وكان التفتح البصير مفتاح الدعوة للحضارة..
والإسلام في رحابته الحضارية استطاع أن يمتص ألوان الحضارات في البلاد التي أوقد فيها قناديل الضياء ، وأن يسبغ عليها طابعاً إسلاميا شاملا..
خامسا: البيئة بعواملها المحلية، وموقعها الجغرافي، قد ساعدت على إعطاء الحضارة الإسلامية ما كان لها من طابع ومن مكانة.. ولقد كانت الجزيرة العربية ذاتها منطقة وصل بين أطراف العالم، عند ملتقى القارات الثلاث في العالم القديم ((أسيا وأفريقيا وأوربا)).. ومن شواطئ الجزيرة العربية تمتد بحار الشمال بادئة بالبحر الأبيض المتوسط ، وبحار الجنوب بادئة بالبحر الأحمر والخليج الإسلامي (1) ..
وقد كان عدم اتصال المياه بين الشمال والجنوب سببا في أن شبه الجزيرة العربية كانت نقطة تغيير في وسائل المواصلات، وفي ظهور الوساطة التي كتب للمسلمين أن يقوموا بها..
ولم يكن الأمر بالطبع مجرد التوسط الجغرافي على أهميته ، وإنما كان الأمر أوسع وأعمق ، فهو توسط من ناحية الطبيعة البشرية ، ومن ناحية السلوك الإنساني ، ومن ناحية الاعتدال في كل ما يصل بالمادة ، وهي أمور كلها اتصلت بطبيعة البيئة العربية ، ومن هذه البيئة الوسط انتشر الإسلام شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، بالبر والبحر على السواء..
وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن تستيقظ الجزيرة العربية في القرن الرابع عشر الهجري، الموافق القرن العشرين ميلادي ، والقرن العشرون يعتبر أزهى قرون الحضارة في الغرب ، شاء الله أن تقوم في الجزيرة العربية المملكة السعودية على أساس القرآن الكريم ، لا على أنه المادة الأولى أو الثانية من الدستور ، كما تفعل كثير من الدول التي يقال عنها عربية وإسلامية ، ولكن على أساس أنه هو كل شيء، في التعليم ، وفي التوجيه ، وفي الحكم ، وفي السياسة ، وفي الثقافة ، وفي جميع نواحي الحياة..
وقد قامت في السعودية نهضة علمية وثقافية جبارة جعلت الجامعات تعمل في إعداد كامل لمؤتمرات إسلامية جامعة ، مثل مؤتمر الفقه الإسلامي ، ومؤتمر العلم والتكنولوجيا، ومؤتمر الاقتصاد ، ومؤتمر الشباب ، ومؤتمر الدعاة ، ومؤتمر المساجد ، ومؤتمر المذيعين ، وصارت الجامعات والكليات ومعاهد العلم تصدر صحفا ومجلات ذات دراسة وعمق ، معدة إعدادا يتفق مع ما وصلت إليه الطباعة من تقدم..
ولا شك أن هذا كله دعامة من دعامات الحضارة الإسلامية القائمة على الإسلام.. حتى لا يأتي إلينا مخرف من الشرق أو من الغرب فيقول : إن حضارة الإسلام قد شاخت وهرمت.. شاء الله أن تظل تجربة الحكم بالقرآن الكريم قائمة في أرض الجزيرة العربية كما كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين..
سادسا: الوسطية التي جاء بها الإسلام ، والوسطية التي جعلت فيها الأمة الإسلامية وشرفها الله بها.. ليست الوسطية المبتدعة في الفكر المستورد الحديث ، فالوسط المبتدع في الفكر العصري وسط عفن ، قام بين تراكمات عفنة من اليمين واليسار ، ولا شك أن اندفاع بعض المجتمعات الإسلامية إلى هذا الوسط العفن ، وما جاء حوله من يمين ويسار، يعد عند الدارسين لتطور الشعوب كارثة فكرية خطيرة ، وردة جاهلية وثنية.. والوسطية الإسلامية وسطية عامة شاملة ، لا تعترف بتقسيم اليمين والوسط واليسار ، بل إنها:
1 - في العقيدة تقوم على توحيد الله وإفراده بالعبادة ، والتمسك بما شرع من آداب السلوك والمعاملة..
2 - وفي التشريع تقوم على أصول رئيسية ، مصدرها الأساسي : القرآن الكريم ، وسنة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام .
3 - وفي الأخلاق تقوم على خلوص النية ، ونقاء الضمير، والتمسك بقيم الخير والحق ، والتزام الآداب الفردية والاجتماعية..
4- وفي الاجتماع تقوم على الأسرة المتماسكة القائمة على ركائز المودة والرحمة والإخلاص والاحترام والتعاون..
5 - وفي السياسة تقوم على الشورى واحترام حقوق الإنسان ، والتزود بكل أسباب القوة ، والدفاع عن العقيدة..
6 ـ وفي الاقتصاد تقوم على تبادل المنافع ، واتخاذ المال وسيلة لا غاية ، واحترام الملكية الفردية..
7 - وفي الثقافة تعتمد على طلب المعرفة، واستخدام العقل في كسب المعارف..
8ـ وفي الفكر تقوم على استنهاض العقول ، وحرية الفكر، واستقلال الإرادة..
سابعا : وبجانب هذا وذاك كانت هناك مقومات تاريخية وبشرية، تتصل بالعصر الذي ظهر فيه الإسلام ، ثم بالعنصر البشري والتكوين السكاني.
فأما عن العصر فقد كان الإسلام ختام الأديان السماوية ، وكان الإسلام بذلك رباطا لها من الناحية التاريخية ، كما كان في الوقت ذاته تصحيحا لها ؛ لما أصابها من تخريف الفلاسفة والوثنيين..
فأي وسطية أسمى من هذه الوسطية التي ارتضاها الله ، وجعلها سمة هذه الأمة الإسلامية ، ذات الحقيقة الكبيرة ، والوظيفة الضخمة في هذه الأرض ، ويقول في ذلك شهيد الأمة الإسلامية سيد قطب: ((إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا ، فتقيم فيهم العدل والقسط ، وتضع لهم الموازين والقيم ، وتبدي فيهم رأيها.. فيكون هو الرأي المعتمد ، وتزن قيمهم ، وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم ، فتفصل في أمرها وتقول : هذا حق منها ، وهذا باطل.. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها ، وهي شهيدة على الناس ، وفي مقام الحكم العدل بينهم ، وبينما هي تشهد على الناس هكذا فإن الرسول هو الذي يشهد عليها ، فيقرر موازينها وقيمها ، ويحكم على أعمالها وتقاليدها ، ويزن ما يصدر عنها ، ويقول فيه الكلمة الأخيرة..
وبهذا تتحقق حقيقة هذه الأمة ووظيفتها ؛ لتعرف وتشعر بضخامتها ؛ ولتقدر دورها حق قدره ، وتستعد له استعدادا لائقا.. وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط ، سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل ، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد ، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي.
"أُمَّةً وَسَطا" في التصور والاعتقاد ، لا تغلو في التجرد الروحي ، ولا في الارتكاس المادي ، إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد ، أو جسد تتلبس به روح ، وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد ، وتعمل لترقية الحياة ورفعها ، في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها ، وتطلق كل نشاط على عالم الأشواق ، وعالم النوازع ، بلا تفريط ولا إفراط ، في قصد وتناسق واعتدال..
"أُمَّةً وَسَطا" في التفكير والشعور، لا تجمد على ما علمت، وتغلق منافذ التجربة والمعرفة ، ولا تتبع كذلك كل ناعق ، وتقلد تقليد القردة المضحك ، إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ، ثم تنظر في كل نتاج الفكر والتجريب.. وشعارها الدائم : الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها أخذها ، في تثبت ويقين..
"أُمَّةً وَسَطا " في التنظيم ، لا تدع الحياة كلها للمشاعر والضمائر ، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب ، إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب ، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب ، وتزاوج بين هذه وتلك ، فلا تكل الناس إلى وسط السلطان ، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان ، ولكن مزاج من هذا وذاك.
"أُمَّةً وَسَطا" في الارتباطات والعلاقات لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته ، ولا تتلاشى شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة ، ولا تطلقه كذلك فرداً أثراً جشعاً ، لا هم له إلا ذاته.. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء ، وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه ، ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو ، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة ، وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة ، والجماعة كافلة للفرد ، في تناسق واتساق..
"أُمَّةً وَسَطا" في المكان ، في سرة الأرض ، وفي أوسط بقاعها ، وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة.. هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب ، وجنوب وشمال ، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا ، وتشهد على الناس جميعا ، وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة ، وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر ، من هنا إلى هناك ، وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء..
"أُمَّةً وَسَطا" في الزمان ، تنهي عهد الطفولة البشرية من قبلها ، وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها ، وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات في عهد طفولتها ، وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى ، وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات ، ورصيدها العقلي المستمر في النماء، وتسير بها على الصراط السوي بين هذا وذاك)).
فالأمة الإسلامية ليست بحاجة إلى الأحزاب التي أوجدها ورعاها التبشير الصليبي.. وليست في حاجة إلى التقدمية والثورية واليمين والوسط واليسار.. وليست في حاجة إلى اشتراكية المنحرفين ، من سماسرة الشيوعية والدجل الفكري ، وليست في حاجة إلى تعدد المنابر ، واستيراد ما هب ودب.. وليست في حاجة إلى تجارب الأمم.
إذن وبدون شك الأمة الإسلامية في حاجة إلى إسلام، والإسلام فقط..
ثامنا القرآن الكريم ذاته ، وذلك أن القرآن كان أعظم ما عرفته الإنسانية في تاريخها الممتد الطويل.. وقد تضمن القواعد الرصينة الكفيلة بقيام المجتمع الإنساني السليم ، تشده الإنسانية فتجد فيه مبتغاها من التشريعات الفردية ، والعلائق الأسرية ، والمعاملات الاقتصادية والحربية ، والقوانين المدنية ، والأنظمة الدولية ، وبعبارة أوجز.. تجد فيه الأمة كل ما تحتاج إليه في حياتها العامة والخاصة ، الدين والدنيا..
تاسعا : اللغة العربية نفسها كانت دعامة من دعائم الحضارة الإسلامية ، وذلك لأنها أعرق اللغات منبتا ، وأعزها جانبا ، وأقواها جلادة ، وأغزرها مادة ، وأدقها تصويرا لما يقع تحت الحس ، وتعبيرا عما يجول في النفس..
وعندها من المرونة على الاشتقاق والقبول للتهذيب ، وسعة صدرها للتعريب ما يمكنها من الاستمرار في عطائها ، نزل القرآن بلسانها فجعلها أكثر رسوخا ، وأشد بنيانا ، وأقوى استقرارا ، وبفضل القرآن صارت العربية أبعد اللغات مدىً ، وأوسعها أفقا ، وأقدرها على النهوض بتبعاتها الحضارية ، عبر التطور الدائم الذي تعيشه الإنسانية ، واستطاعت العربية في ظل عالمية الإسلام أن تتسع لتحيط بأبعد انطلاقات الفكر، وترتقي حتى تصل أرقى اختلاجات النفس ، وليس هناك معنى من المعاني ، ولا فكر من الأفكار ، ولا عاطفة من العواطف ، ولا نظرية علمية من النظريات ، تعجز اللغة العربية عن تصويره بالأحرف والكلمات ، وتجسيده داخل الكلمات.
ولقد كان هذا كله قوة دفع للفكر الإسلامي ، وما تصل به من حضارة ، ومن هنا انطوى التفاعل الإسلامي على قوة غلبت كل التحديات الجاهلية ، فانتشر طابع الحضارة الإسلامية على فعالية لم يعرف لها مثيل في تاريخ الإنسانية..
عاشرا: ومما يذكر أن ترسيخ معالم الحضارة الإسلامية قد تضاعف بفعل مقوم إنساني آخر.. وهو تنوع السلالات التي دخلت في الإسلام ، ثم هناك ظاهرة أخرى ترتب على كل هذه الجوانب والعوامل ، وهي ظاهرة الاتصال والاستمرار الزمني في الحضارة الإسلامية.. ومن وراء كل ذلك هناك الإيمان بالله ، فهو القوة الدافعة الموجهة التي تسند الضعيف من أن يسقط ، وتمسك القوي من أن يجمح ، وتعصم الغالب من أن يطغى ، وتمنع المغلوب من أن ييأس..
وقد أثبت التاريخ أن الذين تربوا في مدارس القرآن هم وحدهم الذين صلحت بهم الحياة، واعتدل في أيديهم ميزان الحق والعدل..
ولقد كانت المملكة الإسلامية تزدهر بالعلم والحضارة شرقا وغربا ، وتنتشر فيها أرقى الصناعات على اختلافها ، وما تركه المسلمون من تراث علمي لأكبر شاهد على ذلك..
ولقد تلمست أوربا الحضارة الإسلامية فاستقت من روافدها العلوم والمعرفة من الفلك والجبر والهندسة والحساب والكيمياء والطب والزراعة ، وسائر أنواع الفنون الحضارية ، وبنى رجال أوربا بما تعلموه في معاهد المسلمين بالأندلس ، وبما نقلوه من علوم.. بنوا أسس النهضة الحديثة التي ظهرت بوادرها في القرن الثامن عشر، وازدهرت في القرن العشرين..
والإسلام بدعوته إلى العلم هو الذي خرج جهابذة الفكر، ورجال الحضارة ، أمثال ابن الهيثم ، وابن البيطار، وابن سينا، وابن النفيس ، وابن زهر، وابن بطوطة، والكندي، والفارابي، والبيروني، والطوسي، والدينوري، والبغدادي، والرازي، والقزويني، والأنطاكي، والخوارزمي، والإدريسي، والمسعودي، وجابر والحافظ، وغيرهم ممن أفادوا الإنسانية.
وهذا ابن الهيثم يبحث في السهول والأودية، ويجول فيها طولا وعرضا، حتى يضع قواعد علم الضوء ، وابن الدجيلي يسهر على قمم الجبال العالية يحدق في الكواكب والنجوم ليحد أفلاكها، ويعرف أبعادها، ويقيس محيط الكرة الأرضية.
وعبد الله الخوارزمي العالم المسلم الذي ولد في إقليم خوارزم ( 2) أول رجل في العالم يضع أصول علم الجبر، وفي كتابه ((الجبر والمقابلة)) يقسم العلماء إلى ثلاثة أقسام : فمنهم المخترع المبتكر الذي لم يسبق إليه ، ومنهم الذي يتناول آراء العلماء قبله بالشرح والتفصيل والتوضيح ، ومنهم الذي لم يكلف نفسه أكثر من جمع المتفرق..
وأبو الريحان محمد البيروني الذي ولد في بيرون ، وهي مدينة صغيرة تتبع مدينة خوارزم يساهم في الفلك والرياضيات بمساهمات فعالة.
وابن النفيس العالم الدمشقي يجري التجارب والاختبارات حتى يثبت أن الدم ليس سائلا مستقرا في الأوردة والشرايين ، بل هو سائل متحرك، يدور في جميع أجزاء الجسم ، وذلك قبل أن يكتشف العالم البرتغالي (هارفي) الدورة الدموية بثلاثة قرون..
وابن مسكويه ذلك المفكر الإسلامي الكبير الذي طرق الدراسات الأخلاقية والنفسية فذلل متونها ، وسبق علماء أوربا فيما وصل إليه من النظريات النفسية والسلوكية..
هذا كله في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش في ظلمات الجهل والهمجية ، ولم ينقذ أوربا من ورطتها التي كانت واقعة فيها إلا نور الإسلام ، وما زالت أسماء العلوم والمصطلحات التي أعطاها العلماء المسلمون لغرائب العلم ما زالت حية في جميع اللغات ، رغم ما مر عليها من تحريف وتغيير.. ولقد سجل تاريخ الحضارة الإسلامية بإعزاز ، وتقول الكاتبة الألمانية الدكتورة سيجريد هونكه في كتابها ((شمس الله تشرق على الغرب)) تقول: ((إن هذه الطفرة العلمية الجبارة التي نهض بها أبناء الصحراء من العدم من أعجب النهضات العلمية الحقيقة في تاريخ العقل البشري ، فسيادة أبناء الصحراء التي فرضوها على الشعوب ذات الثقافات القديمة وحيدة في نوعها ، وإن الإنسان ليقف حائرا أمام هذه المعجزة العقلية الجبارة))..
وإن من يمعن النظر في أعماق الحضارة الإسلامية وما حققته للإنسانية من أسباب النمو وعوامل الازدهار، ويلم بما جاء به الفكر الإسلامي من مفاهيم تناولت أهم معضلات الحياة ، إن من يتعمق في ذلك يدهشه مدى عمق التفكير الواعي الذي بلغ ذروته علماء الإسلام ، وقد يتضاعف إعجاب الباحث بهذا الفيض الزاخر من الجهود العلمية التي شرقت بالحضارة وغربت ، وملأت الدنيا بإشراقها..
وربما تزداد دهشة الباحث العاقل، والمفكر الناصح، ويتعاظم تمجيده لحركة التحول الخطيرة التي أصابت المجتمع العربي في تلك الفترة القصيرة.
ترى أي سر هذا الذي استطاع أن يحول عرب الصحراء، وهذه الشعوب المتفرقة.. إلى أساطين في العلم ، ومشاعل في الحضارة ، ومنارات في الثقافة ؟ وأي قوة رفعت العرب من حال البداوة التي كانوا عليها إلى أبطال وقادة ، يفتتحون أعظم الممالك وأوسعها ، ويجولون في الأرض غير هيابين ولا وجلين..؟ .. وأي دعوة هذه التي حولت الناس من الجهل والجاهلية والمذاهب الوضعية ، إلى النور الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور..؟
ليس من المعقول في نظر المفكر.. ولا من المقبول في نظر الباحث.. ولا من المعروف في نظر الدارس.. أن يطفر الفكر العربي الذي قيدته ظروف الحياة القبلية الآسنة اليبوس.. إلى مثل هذه المرتبة العالية دون أن تكون هناك الأسباب القوية التي دفعت به إلى الحياة المتحركة دفعا..
فما هي تلك الأسباب التي استقى منها الفكر الإسلامي مادة حيويته وحركته ؟ وما هي الموارد التي نهل منها أسباب تكامله..
إن المنبع الأول والأصيل الذي استقى منه الفكر أسباب تقدمه ونمائه هو القرآن الكريم ، فهو السر الكامن ، وهو القوة المحركة ، وهو الدعوة القائمة المستمرة.. وذلك أن القرآن لم يكن كتاب دين يحث على العبادة وتوحيد الله فحسب ، وإنما كان إلى جانب تأكيد وحدانية الله ، وما يتبعها من عقائد وعبادات.. منبعا أصيلا من منابع الحضارة ، ولقد كان أول أثر من آثار القرآن في الحضارة الإنسانية الاهتمام الواسع بالعلم ، وذلك أن العلم عنوان التقدم الحضاري.. ولقد كانت عناية القرآن بالعلم تفوق حد الوصف ، واستطاعت توجيهات القرآن العلمية أن تكون منهجا علميا سليما ، حدد به المسلمون موقفهم من مشاكل الكون والحياة.
ومن هنا كان التفكير العلمي في الإسلام يقوم على الموضوعية والصدق، ومن الحوادث البالغة الدالة على العقلية الموضوعية لدى الفكر الإسلامي ما حدث مصادفة أن كسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقال قوم : إنها كسفت لموت إبراهيم.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته".
وبهذا قرر الرسول الصادق مبدأ علميا يعتمد عليه المسلمون فيما يتصل بالكون وما فيه)).
وفي حادثة فيضان نهر النيل بإقليم مصر الإسلامي موضوعية علمية تنبئ عن نظافة الفكر الإسلامي.. حيث كان الاعتقاد قبل الفتح الإسلامي أن النيل لا يفيض بالماء إلا إذا ألقيت فيه فتاة حسناء لتموت فيه غرقا ، فلما حان وقتذاك كتب الحاكم عمرو بن العاص والي أمر مصر إلى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب في المدينة المنورة ، عاصمة الخلافة الإسلامية، يخبره بما تعود عليه المصريون فأجابه عمر بإرسال رسالة يلقيها في النيل، وكان في الرسالة : ((من عمر أمير المؤمنين إلى النيل إن كنت تجري من عندك فلا حاجة لنا بك ، وإن كنت تجري بفضل الله ، فاللهم بارك لنا)).
وفي ميدان التطبيق العملي نجد أن عمر بن الخطاب في خلافته قد أمر بقطع شجرة الرضوان ؛ لأن بعض الناس قد أسبغ عليها صفات غير موضوعية.. هذا وأمثاله مظهر للتفكير العلمي الموضوعي لدى المسلمين ينبئ لكل عاقل أن الإسلام هو الدين الحق والصراط المستقيم.
ولهذا كانت للمسلمين حضارة وعلوم ومخترعات.. كانت هناك تشريعات وفلسفة وقوانين وطب وفلك ورياضيات وأدب واجتماع وتاريخ وجغرافيا وكيمياء وآداب للسلوك.. وكان لكل هذه العلوم أساتذة عباقرة كأئمة الفقه، وعلماء التفسير، ورجال الحديث ، الذين خرجوا المسائل والأحكام الفقهية ، وضبطوا أساليب النقد ، وقعَّدوا قواعد التشريع..
ويذكر لنا التاريخ عشرات المئات من العلماء في كل فن.. أصبح هناك قادة وحكام لم يعرف التاريخ لهم مثيلا.. وهم لم يدخلوا الكليات الحربية ، ولم يدرسوا في مدارس عسكرية.. ولكن دخلوا شيئا واحدا ، هو كلية القرآن الكريم ، ومدرسة الإسلام الحنيف.. وهناك مدن امتلأت بالعلم والعلماء ، ومعاهد الحضارة ، مثل : القاهرة ، وبغداد ، ودمشق ، وقرطبة ، وغرناطة ، وإشبيلية، وبخارى ، وغيرها من العواصم التي تزخر بكل ألوان الحضارة.. وكانت هناك دول وممالك في الشرق والغرب بسطت نفوذها الإسلامية وعقيدتها وعبقريتها ، وشرقت وغربت حتى نشرت الفكر الصحيح..
وكل هذا بفعل الاتجاهات القرآنية التي غرسها الإسلام في قلوب الناس، والتي أدت إلى تنمية القوى العقلية في الإنسان المسلم ، ففتحت أمامه آفاقا واسعة لا حدود لها)).
واليوم على الغيورين أن يدرسوا حال المسلمين ، الذين ابتلوا بالأفكار المستوردة ، والأحزاب الحمراء المتنمرة ؛ لنرى هل يمكن أن تعود حضارة المسلمين ، وتشرق من جديد ، فتنقذ الإنسانية من بلاء الإلحاد ، وحضارة المادية العفنة.. وقبل أن نقرر إمكانية عودة الحضارة الإسلامية أضع أمام القارئ الحقائق التالية:
أولا: العالم الإسلامي حباه الله بأعظم النعم ، إذ يتربع على كنوز ثمينة ، ويربض على ثروات معدنية هائلة ، ويملك من حقول البترول أجداها نفعا ، وأكثرها سخاء وثراء ، وأقواها تدفقا وعطاء .
ثانيا: يملك العالم الإسلامي من شواطئ البحار والأنهار والممرات والطرق البرية والبحرية والجوية ما يجعله في مركز القيادة ، ويمكنه من المساهمة والإشراف والتحرك الفعال .
ثالثا: مناطق الثقل في العالم الإسلامي بعيدة عن القطبين ، ومصونة من الأعاصير والطوفانات والثلوج والمد والجزر والبراكين ، وهذا يتيح لها ما تستطيع به العمل والتقدم..
رابعا: العالم الإسلامي غني بالمحاصيل الزراعية والإنتاج الحيواني ؛ مما يمكن من قيام صناعات متقدمة ومتطورة.
خامسا: يعيش العالم الإسلامي اليوم في يقظة واعية، وصحوة صحية، إذا أحسن توجيهها أثمرت..
تلك وغيرها أمور تجعل العالم الإسلامي قوة إيجابية مرهوبة الجانب ، مهيأة لإنقاذ الإنسانية من وهدة الضياع..
ولا شك أن الأمور الخمسة المذكورة مع ما سبق ذكره من مقومات الحضارة الإسلامية هي أسباب قيام حضارة كاملة.. ومن هنا نقول في غير تردد : إن عودة المسلمين إلى إقامة حضارة إسلامية أمر ممكن ، ولا يحتاج منا إلى أن نخرب أنظمة الأمم ، ولا أن نتمسك بأحزاب بعثها المخربون ، ولا أن نقسم الأمة إلى أنظمة وجبهات ، ولا أن نمزق المجتمع الواحد إلى يمين ووسط ويسار ، واشتراكيين وأحرار.. وإنما يحتاج إلى أمر واحد فقط هو الإسلام. الإسلام سلوكا وعملا ، والإسلام ثقافة وتربية ، والإسلام نظاما وحياة ، ولن يصلح آخر الأمة إلا بما صلح به أولها. والله الموفق..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
1 ـ التسمية بالخليج الإسلامي هي أفضل طريقة أمام تحديات العصر.
2 ـ إقليم خوارزم هذا من الأقاليم الإسلامية التي كانت عامرة بالعلم والعلماء، وهو واقع الآن في قبضة الاستعمار الشيوعي الروسي..