كانت الدولة العباسية تمتد من حدود الصين وأواسط الهند شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً،ومن المحيط الهندي والقرن الأفريقي جنوباً إلى بلاد الترك والخزر والروم والصقالبةشمالاً، وبذلك كانت تضم بين جناحيها بلاد السند وخراسان وماوراء النهر وإيرانوالعراق والجزيرة العربية وبلاد الشام ومصر والمغرب العربي.
وهي أوطان كثيرة، تعيشفيها منذ القدم شعوب وأقوام وجماعات متباينة في الجنس واللغة والثقافة، غير أنها لمتكد تدخل في نطاق الثقافة العربية حتى أخذت عناصرها المختلفة تمتزج بالعنصر العربيامتزاجاً قوياً، فإذا بنا إزاء حضارة تتألف من أجناس وعناصر مختلفة، فمضت هذهالأجناس تنصهر في الوعاء العربي حتى غدت كأنها جنس واحد.
وقدتميّز العصر العباسي باختلاط كبير بين الأمم المفتوحة وامتزاجها في السكن والمصاهرةوفي الحياة الاجتماعية والمهن والحرف.. الخ، بحيث غدت أحياء المدن الكبرى تعجّبالعرب والهنود والأحباش والفرس والترك والأكراد والروم والأرمن وغيرهم، وبحيثأصبح العربي خالص الدم في بغداد (عاصمة العباسيين) نادراً، فالكثرة الكثيرة منأبناء العرب كانت أمهاتهم من السنديات أوالفارسيات أو الحبشيات أو التركيات، وكذلكالشأن في الخلفاء أنفسهم.
وكانوراء هذا الامتزاج الدموي بين العناصر والشعوب والأقوام المختلفة امتزاج روحي عنطريق الولاء الذي شرعه الإسلام، والسياسة الحكيمة، التي قامت على التسامح والاحترامالمتبادل، فتحول الولاء إلى الكيان الواحد إلى رابطة تشبه رابطة الدم، فالشخص يكونفارساً أو هندياً أو رومياً أو حبشياً ويكون عربي الولاء، بل إن الرقيق كانوا بمجردتحريرهم يصبحون موالي لأصحابهم ويُنسبون إلى القبائل العربية مثلهم مثل أبنائهاالأصليين.
وهذاالرقيق إنما كان قلة قليلة بالقياس إلى أحرار الموالي الذين كانت تتكون منهم الشعوبالمفتوحة، وقد دخل أكثرهم الإسلام، وامتزجوا بأهله من العرب , ونعموا بما يكفل للناسمن عدل ومساواة.
وحتى من لم يعتنق الإسلام من الموالي (من المجوس الصابئة والنصارىغير العرب) أخذ يندمج في المحيط العربي بفضل ماشرعه الإسلام لهم من حقوق اجتماعيةوحرية دينية.
وبذلك فتحت بينهم وبين المسلمين أبواب التعاون الوثيق -على مصاريعها- في شؤون الحياة كلها، وحقاً دخل جمهورهم الضخم في الإسلام , ولكن دون ضغط أو إكراه أوعنف.
وبذلك استطاع الخلفاء العباسيون -بسياستهم المتسامحة المنفتحة- أن يحدثوا امتزاجاً قوياًبالعناصر والأقوام والشعوب والجماعات المختلفة التي كانت تتألف منها الدولة، وهوامتزاج لم يبلغوه بامتلاك الأرض المفتوحة، إنما بلغوه باحترام الاختلاف والتنوعوالتعدد.
بالانفتاح وضمان حرية الاعتقاد شعرت الشعوب غير العربية بالولاءللدولة، أسرعت معظمها إلى تعلم لغة القرآن الكريم والحديث النبوي، فلم يمض نحو قرنحتى أخذت العربية تسود في أنحاء العالم الإسلامي، لا بين المسلمين وحدهم، بل أيضاًبين غيرهم ممن بقي على دينه القديم، لا في البيئات التي كانت قد أخذت تستعرب في عهدما قبل الإسلام: بيئات العراق والجزيرة والشام فحسب، بل أيضاً في البيئات النائية: في إيران ومصر وبلاد أفريقيا الشمالية، فإذا هي تتعرب , وتتعرب معها الأطراف الغربيةللقارة الأوربية في الأندلس.
وكان سكان هذه البيئات يتكلمون لغات مختلفة، ففي إيران كانوا يتكلمون الفهلوية، وفيالعراق والجزيرة كانوا يتكلمون الآرامية، وفي بلاد الشام كانوا يتكلمون هذه اللغةولهجات عربية مختلفة، وفي مصر كانوا يتكلمون القبطية والعربية، وفي المغرب كانوايتكلمون البربرية بلهجاتها المتنوعة.
وكانت اللغة اليونانية قد أخذت تشيع -منذ غزوالإسكندر- في الأوساط الثقافية في كل من بلاد الشام وإيران والعراق والجزيرة ومصر،بينما كانت اللاتينية تشيع في تلك الأوساط بشمالي أفريقيا والأندلس.
وفيالعهد العباسي أصبحت شعوبها جزءاً أساسياً في المجال الثقافي -الحضاري العربي، لغةًوشعوراً وأدباً وانتماء.
وقد اختلف إسراعها إلى هذا الانصهار (التعرّب) باختلافمواقعها - بعداً أو قرباً- من الجزيرة العربية، فكان أسرعها تعرّباً العراقوالجزيرة والشام، وكان تعرّبها جميعاً قد بدأ بقرون قبل الإسلام، فأتمته الفتوحالإسلامية سريعاً، وتعرّبت شمال أفريقيا تدريجياً.
وفيهذا السياق الحضاري والمناخ الفكري المواتي أقبل الفرس -مثلاً- على التعرّب إقبالاًمنقطع النظير، فقد أكبّوا على تعلّم العربية إلى أن أتقنوها ,واتخذوها سريعاًللتعبير عن أفكارهم وعواطفهم، بحيث لانكاد نتقدّم في العصر العباسي حتى يصبح جمهورالعلماء والكتّاب والشعراء منهم، فهم يقبلون على دراسة الشريعة الإسلامية , ويتألقفيها نجم أبي حنيفة وتلاميذه، وهم يقبلون على جمع العربية , وتدوين أصولها النحويةعلى نحو ماهو معروف عن سيبويه، وهم يقبلون على صناعة الكتابة على نحو ما هو معروفعن ابن المقفع، وهم يقبلون على الشعر بحيث يصبح أعلامه النابهون منهم على نحو ماهومعروف عن بشار وأبي نواس.
وفيظلّ التسامح الفكري العظيم ظلّت كثير من اللغات الأصليّة متداولة حتى في أكثرالبيئات تعرّباً أي في العراق والشام، ونقصد بها الآرامية أو السريانية والنبطيةوالفارسية والكردية والتركية وغيرها.
ونشيرهنا إلى الفارسية، التي ظلّت حيّة، مزدهرة، لا بين سكان إيران فحسب، بل أيضاً بينسكان المدن في العراق، الذي زحف إليه من عصر بني أميّة جموع كبيرة منهم، وازدادزحفهم في العصر العبّاسي الذي علا فيه سلطانهم.
ويدل على ذلك من بعض الوجوه مايرويهالجاحظ عن قاص من قصّاص البصرة ووعاظها هو موسى الأسواري، إذ يقول: "كان من أعاجيبالدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهوربه، فتقعد العرب على يمينه والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسّرهاللعرب بالعربية، ثم يحوّل وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية , فلا يُدرى بأي لسانهو أبين" (1 ).
وقدتعلم كثير من العرب الفارسية وأتقنوها، حتى لنراها تدور في مجالسهم , وممّن اشتهربإتقانه للفارسية الأصمعي العربي القحّ , ولعلّنا لا نبالغ إذا قلنا : إنّ الفارسيةشاعت على ألسنة كثيرين في الحياة اليومية لبغداد والكوفة والبصرة، وبسبب ذلك ولأنهاكانت لغة الحضارة الفارسية دخل منها إلى العربية ألفاظ كثيرة، وخاصة ما اتصل بأسماءالأطعمة والأشربة والأدوية والملابس، ودخل إلى العربية في هذا العصر بعض ألفاظهندية وخاصة في أسماء النباتات والحيوانات، كما دخل بعض ألفاظ اليونانية , وخاصةما اتصل باصطلاحات الفلسفة والطب وأسماء المقاييس والموازين والأمراض والأدوية (مثلالقيراط والأوقية والقولنج).
ولمتعد هذه الألفاظ والكلمات غزواً للعربية، وكثيراً ما كانت تعرّب بحيث تتفق واللسانالعربي، وقد ألف العرب فيها مصنّفات كثيرة تمييزاً لها وتعريفاً بها.
وبذلك اتسعتالعربية بفضل هذا الاحتكاك الثقافي الواسع، وتحوّلت من لغة البدو القديمة إلى لغةحضارية مع المحافظة على مقوّماتها ومكوّناتها الأساسية وأوضاعها وأصولها الاشتقاقيةوالصرفية والنحوية (2 ).
وفيالوقت نفسه، وكنتيجة طبيعية لهذا الاختلاط الأممي الكبير شاع اللحن في العربية، وقدساق الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين" جملة من لكنات بعض الأعاجم، وهي لكناتمردّها إلى ماكان يجده نفر من صعوبة التكيف العضوي لمخارج الحروف العربية، التيلاتوجد في لغاتهم، إذ كان منهم من يبدل الراء غيناً , والزاي والتاء والشين سيناً, والعين همزة , والقاف كافاً أو طاء , والجيم زاياً أو ذالاً , والحاء هاءً , والصاد سيناً, والظاء زاياً , واللام ياءً , ولكن الفصحى ظلّت المثل الأعلى للناس في هذا العصر،وخاصة الطبقة المثقفة.
وحتى غير المسلمين أو المؤمنين اتخذوها لسانهم وأدواتهم فيالتعبير، مما أحالها وعاءً كبيراً لكل ما لقيته من ثقافات في البيئات الحضاريةوالاجتماعية والبشرية , ومن معارف مختلفة متباينة، وهي معارف امتزجت فيها منذ فتوحالإسكندر عناصر شرقية بعناصر إغريقية مكوّنة مايسمّى بـ "الثقافة الهلّينيّة"، حيثإن زحوفه العسكرية شملت مصر وليبيا والشام والعراق وإيران وأفغانستان , وشطراً منبلاد الهند.
وقد عُني بنشر الثقافة اليونانية في كل البلدان التي احتلها , ومضىخلفاؤه الذين ورثوا ملكه على نهجه , وبذلك امتزجت هذه الثقافة بثقافات أمم كثيرة،فتكونت من هذا الامتزاج ثقافة جديدة فيها من فلسفة الإغريق المتشعبة، وفيها منديانات الشرق وروحانياته وأساطيره ومعارفه الفلكية والطبية وغيرها.
وكانت المراكزالثقافية الهلّينيّة قبل الإسلام مدارس مختلفة في الإسكندرية وقيسارية وأنطاكيةوالرها ونصيبين وحرّان وجند يسابور، فاتصلت الثقافة العربية بعد الإسلام، ولاسيمافي العصر العباسي بكلّ هذا التراث وحدث تفاعل بينه وبين المعارف الإسلامية والآدابالإسلامية الجديدة، واتخذ هذا التفاعل صوراً كثيرة، منها الترجمة ونقل العلوم .
وفيها تأثر العرب بالمعارف العمليةالتطبيقية عند الشعوب الأخرى، مما اضطرهم إلى التعمّق فيها من خلال إنشاء المدن, وضبط الدواوين , وعمل الأساطيل , وإعداد الجيوش والنهوض بالزراعة والميكنة (فنون الحيلكما كان العرب يطلقون عليها).
المصدر : مجلة التراث العربي ـ دمشق ـ العدد 80 مقتبس من (بحث بعنوان التفاعل الثقافي والحضاري في العصر العباسي للدكتور خلف محمدجراد )
..................................................
1 ـ الجاحظ: البيان والتبيين 1/368.
2 ـ الدكتور شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي، العصر العباسي الأوّل (دار المعارف بمصر،ط6، 1976)، ص92.