جلال الدولة شاه بن ألب أرسلان السلجوقي، تسلطن بعد أبيه سنة 465 هـ، كان منصوراً في حروبه، ومن أحسن الملوك سيرة وحكماً، امتدت مملكته من أقصى بلاد الترك إلى أقصى اليمن، أرسى قواعد العدل في أرجاء دولته، فأمنت البلاد، واطمأن العباد، أنشأ المساجد والمدارس، وعمَّر الأسوار والقناطر، وأبطل المكوس، وأسقط الضرائب، وحفر الأنهار، وأنشأ المصانع والأحواض في طريق مكة ؛ لتأمين المياه للحجاج وقاصدي الديار المقدَّسة، وغرم عليها أموالاً كثيرة، وعم العدل والرخاء والأمن جميع أطراف مملكته، رغم امتداد رقعتها، وترامي أطرافها، ودام على هذه السنن إلى أن توفى العام 485 هـ، يرحمه الله وأحسن إليه·
خشيته لله تعالى:
أنى تلفت دارس سيرة هذا السلطان تطالعه مواقفه الدالة على شدة مخافته من الله عز وجل، ورهبته من أن يقف بين يديه وفي عنقه ظلامة لأحد، وهذا ما حمله على تحري العدل في أحكامه وأفعاله، واختيار أعوانه ووزرائه، فقد كان شديداً في معاقبة المعتدين وإنصاف المظلومين·
روى ابن الجوزي في "الشفاء في مواعظ الملوك " أن السلطان جلال الدولة بن السلطان ألب أرسلان السلجوقي كان جالسا في مجلس حكمه إذ دخل عليه رجلان يستغيثان من ظلم وقع عليهما، ولم يجدا ناصراً ولا معيناً ينصفهما، فلما استمع إليهما قال: خذا بيدي، واحملاني إلى الوزير، فامتنعنا، فقال لهما: لابد من ذلك، فأخذ كل واحد منهما بيد، ومشى معهما ، فبلغ ذلك الوزير نظام الملك فقام حافياً، وتلقاه متعجباً مستفسراً : ما هذا الذي أرى !!؟ قال السلطان: أنت الذي أحوجتني إلى هذا، لقد عينتك لتدفع عني الظلم، فإذا لم تدفع عني أخذاني يوم القيامة هكذا، يخاصماني أمام ربي، وما يدريني أن يأمر بي فأطُرح في النار!! وما اطمأن حتى علم بإنصاف الرجلين، والأخذ على يد من ظلمهما·
موقف عجيب:
للسلطان جلال الدولة في العدل والإنصاف ونصرة المظلومين مواقف مشهودة محمودة، ولعل من أعجبها وأكثرها دلالة على حسن سيرته وشدة عدله: ما ذكره ابن الجوزي في كتابه "المنتظم" حيث قال: ركب السلطان جلال الدولة يوماً إلى الصيد، فلقيه سوادي يبكي: فقال: ما لك؟ قال: لقيني ثلاثة غلمان فأخذوا حمل بطيخ كان معي، هو ما أملك، وهو بضاعتي! فقال له : امض إلى العسكر، فهناك قبة حمراء، فاقعد عندها، ولا تبرح إلى آخر النهار، فأنا أرجع وأعطيك ما يغنيك، فلما عاد السلطان، قال للشرابي "مقدم الشراب": قد اشتهيت بطيخاً ففتش العسكر وخيمهم لعلك تجد شيئاً من ذلك، ففعل الشرابي، فوجد البطيخ، فقال: عند من رأيتموه؟ فقيل: في خيمة الحاجب فلان، فقال: أحضروه، فأحضر، فقال له: من أين لك هذا؟ قال: الغلمان جاءوا به، فقال: أريدهم الساعة .
فمضى وقد أحسوا بالشر فهربوا خوفاً من أن يقتلهم، وعاد فقال: قد هربوا لما علموا أن السلطان يطلبهم، فقال: أحضروا السوادي، فأُحضر، فقال له : أهذا الذي أخذ بطيخك منك؟ قال نعم، قال: خذه، وهذا الحاجب مملوك لي، وقد سلمته إليك، ووهبته لك، حين لم يحضر الذين أخذوا بطيخك، والله لئن خليته لأضربن عنقك، فأخذ السوادي بيد الحاجب فأخرجه، فاشترى الحاجب نفسه من السوادي بثلاثمائة دينار، قال: ورضيت؟ قال: نعم، قال: اقبضها، وامض راشداً·
درس وعبرة :
من فضل الله علينا ـ نحن أمة الإسلام ـ أن الخير في آخر أمتنا موصول بأولها، هذا ما بشرنا به سيدنا رسول الله ، "مثل أمتي مثل المطر، لا يُدرى آخره خير أم أوله" رواه الترمذي·
ولئن حاز السابقون الأولون قصب السبق في كل مضمار، فكم هناك من صفحات بيضاء ناصعة في تاريخنا الإسلامي، سطرها رجال مضوا على سنن الأسلاف، واقتدوا بالرعيل الأول من الجيل القرآني الذي تربى في مدرسة النبوة، فكانوا امتدادا لذلك العهد المشرق، ومثلا رفيعة تجسد تعاليم الإسلام في واقع الناس، على تعاقب الأجيال واختلاف الديار، لتقول للدنيا، وبصورة عملية :"إن تعاليم الإسلام ستبقى النبع الفياض بالخير والنماء، والعدل والمساواة، ما أخذت طريقها إلى التطبيق في واقع الحياة، وسينعم الناس بالسعادة والهناء ما تربوا على تعاليمها، واغترفوا من معينها، وسيجد كل إنسان يستظل بظلالها الأمن والطمأنينة، والحياة الكريمة·
فيحيا آمنا على جميع حرماته وممتلكاته، وما يقدَّس من قيم ومعتقدات: عرضه مصون، وماله محروس، وذمته لا تخفر·
صفت القلوب، وتعاقدت على المحبة والإخاء، فعم الرخاء، وانتشر العدل، وساد الأمان، يغدو الرجل إلى شأنه ويروح مطمئن البال، ساكن الخاطر، لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ،
والسلطة الحاكمة عين ساهرة على مصالح الرعية، وحفظ البلاد، وحماية الثغور، لا يشغل بال رأسها الأعلى من خليفة أو سلطان إلا ما يهم البلاد والعباد·
كيف لا؟ وقد غرس الإسلام في قلبه ووجدانه أنه مسؤول عن أمور الأمة كلها: مسؤول عن الشاة إن عثرت، كيف لم يمهد لها الطريق، وعن الرضيع يُفطم قبل أوانه، لماذا حُرم الحليب، وفي أعماقه صوت يناديه: ويحك يا عمر، كم قتلت من أطفال المسلمين!! ثم هو مسؤول: عن المريض الذي يعجز عن العلاج، والجاهل الذي لم تهيأ له أسباب التعليم، وغير هؤلاء من فئات المجتمع على اختلاف واقعها ومستوياتها·
وينظر من حوله فيجد نفسه فردا من أبناء الأمة، لكنه أثقلهم حملاً، وأكثرهم مسؤولية، فلابد أن يكون من أحرصهم على أداء واجبه، ليجتاز في القيامة الصراط، وينجو من سوء الحساب ، ولا يطيل مناقشة الحساب يوم القيامة شيء مثلما يطيلها الظلم: ظلم الإنسان لنفسه بتفريطه وإسرافه، وظلم العباد بعضهم بعضا·
ولا شك أن أشد أنواع الظلم وأبشعها: ظلم القوي المتسلط للعاجز الذي لا يجد حيلة ولا وسيلة يدفع عن نفسه·
نعم، إن الظلم صنو الشرك "إن الشرك لظلم عظيم "إنه يدمر المجتمعات، ويقوض أركان الحضارات، يفني الشعوب، ويبدد مكاسبها، فيحصدها حصداً، حتى لكأنها أثر بعد عين، أثبتت هذا شواهد الحال، وحكاه القرآن وحيا محكما·
قال تعالى: "وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين ، فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتهم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون ، قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين ، فما زالت تلك دعواهم حتى جلعناهم حصيدا خامدين" الأنبياء 11-15·
فكان هذا جزاء، وفاقا، وقصاصا عادلا، لو لم يكن سنَّة ماضية وناموسا إلهيا لفسد نظام الكون واضطرب مسيره، إذ بالعدل قامت السماوات والأرض، وبه تنظيم دورة الحياة حتى يرث الله الأرض ومن عليها·
ومن عدل الله تعالى: أن النظم والأمم العادلة، تعمر ويمكَّن لها في الأرض، ولو كانت كافرة فتحيا حياة رخاء واستقرار ، ومن عدله كذلك: ألا يدوم الظلم ولا الظالمون، ولو كانوا مؤمنين موحدين .
ولعظم منزلة المؤمنين عند ربهم قصَّ عليهم في كتابه الكريم من أحوال الظالمين ونهاياتهم ما تذرف منه العيون، وتنفطر له القلوب، وتخشع الجوارح ، ويصلح أن يكون زاداً للمعتبرين، الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون·
فكم من أمم سادت وشادت، وبنت ومضت في سلم المجد صعدا، فغرست الأشجار ، وأجرت الأنهار، وأنشأت الشاهق من البنيان، والحصين من المعاقل والقلاع ، ونعم الناس فيه بالعدل والطمأنينة والرخاء، ومضى أمرهم على الخير والرشاد، يتناصفون فيما بينهم، ولا يضيع لديهم لضعيف حق·
نعم، كم من أمم عاشت على هذه الحال حينا من الدهر! ثم تنكبت طريق العدل ، وسلكت سبيل الظالمين! فنفذ فيهم بأس الله الذي لا يرد عن القوم الظالمين، فأهلكهم بذنوبهم، وأخذهم بظلمهم، وما كانوا معجزين، قال تعالى: "فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد" الحج -45·
ذهب كل ذلك وغدت حصيداً كأن لم تغن بالأمس ، إنها النتيجة الحتمية لمقدمات سالفة، وذنوب مضت، وأخلاق ضلت الطريق القويم، وحادت عن سنن رب العالمين سبحانه وتعالى ، قال عز وجل: "وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تُسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين" القصص - 58·
وقد كان يحفظهم من كل هذا ويرد عنهم أليم العذاب لو أنهم استقاموا على الطريقة المثلى، ومضوا على مبادئ العدل والإيمان، فأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتناصفوا فيما بينهم، وتراحموا، ولم يظلموا أو يعتدوا، فإن الله تعالى تكفل بحفظ الإيمان وأهله، وهو سبحانه يمقت الجور، ويهلك أهله "وما كنا مُهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون " القصص -59·
سدد الله الخطى ، ووفق الجميع، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين·
مراجع البحث:
1- البداية والنهاية :ابن كثير
2- الشفاء في مواعظ الملوك :ابن الجوزي
3- النجوم الزاهرة :ابن تغري بردي
المصدر : مجلة الوعي الكويتية