"وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىوَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَىَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [الأنفال: 41].
تتناول هذه الآية الكريمة تفاصيل "يوم الفرقان"، وهو اليوم الذي دارت فيه غزوة بدر (17 – 18 من رمضان من السنة الثانية للهجرة، 15 - 16 من مارس سنة 624 م)؛ حيث تبين في وضوح وجلاء كيف جرت وقائع تلك الغزوة وظهرت نتائجها في ظل رعاية الله - سبحانه وتعالى - للمسلمين، حتى غدا "يوم الفرقان" حجر الزاوية في بناء الدولة الإسلامية، وممارستها لكافة أعمال السيادة في جميع شؤونها الخارجية والداخلية.
توضح الآيات الكريمة أن يوم الفرقان جاء ليؤكد سيادة الدولة التي أقامها الرسول الكريم في المدينة المنورة عقب هجرته إليها، وأنها أخذت تمارس رسالتها السامية في سبيل نشر الإسلام والقضاء على تيار المعارضة الوثنية التي كانت قريش في مكة ترفع لواءها عن عصبية وجهالة عمياء، وكان أول أعمال الدولة الإسلامية الوليدة هو شن حرب اقتصادية على قريش، وذلك بالترصد لقوافلها الذاهبة إلى الشام في رحلات الصيف؛ حيث كان يقود إحدى تلك القوافل زعيم مكة نفسه، وهو أبو سفيان بن حرب، وكانت حمولة تلك القافلة تبلغ ألف بعير، ويتولى حراستها نفر كبير من الحراس، حيث اشتمل رأسمالها على مساهمات أهل مكة كلهم، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، رجالهم ونسائهم؛ بحيث صارت أية ضربة لتلك القافلة أمرًا خطيرًا يصيب كل فرد في مكة ويشعره بالقوة الإسلامية ودولتها الجديدة في المدينة المنورة، وأنها غدت قادرة على ردع المعتدين الباغين بالإسلام وأهله.
وخرج الرسول الكريم على رأس رجال الدولة الإسلامية الوليدة لترصد قافلة قريش، وذلك على حين استطاع أبو سفيان تجنب مواجهة المسلمين، كما أرسل إلى أهل مكة يستنفرهم لإنقاذ قافلتهم التجارية، وفي الوقت الذي عادت فيه قافلة أبي سفيان إلى مكة كانت قريش قد خرجت لإنقاذها، ووقفت عند "بدر"؛ حيث بلغها نبأ نجاة قافلتهم، وأنهم أمام قوة المسلمين القليلة العدد، ومن ثم بات التقاء الجمعين بعد هروب قافلة أبي سفيان هو التقاء التأكيد على سيادة الدولة الإسلامية على قوى الكفر والبغي والطغيان.
وأوضحت الآيات الكريمة أن اختيار مكان المعركة بالتالي جاء بتوفيق الله - سبحانه وتعالى - وليس بإرادة أحد، ولو كان هذا اللقاء بإرادتهم وأمرهم لاختلفوا في المكان والزمان، ولكن الله - سبحانه وتعالى - دبر الميقات فجعله في هذا الزمان، ودبر المكان فكان هذا المكان، وذلك على نحو ما جاء في قوله تعالى: "وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ" [الأنفال: 43 - 44].
وتوضح الآيات الكريمة فضل الله على المسلمين برفع روحهم المعنوية، وذلك على حين هدم روح أعدائهم؛ قال تعالى: "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" [الأنفال: 9 - 13].
واستطاع المسلمون في ظل تأييد الله - سبحانه وتعالى - لهم، وحسن قيادة الرسول الكريم لهم، وإجادة تنظيم صفوفهم - أن يواجهوا الكفار من قريش بتنظيم جديد، جاء عنوانًا على دولتهم الجديدة، وقوة مؤسساتها الحربية والإدارية؛ حيث لم تمكث المعركة إلا يومًا واحدًا من صبيحة الليلة السابعة عشرة من رمضان، حيث انتهت بهزيمة قريش، وقتل صناديدها، وأسر الكثير من رجالها.
وتركزت نتائج يوم الفرقان في مجموعة من التشريعات المهمة التي غدت ركيزة أساسية للدولة الإسلامية على عهد الرسول، وعلى امتداد تلك الدولة أيضًا زمن خلفائه، وطوال عصرها الزاهر، وتمثلت أهمية تلك التشريعات ودورها في بناء الدولة الإسلامية فيما يلي:
أولاً: التأكيد على حقوق القيادة، وضرورة الالتزام بتعليماتها واحترام سلطانها، وظهرت أهمية هذه الظاهرة عندما قام الرسول الكريم بتنظيم صفوف المسلمين قبل المعركة.
وتجلت التشريعات الخاصة بحقوق القيادة العليا عقب غزوة بدر، وذلك حين اختلف المقاتلون في الأنفال - وهي الغنائم - ولم يكونوا على علم بقسمتها، ذلك أن المجاهدون كانوا ثلاثة أقسام:
- قسم واجه العدو.
- وقسم من ورائهم، وأولئك جمعوا الغنائم.
- وقسم حاط العريش الذي كان به رسول الله الكريم وهو يدير المعركة.
واختلف الرأي بشأن توزيع تلك الغنائم:
فقال من جمع الغنائم: "هو لنا".
وقال الذين كانوا يقاتلون العدو: "والله لولا نحن ما أصبتموه؛ فنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم".
وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والله ما أنتم بأحق به منا، لقد خفنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كرة العدو فقمنا دونه، فما أنتم بأحق به منا".
ونزل القرآن الكريم بالتشريع الذي يحسم الخلاف، ويرد الأمر إلى الله ورسوله؛ قال تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" [الأنفال: 1].
ثم أوضح القرآن الكريم أسلوب تنفيذ هذا التشريع وذلك في قوله تعالى: "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [الأنفال: 41].
ثانيًا: التشريعات التي صاحبت يوم الفرقان أقرت للمجتمع الجديد - إلى جانب الركن الديني للإسلام - الطابع السياسي الذي يوصف بأنه "دولة"، وما يرتبط بها من تنظيمات لتحقيق العدالة وجباية الأموال والدفاع عنها، وأوضحت تلك التشريعات - كما قام على تنفيذها خير قيام الرسول الكريم - أن الحكومة المستقرة هي الشرط الأساسي للحفاظ على الوحدة، والحجر الأساسي في سبيل تفرغ المسلمين لأداء رسالتهم العالمية، والجهاد في سبيل نشر الدين الإسلامي.
ونصت تلك التشريعات على أن تقوم الحكومات المستقرة على أساس من محبة الناس، وصدق الإيمان بقيادتها؛ فكان صدق الإيمان بالله وبالرسول، والتنافس بهذا في بذلك المال والحياة، فوق النظر إلى أي مغنم، كالذي تجسد "يوم الفرقان" يوم غزوة بدر، من أعظم النتائج التي جعلت "يوم الفرقان" حجر الزاوية في بناء الدولة الإسلامية، ومقياس أمنها وسلامتها في التمسك به والعمل على هديه(1).
ثالثا: التشريعات التي تؤكد أن اليقين بنصر الله حليف للمؤمنين، دون نظر لكثرتهم، وإيمانهم بنصر الله بقدر إيمانهم بالقضية التي يجاهدون من أجلها، ويحفظ القرآن الكريم للمسلمين على امتداد دولتهم، هذا المبدأ المهم الذي تقرر "يوم الفرقان"، وذلك في قوله تعالى: "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ" [آل عمران: 123 - 126].
ــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
*أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة .
1 ـ تجلت معالم الأمن الذي صاحب المسلمين بعد غزوة بدر في إخراج بهرة بني قينقاع عن المدينة حينما حاولوا تسفيه نصر المسلمين والإساءة إليهم، حيث عمد أحد صياغ بني قينقاع (وكانت صناعتهم صباغة الذهب) السخرية من امرأة مسلمة.
مقتبس من كتاب "سيرة رسول الإسلام"