* مجتمع دستوري(70):
وقد نظم الرسول (صلى الله عليه وسلم) العلاقات بين سكان المدينة من المهاجرين والأنصار واليهود في دستور معلن واضح البنود يهدف إلى بيان التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، وتحديد الحقوق والواجبات ومن الحق أن يتضح أن القسم الخاص بالعلاقات بين المسلمين من المهاجرين والأنصار هو الثابت وفق مقاييس المحدثين ، وبالتالي فإنه وحده الصالح للاستدلال الشرعي به...
وأما القسم المتعلق بيهود فإنه لا يثبت حديثياً، لكن المؤرخين المسلمين أوردوه ، ولم يتعرض لنفيه أحد منهم، فلا مانع من الإفادة منه في الدراسة التاريخية دون الاستناد عليه في قضايا تتعلق بالعقيدة والشريعة.
لقد أوضحت البنود المتعلقة بالمهاجرين والأنصار وحدة الأمة وتمايزها "إنهم أمة واحدة دون الناس" أمة يرتبط أفرادها برابطة العقيدة وليس الدم، فيتحد شعورهم وتتحد أفكارهم وتتحد قبلتهم ووجهتهم، ولاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكامهم للشرع وليس للعرف ، وهم يتمايزون بذلك كله على بقية الناس، فهذه الروابط تقتصر على المسلمين، ولا تشمل غيرهم من اليهود والحلفاء في مجتمع المدينة، ولا شك أن تمييز الجماعة الدينية كان أمراً مقصوداً يستهدف زيادة تماسكها واعتزازها بذاتها، يتضح ذلك في تمييزها بالقبلة واتجاهها إلى الكعبة بعد أن اتجهت ستة عشر أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس(71) وقد مضى النبي (صلى الله عليه وسلم) يميز أتباعه عن سواهم في أمور كثيرة ، ويوضح لهم أنه يقصد بذلك مخالفة اليهود، من ذلك: أن اليهود لا يصلون بالخف فأذن النبي (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه أن يصلوا بالخف، واليهود لا تصبغ الشيب فصبغ المسلمون شيب رؤوسهم بالحناء والكتم، واليهود تصوم عاشوراء والنبي (صلى الله عليه وسلم) يصوموه أيضاً ثم اعتزم أواخر حياته أن يصوم تاسوعاء معه مخالفة لهم ، ثم إن النبي (صلى الله عليه وسلم) وضع للمسلمين مبدأ مخالفة غيرهم والتميز عليهم فقال: "ومن تشبه بقوم فهو منهم" وقال: "لا تشبهوا باليهود" والأحاديث في ذلك كثيرة ، وهي تفيد معنى تميز المسلمين واستعلائهم على غيرهم، ولا ريب أن التشبه والمحاكاة للآخرين يتنافى مع الاعتزاز بالذات والاستعلاء على الكفار(72).
ولكن هذا التميز والاستعلاء لا يشكل حاجزاً بين المسلمين وغيرهم، فكيان الجماعة الإسلامية مفتوح وقابل للتوسع ويستطيع الانضمام إليه من يقبل (إيديولوجيته).
وقد ذكرت البنود من (3) إلى (11) الكيانات العشائرية، واعتبرت المهاجرين كتلة واحدة لقلة عددهم، أما الأنصار فنسبتهم إلى عشائرهم، وذكر العشائر لا يعني اعتبارها الأساس الأول للارتباط بين الناس، ولا يعني الإبقاء على العصبية القبلية والعشائرية فقد حرم الإسلام ذلك: "ليس منا من دعا إلى عصبية" وإنما للاستفادة منها في التكافل الاجتماعي، وجعل الإسلام العقيدة هي الأصل الأول الذي يربط بين أتباعه ، لكنه اعترف بارتباطات أخرى تندرج تحت رابطة العقيدة ، وتخدم المجتمع ، وتساهم في بناء التكافل الاجتماعي بين أبنائه، مثل الارتباطات الخاصة بين: أفراد الأسرة الواحدة ، وما يترتب عليها من حقوق وواجبات على الآباء والأبناء والأمهات وأفراد العشيرة الواحدة ، وما يترتب عليها من حقوق وواجبات ، كالتضامن في دفع الديات وفكاك الأسرى وإعانة المحتاج منهم، وأفراد المحلة الواحدة: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" وأفراد القرية الواحدة: "أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى"، وأبناء المدينة الواحدة ، فلا تخرج زكاة أموالهم من مدينتهم إلا بعد استيفاء حاجات أبنائها..
وهكذا رتب الإسلام على الوحدات الاجتماعية الصغيرة القيام بمهام التكافل الاجتماعي ، وبذلك سد ثغرات كبيرة ، وتأتي الدولة في نهاية المطاف فتسد ما تبقى من ثغرات مما عجز عنه الأفراد... ولا شك أن ذلك يرفع عبئاً كبيراً عن كاهل الدولة تنوه به الدول الحديثة.
وهكذا فإن إقرار الروابط العشائرية قصد به الاستفادة منها في التكافل الاجتماعي "ولكن لا تناصر في الظلم ولا عصبية ، وبذلك حول الإسلام وجهة الروابط القبلية واستفاد منها بتكييفها وفق أهدافه العليا.
إن التكافل الاجتماعي يحتم على العشيرة أن تعين أفرادها ، ومن ذلك إذا قتل فرد منها أحداً خطأ، فإنها تدفع دية القتل بالتضامن بين أفرادها، وقد كان ذلك متعارفاً عليه في الجاهلية فأقرته الوثيقة لما فيه من التعاون: "على ربعتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى" أي على شأنهم وعاداتهم من أحكام الديات(73). وكذلك تعين العشيرة الأسرى من أفرادها بمفاداتهم بالمال: "وهم يفدون عانيهم- أي الأسير- بالمعروف"(74).
كما أكدت الوثيقة على المسؤولية الجماعية، واعتبرت سائر المؤمنين مسئولين عن تحقيق العدل والأمن في مجتمع المدينة ، إن أهمية ذلك كبيرة لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يشكل قوة منظمة كالشرطة لتعقب الجناة ومعاقبتهم.
ونظراً لكون الحدود على الجرائم مصدرها الله تعالى لذلك فإن السعي إلى تطبيقها واجب ديني على المؤمنين، وهذا يكسب الأحكام قدسية ، ويعطيها قوة كبيرة، ويمنع ما ينشأ في نفوس بعض الناس من الرغبة في تحديها والخروج عليها كما يحدث في ظل القوانين الوضعية ، إن اهتمام الوثيقة بإبراز دور المؤمنين يتضح من البند رقم (13) والبند رقم (21) حيث ينص البند رقم (13): "وإن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغي منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم" فهي تعتمد على المؤمنين في الأخذ على يد البغاة والمعتدين والمفسدين والمرتشين، ومعنى (دسيعة ظلم) أي طلب عطية من دون حق(75). وتخصيص المتقنين بتحمل المسؤولية لأنهم أحرص من سواهم على تنفيذ الشريعة لكمال إيمانهم ولأن من اتصف بأصل الإيمان قد يرتكب الحرام فيبغي ويخالف الحدود فيمنع من ذلك(76).
أما البند رقم (21) فنصه: "ومن اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به" أي أن من قتل بلا جناية كانت منه ولا جريرة توجب قتله فإن القاتل يقاد به ويقتل إلا إذا اختار أهل القتيل أخذ الدية بدل القصاص أو وقع منهم العفو"(77)، وسواء اختار أهله القتل أو الدية فإن المؤمنين كافة- بضمنهم أهل القاتل- يتعاونون في تطبيق الحكم عليه وعدم حمايته مهما بلغت درجة قرابته لهم إذ: "لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يؤويه، وإن من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل". والمحدث كل من أتى حداً من حدود الله عز وجل، فليس لأحد منعه من إقامة الحد عليه، ومن آواه فإن الله يلعنه ويغضب عليه ولا يقبل منه التوبة عن فعلته في نصرة المجرمين ولا يقبل منه فدية لذلك(78).
ويقتضي التكافل الاجتماعي بين المؤمنين أن يعينوا المفرح منهم (أي الذي أثقله الدين)(79) إن كان أسيراً بفدائه ، وإن كان جنى جناية عن خطأ دفعوا الدية عنه كما ينص البند رقم (12) وقد ذهب ابن سعد إلى أن المفرح هو من يكون في القوم لا يعرف له مولى(80). ومن الواضح أن صلة الولاء يترتب عليها العون والمساعدة في الديات وغيرها ، فمن لم يكن له عشيرة ينتسب إليها صليبة أو ولاء فإن المؤمنين جميعاً أولياؤه وعليهم مساعدته، فإذا جنى جناية كانت جنايته على بيت المال لأنه لا عاقلة له(81).
لقد أقر البند (12 ب) فكرة الحلف لكنه لم يسمح بالتجاوز على حقوق الولاء التي للسيد على المعتقين من مواليه، فلا يجوز لأحد محالفتهم دون إذن سيدهم، ويتضح من حديث شريف أن الإسلام إنما أقر استمرار الأحلاف القديمة لكنه منع استحداث أحلاف جديدة ونص الحديث: "لما دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مكة عام الفتح قام في الناس خطيباً فقال: يا أيها الناس إنه ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة ولا حلف في الإسلام"(82).
ويبرز في البند رقم (14) استعلاء المؤمنين على الكافرين: "لا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن" فهذا دليل على أن دم الكافر لا يكافئ دم المؤمن، وتأكيد على الترابط الوثيق بين المؤمنين وموالاتهم لبعضهم، وقطع صلات الود والولاء القديمة مع الكفار.
ويقرر البند رقم (17): "إن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم" فمسؤولية إعلان الحرب والسلم لا يقرره الأفراد بل النبي (صلى الله عليه وسلم)، فإذا أعلن الحرب فإن سائر المؤمنين يصبحون في حالة حرب مع الخصم ، ولا يمكن لفرد مهادنته ؛ لأنه مرتبط بالسياسة العامة للمؤمنين(83). كما أن عبء الحرب لا يقع على عشيرة دون أخرى بل إن الجهاد فرض على جميع المؤمنين ، وهم يتناوبون الخروج في السرايا والغزوات(84) "وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً" بند رقم (18).
وقد أقر البند رقم (15) مبدأ الجوار الذي كان معروفاً قبل الإسلام، وجعل من حق كل مسلم أن يجير، وأن لا يخفر جواره، كما حصر الموالاة بين المؤمنين، والموالاة تقتضي المحبة والنصرة فلا يجوز لمؤمن أن يوالي كافراً: "والمؤمنون بعضهم أولياء بعض" "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم.." (85). "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين..." (86).
لكن البند رقم (20 ب) يمنع من بقي على الشرك من الأوس والخزرج من إجارة قريش وتجارتها أو الوقوف أمام تصدي المسلمين لها، فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) مصمماً على المضي في سياسة التعرض لتجارة قريش، ولا شك أن المسلمين من الأوس والخزرج وهم الأكثرية الغالبة في عشائرهم هم الذين سيتكفلون بتطبيق هذه المادة بالنسبة للمشركين من أفراد عشائرهم ، إن هذا الالتزام سبق أن أخذ تعهد اليهود به أيضاً عند موادعتهم ، وإن تكرر النص في الوثيقة يؤيد اعتبار الوثيقة تأليفاً بين وثيقتين منفصلتين كما سبق.
ولا مانع من أن ينص في وثيقة الحلف بين المهاجرين والأنصار على معاملة اليهود المحالفين للمسلمين المعروف والعدل وعدم التحريض عليهم وإيذائهم، رغم عدم وجود اليهود عند صياغة النصوص، بل إن ذلك يعبر عن ثبات القيم الأخلاقية في السياسة الإسلامية ، وإنها لا تعرف المخاتلة ولا الطعن من الخلف (بند رقم 16).
وفي ختام بنود الوثيقة المتعلقة بالتحالف بين المهاجرين والأنصار يقرر البند رقم (23) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) هو المرجع الوحيد في كل خلاف يقع بين المسلمين في المدينة: "وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد (صلى الله عليه وسلم)".
* مجتمع شورى:
مارس العرب قبل الإسلام الشورى في نطاق مجلس القبيلة، ومارست قريش بمكة الشورى من خلال مجالس العشائر ودار الندوة التي تضم رؤساء القبائل ورجالات قريش، وقد أفاد ذلك في تدريب القبيلة على تبادل الرأي وتلاقح الفكر والاستماع لرأي الآخرين ، واستعمل الخطاب القرآني كلمة (الشورى) وهي معروفة عند العرب بمعنى (استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض)، يقصد به: عدم استبداد الحاكم بالرأي ورجوعه إلى أهل الحل والعقد وهم ممثلو الأمة من أهل العلم أو النفوذ. قال تعالى: "وشاورهم في الأمر"(87) وقال: "وأمرهم شورى بينهم"(89) وسميت السورة التي وردت فيها الآية الثانية بسورة الشورى..
وهذا العموم في الآيتين يوحي بأن الشورى مطلوبة بإطلاق، خاصة وأن سورة الشورى مكية قبل قيام دولة الإسلام، التوجيه نحو الشورى مقصود به التربية والممارسة في الحياة اليومية ، وليس على صعيد الدولة وأهل الحل والعقد فقط.. كما أن الآية وردت في سياق وصف الأمة الإسلامية وخصائصها المميزة "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون"(90) ..
وذكر الشورى بين الصلاة والإنفاق ، وهما عبادتان يوضح المكانة السامقة للشورى ، وأن تحقيقها فيه معنى العبادة أيضاً- حسب مفهومها الواسع- وأما أمر الله لرسوله (صلى الله عليه وسلم) بمشاورة المسلمين فإنه محمول على الوجوب ، إذ لا يوجد ما يصرف الأمر عن الوجوب عن القرائن.. وهو خطاب لكل حاكم مسلم وليس خاصاً به ، ثم إن الشورى لا تقتصر على صعيد الدولة والحكومة بل تبدأ من الوحدات الصغيرة المكونة للأمة.. وهكذا أمر الزوجان بالتشاور عند اتخاذ قرار فطام الطفل عند الطلاق "فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما"(92).
وكان مجتمع المدينة يشهد أول تطبيق للشورى السياسية في الإسلام ، إذ كانت الشورى في مكة تقصر على الممارسات الفردية... والرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يشاور أصحابه منفردين ومجتمعين، فشاور سعد بن عبادة في موقف عبد الله بن أبي بن سلول المنافق ومحاولته شق وحدة المسلمين في غزوة بني المصطلق(93)، وشاور الأنصار قبل خوض المعركة ببدر، وشاور أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في أسرى بدر، وشاور الصحابة مجتمعين في موضوع اختيار الخروج إلى أحد أو البقاء في المدينة في غزوة أحد، وشاور زعماء الأنصار في دفع شطر تمر المدين لغطفان لتفك حصارها في غزوة الخندق.
وشاور الصحابة في الإغارة على كعب بن لؤي وعمر بن لؤي في غزوة الحديبية قبل الوصول إليها، وشاور أم سلمة رضي الله عنها في كيفية إقناع المسلمين بنحر هديهم في الحديبية دون القيام بعمرة، وشاور عدداً من الصحابة في حادثة الإفك المشهورة(94)، وشاورهم في كيفية إيذان الناس بالصلاة(95).. قال أبو هريرة (رضي الله عنه): "ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (96).
ولا شك أن الشورى ضرب من الاجتهاد، فلا اجتهاد مع النص القطعي في دلالاته، وإلا كان ذلك اعتداء على النص الموحي به من الله، لذلك لما شاور النبي (صلى الله عليه وسلم) زعماء الأنصار في دفع شطر تمر المدينة لغطفان في غزوة الخندق سألوه: "يا رسول الله أوحي من السماء فالتسليم لأمر الله أم عن رأيك وهواك؟ فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا فالو الله لقد رأيتنا وإياهم على سواء، ما ينالون منا تمرة إلا شراء أو قرى".
وكانت الشورى تتم في أمور الحرب والسلم ومصالح الأمة العامة ، كما تتم على صعيد مصالح الأفراد، وكان المستشار ملزماً بالنصيحة واستنفاد الجهد في بيان الرأي الصالح "المستشار مؤتمن"(97).
ويبدو من استعراض حالات الشورى التي تمت في مجتمع المدينة في عصر الرسالة، أن الشورى كانت ملزمة إذا اجتمعت آراء المستشارين كما حدث في استشارة زعماء الأنصار في غزوة الخندق ، حيث اتفقوا على عدم دفع التمر لغطفان مقابل تخليها عن الحصار ، وعمل به الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وكذلك عندما مالت الأكثرية إلى الخروج في أحد وعمل به.
إن القول بعدم إلزامية الشورى قد يفضي إلى الاستبداد المقنع بالشورى- كما حدث في فترات طويلة من تاريخنا- فإذا كانت الأدلة على إلزامية الشورى ليست قطعية الدلالة فيمكن أن يصار إلى الإلزام بها من باب المصالح وسد الذرائع، وإن الطريق إلى الشورى الملزمة هو تربية جماهير الأمة على الشورى في الحياة اليومية ابتداء من الوحدات الصغيرة بتنشئة الفرد المسلم وتربيته على الشورى ومعانيها وممارستها.
إن هذا التوجه العملي المرتبط بالتقوى وحده الذي يكفل ظهور قيادات مفكرة واعية صالحة لقيادة الأمة في منعطفات التاريخ الخطيرة..
إن الأمة التي تشب على معاني التكافؤ واحترام الرأي وممارسة الشورى لا يمكنها التخلي عن حريتها أو التفريط بإرادتها أو الاستسلام المهين للطغاة المستبدين.
إن الخطاب السياسي ينبغي أن يتجه إلى ضمير الأمة أولاً، وعندها سيكون فاعلاً في واقعنا، وبذلك نتخلص من الإحباط الذي ارتهننا منذ بداية النهضة الحديثة.
* مجتمع جهادي
شرح الجهاد لأول مرة في العهد المدني، وقبل ذلك كان المسلمون مأمورين بعدم استعمال القوة في مواجهة المشركين وأذاهم ، فكان الشعار المعلن (كفوا أيديكم أقيموا الصلاة) (98)، فقد كانت الدعوة في المرحلة المكية جديدة مثل النبتة الصغيرة تحتاج إلى الماء والغذاء والوقت لترسخ جذورها وتقوى على مواجهة العواصف، فلو واجهت الدعوة آنذاك المشركين بحد السيف فإنهم يجتثونها ويقضون عليها من أول الأمر، فكانت الحكمة تقتضي أن يصبر المسلمون على أذى المشركين، وأن يتجهوا إلى تربية أنفسهم ونشر دعوتهم..
لما قامت للإسلام دولة في المدينة شرع الله الجهاد دفاعاً عن النفس فقط في أول الأمر ثم أذن بمبادرة للعدو للتمكين للعقيدة من الانتشار دون عقبات ولصرف الفتنة عن الناس ليتمكنوا من اختيار الدين الحق بإرادتهم الحرة "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الذين كله لله"(99).
قد التزم المقاتلون المسلمون بضوابط الحق والعدل والرحمة ، فسجل التأريخ لهم انضباطهم الدقيق ، حيث لم ترد أية إشارة إلى القيام بمجازر أو سلب الأموال أو الاعتداء على الأعراض في المناطق المفتوحة ؛ مما يقع عادة في الحروب المدنية خلال مراحل التاريخ المختلفة.. وقبل ذلك كله لم تفرض العقيدة الإسلامية بالقوة على سكان المناطق المفتوحة.. بل سمح لأهل الكتاب المحافظة على أديانهم الأخرى، لا زالوا يعيشون بأديانهم حتى الوقت الحاضر بسبب السماحة الدينية.
كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يبين للمسلمين ضرورة اقتران النية بالجهاد وأن لا يكون الدافع إلى القتال الحصول على الغنائم أو الرغبة في الشهرة أو المجد الشخصي أو الوطني فقد سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن الرجل قاتل شجاعة ويقاتل حماية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"(100) بل لابد من إخلاص النية لله بأن لا يقترن القصد من الجهاد بأي غرض دنيوي ؛ لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له وابتغي به وجهه(101).
وفي الحديث عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاداً في سبيلي، وإيماناً بي، وتصديقاً برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده! ما من كلم- أي جرح- يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم، وريحه مسك، والذي نفس محمد بيده! لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلال سرية تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعة فأحلمهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده! لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل"(102).
ومن الصعب تقديم النماذج الكثيرة التي توضح أثر هذه التوجيهات النبوية على نفسية المقاتل المسلم، ولكن يمكن اختيار نموذجين لمقاتلين من عامة الجند، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للمسلمين أثناء القتال في غزوة أحد: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" فسمعه عمير بن الحمام الأنصاري فقال: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟! قال: نعم.
قال: بخ بخ (كلمة تقال لتعظيم الأمر في الخير).
فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ما يحملك على قولك بخ بخ؟
قال: "والله يا رسول الله ألا رجاء أن أكون من أهلها.
قال: فإنك من أهلها.
فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن. ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ، قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل(103) فهذا النموذج الأول وأما الثاني: فقد صح أن أعرابياً شهد فتح خيبر أراد النبي (صلى الله عليه وسلم) أثناء المعركة أن يقسم له قسماً وكان غائباً، فلما حضر أعطوه ما قسم له، فجاء به إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمي هاهنا- وأشار إلى حلقه- بسهم فأدخل الجنة. قال: إن تصدق الله يصدقك.
قال: فلبثوا قليلاً. ثم نهضوا في قتال العدو فأتى به يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فكفنه النبي (صلى الله عليه وسلم) بجبته وصلى عليه ودعا له، فكان مما قال: "اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً، وأنا عليه شهيد"(104) إلا إن هذه الرواية شاهد قوي على ما يبلغه الإيمان من نفس أعرابي ألف حياة الغزو والسلب والنهب في الجاهلية فإذا به لا يقبل ثمناً لجهاده إلا الجنة، فكيف يبلغ الإيمان إذاً من نفوس الصفوة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟!
وقد ظهرت آثار التربية المحمدية في مواقف قتادة الفتح الإسلامي، فلنستمع إلى الصحابي الجليل عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) وهو يرد على المقوقس حاكم مصر عندما حاول إقناعه بالعدول عن فتح مصر بأن هدده بجموع الروم، ولوح له بالأموال ليغريه بها، قال عبادة: "يا هذا، لا تغرن نفسك ولا أصحابك، أما ما تخوفنا به من جمع الروم، وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا الذي تخوفنا به، ولا بالذي يردنا عما نحن فيه إن كان ما قلتم حقاً، وإنا منكم على إحدى الحسينيين إما أن تعظم لنا غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإن الله عز وجل قال في كتابه العزيز: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين" وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحاً ومساءً أن يرزقه الشهادة، وأن لا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا هم فيما خلفه من أهل وولد، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده، وإنما همنا الجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمته، وأما قولك: إنا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا، فنحن في أوسع السعة، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن فيه"(105)..
وكلام عبادة بن الصامت هذا يؤكد صياغة الإسلام للشخصية على أساس متين من حب الله والرسول والجهاد وحب الشهادة والتطلع إلى الآخرة، والزهد في الدنيا فلا يبقى أمام المسلم عائق يحول بينه وبين تبليغ دعوة الإسلام وقول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولما سأل رستم قائد الفرس ربعي بن عامر عن سبب خروج المسلمين من جزيرة العرب لفتح العراق وعرض عليه المال والكساء والطعام مقابل عودته ظاناً أنهم يريدون الغنيمة من خروجهم أجابه ربعي موضحاً أهداف الفتح: "الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"(106).
وقد تكررت الأقوال وتضافرت التصريحات التي صدرت من قادة المسلمين في جبهات القتال الواسعة تؤكد هذا المعنى، وقد حوى كتاب (فتوح الشام) للأزدي خاصة وبقية المصادر التاريخية عامة على كثير من الرسائل المتبادلة بين الخلفاء الراشدين وقادتهم ، وكلهم تفوح بشدي الإيمان ، وتعبق بمعاني الهداية ووصايا الرحمة ومنع قتل النساء والأطفال والشيوخ ، ومن لا يقاتل من الفلاحين.
فلا غرابة إذا ما أقبل سكان البلاد المفتوحة على اعتناق الإسلام والانضمام إلى قوافل المجاهدين، ولا عجب إذا ما بقي الإسلام في البلاد المفتوحة قروناً طويلة راسخ الجذور ، عميق الآثار ، مهيمناً على الحياة التشريعية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مقيماً لحضارة شامخة الصرح وطيدة الأركان، تتسم بالجمع بين الرفعة الروحية والعمران المادي، في حين ضاعت آثار فتوح الإسكندر وهنيبال وغيرهم من قادة الفتوح الاستعمارية، فشتان ما بين الفتحين والحضارتين "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"(107).
* مجتمع تشارك المرأة في بنائه:
قال تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم"(108).
اهتم الإسلام بالمرأة وتربيتها ورعايتها اهتمامه بالرجل، فهي مكلفة مثل الرجل بتوحيد الله وعبادته، والالتزام بأحكام شريعته، وهي تبايع الرئيس الأعلى للدولة الإسلامية على الطاعة، وتشترك في حماية المجتمع عندما يتعرض للخطر وإن لم يفرض عليها القتال.
ونتيجة هذا الاهتمام الذي أبداه الإسلام نحو المرأة مما لم يكن معروفاً في الأنظمة والفلسفات التي سبقته والتي كان بعض أتباعها يناقشون إن كان للمرأة روح أم لا؟ أقول نتيجة هذه الرعاية للمرأة والعناية بتربيتها وتثقيفها وتفقيهها بمعاني العقيدة ومعالم الشريعة وتعليمها القرآن والسنة برزت نسوة مسلمات سجلن مواقف خالدة منبثقة من التصور الإسلامي.. ولأهمية ذلك أعرض بعض مواقفهن من الأحداث الجسيمة، وكيف غلبن مصلحة حفظ الدين على حفظ النفس، وصبرن على فقد الآباء والأبناء والأزواج دون أن يتذمرن ما دام ذلك في سبيل الله ونصرة دينه القويم.
ويبدأ موقف المرأة من حمل الإسلام والذود عن حياضه منذ أول ظهوره في الفترة المكية، وكان أول من آمن بهذا الدين واتبع نبيه امرأة هي خديجة (رضي الله عنها) التي بذلت كل ما في وسعها في خدمة رسول الله ودعوته، فكانت تؤازره وتخفف عنه ما يلقاه في سبيل الله ، وقد سخرت أموالها في سبيل الله ، وأغاثت المسلمين بالطعام عندما حوصروا في شعب أبي طالب ومنعت عنهم الأقوات.
وكانت ممن سارع إلى الإسلام من النساء فاطمة بنت الخطاب حيث تصدت لأخيها عمر قبل إسلامه، وتحملت لطمته لها، وسال دمها في سبيل الله(109).
وسجلت المرأة المسلمة موقفاً متقدماً عندما شهدت امرأتان هما أم عمارة بنت كعب- إحدى نساء بني مازن- وأسماء بنت عمرو- إحدى نساء بني سلمة- بيعة العقبة الثانية التي شهدها ثلاثة وسبعون رجلاً من الأنصار(110).
وشاركت عدة نساء في الخروج إلى الحبشة في الهجرة الأولى فراراً من أذى المشركين ، وحفاظاً على إيمانهن في الفتنة بمكة ، وكان منهن أم حبيبة بنت أبي سفيان (رضي الله عنها) التي صارت بعد ذلك من أمهات المؤمنين، ورقية بنت الرسول (صلى الله عليه وسلم) وزوجة عثمان بن عفان (رضي الله عنهما) صحبته في هجرته إلى الحبشة.
وقد سجلت بعض النسوة مواقف سامية في الثبات على العقيدة والاستعلاء على الباطل ، وتحدي الطغيان ، منهن سمية مولاة بني مخزوم وأم عمار بن ياسر (رضي الله عنهما) حيث صمدت أمام التعذيب حتى نالت الشهادة، ومن النساء المسلمات اللواتي صمدن للأذى حتى هيأ الله لهن الخلاص أم عبيس وزنيرة والنهدية وابنتها ، وكانت الأخيرتان جاريتين لامرأة من بني عبد الدار فاشتراهن الصديق (رضي الله عنه) بماله وأعتقهن، كما اشترى جارية كان عمر (رضي الله عنه) قبل إسلامه يعذبها ويضربها حتى يمل، فاعتقها الصديق(111).
وأسماء بنت أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) التي سارعت إلى الدخول في الإسلام مع أبيها، وخاطرت بنفسها عندما حملت الطعام إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأبيها في غار ثور في حادث الهجرة وقد شقت نطاقها نصفين لتحمل به الطعام فلقبت بـ "ذات النطاقين".
وشاركت المرأة في الهجرة إلى المدينة، فهاجرت نسوة مؤمنات، وتحملن مفارقة الأهل والديار في سبيل العقيدة.. فها هي أم سلمة تخرج مع زوجها وولدها مهاجرة، فيمنعها أهلها وولدها من الهجرة، فيهاجر زوجها وحده، ومكثت صابرة محتسبة وقلبها دام وعينها لا ترقأ حتى أشفق عليها بعض القوم وتركوها تهاجر لتلحق بزوجها.
ثم كانت المرحلة المدنية من تاريخ الدعوة الإسلامية، وقامت دولة الإسلام ، وتألب عليها المشركون واليهود من كل مكان، وفرض القتال على المسلمين، فشاركت المرأة في أحداث الجهاد بأساليب متنوعة، وذكر ابن هشام في السيرة النبوية أن أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية قاتلت يوم أحد المشركين ، وذبت عن الرسول الكريم بنفسها ورمت بالقوس عنه ، واستقبلت السهام دونه ؛ حتى جرحت جرحاً عميقاً(112).
وكانت السيدة عائشة أم المؤمنين وأم سليم وأم سليط يملأن القرب للمسلمين في أحد ويسقين الجيش كما في صحيح البخاري(113). وكانت فاطمة (رضي الله عنها) تغسل جرح الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأحد ، ولما رأت أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم(114).
وكانت حمنة بنت جحش الأسدي تسقى العطشى وتداوي الجرحى بأحد(115) ولما انتهت المعركة أخبرت أن أخاها قد قتل فاسترجعت وترحمت عليه ، ثم أخبرت أن خالها حمزة قد قتل فاسترجعت واستغفرت له، ثم أخبرت أن زوجها مصعب بن عمير قد قتل فصاحت وولولت، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إن زوج المرأة منها لبمكان" لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها وصياحها على زوجها(116).
ومر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، قال: فأشير إلي حتى إذا رأيته قالت: كل مصيبة بعدك جلل- تريد صغيرة-.(117).
وفي أعقاب أحد أيضاً أقبلت صفية بنت عبد المطلب تسأل عن أخيها حمزة بن عبد المطلب، وكانت تحبه حباً شديداً حتى خشي الرسول (صلى الله عليه وسلم) على عقلها إذا أخبرت بمصرعه وتمثيل المشركين به، فوضع الرسول (صلى الله عليه وسلم) يده على صدرها ودعا لها، فاسترجعت وبكت وأحضرت أكفانه محتسبة ذلك عند الله تعالى(118).
ولصفية (رضي الله عنها) موقف آخر في غزوة الخندق يدل على شجاعتها ورباطة جأشها ، فقد حاصرت الأحزاب المدينة، ونقض يهود بني قريظة الصلح، وجعل بعضهم يتجول بالقرب من حصون المسلمين، وليس فيها سوى النساء والأطفال، فلما مر أحدهم بالحصن الذي فيه صفية أخذت عموداً ، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته به حتى قتلته ورجعت إلى الحصن(119).
وعن الربيع بنت معوذ قالت: "كنا نغزو مع النبي (صلى الله عليه وسلم) فنسقي القوم ونخدمهم ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة"(120).
وعن أم عطية الأنصارية قالت: "غزوت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سبع غزوات أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام ، وأداوي الجرحى ، وأقوم على المرضى"(121).
وقد سجلت أم سليم الأنصارية مواقف رائعة تدل على عميق وعيها بالإسلام وتقديرها لعظمته حتى جعلت الإسلام صداقها الوحيد، فقد خطبها أبو طلحة الأنصاري (رضي الله عنه) قبل إسلامه فقالت: يا أبا طلحة ألست تعلم إن إلهك الذي تعبد خشبة نبتت من الأرض نجرها حبشي بني فلان!! إن أنت أسلمت لم أرد منك من الصداق غيره، قال: حتى أنظر في أمري، قالت: فذهب، ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتزوجته رضي الله عنهما(122)، وعن أنس بن مالك: "أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجراً، فكان معها، فرآها أبو طلحة فقال: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما هذا الخنجر؟ قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يضحك قالت: يا رسول الله اقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن"(123).
وكانت رفيدة الأسلمية تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، حتى عهد لها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) القيام على مداواة سعد بن معاذ في خيمتها داخل مسجده(124).
وبعد فهذه الأحاديث والآثار تكشف عن اضطلاع المرأة المسلمة بمسؤوليتها التاريخية تجاه رسالة الإسلام في الحياة العامة والجهاد الإسلامي ، بالإضافة إلى مسؤوليتها في تربية أبنائها وفق تعاليم الإسلام، وهي مهمة عظيمة في تكوين اللبنات الجديدة التي تكفل لصرح الإسلام الخالد التجدد والنماء.
ولم تقتصر مسئولية المرأة المسلمة في دعم رسالة الإسلام على مساندة حركة الجهاد، وتقديم الخدمات للمجاهدين في سوح الوغى، ودفع فلذات أكبادهن إلى ميادين القتال، والصبر على مفارقة الزوج والأهل والولد، بل كانت لبعضهن مسئولية كبيرة في الحياة الاجتماعية ، سواء بنشر العلم أو مواساة الفقراء أو السعي في مصالح الناس.
وسوف اقتصر على نماذج من حياة اثنتين من أمهات المؤمنين أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) فهن مثل أعلى للمرأة المسلمة في كل زمان ومكان- هما زينب بنت خزيمة أم المساكين وعائشة (رضي الله عنهما): كانت أم المؤمنين زينب بنت خزيمة تلقب بأم المساكين لرعايتها لهم وإنفاقها عليهم... قالت عائشة: "لم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى الله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق به، وتقرب به إلى الله تعالى"،(125) وسمعت عائشة (رضي الله عنها) تقول حين بلغها نعي زينب: "لقد ذهبت حميدة متعبدة مفزع اليتامى والأرامل"(126) وقالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً... فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، ولم تكن بأطولنا، فعرفنا حينئذ، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) إنما أراد طول اليد بالصدقة، وكانت زينب امرأة صناع اليدين تدبغ وتخرز وتتصدق في سبيل الله"(127)، وقد أرسل لها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عطاءها اثني عشر ألفاً، فجعلت تقول: "اللهم لا يدركني هذا المال من قابل فإنه فتنة" ثم قسمته في أهل رحمها وفي أهل الحاجة، فبلغ عمر فقال: هذه امرأة يراد بها خير فوقف عليها وأرسل بالسلام وقال: "بلغني ما فرقت، فأرسل بألف درهم تستبقينها" فسلكت به ذلك المسلك(128) وحين حضرتها الوفاة سنة عشرين للهجرة قالت: "إني قد أعددت كفني، وإن عمر سيبعث إليّ بكفن، فتصدقوا بأحدهما، وإن استطعتم أن تتصدقوا بحقوي فافعلوا"(129) وهكذا عاشت أم المؤمنين زينب بنت خزيمة حياتها في مواساة الناس فكانت بحق "أم المساكين" وكانت آخر وصياها وهي تودع الحياة التصدق بآخر ما تملك من متاع الدنيا...
أما عائشة (رضي الله عنها) فقد كانت أفقه نساء عصرها ، ومن أفقه أهل عصرها رجالاً ونساء، فهي مرجع في أحكام الدين، وخاصة ما يتعلق منها بالمرأة، وهي مرجع في معرفة أحوال الرسول (صلى الله عليه وسلم) وخاصة في بيته، وهي مثال للمرأة المسلمة المثقفة.. قال الإمام الزهري: "لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل"(130) والعلم في وقت الزهري يطلق على النص أو الحديث، لكن عائشة لم تقتصر في ثقافتها على حفظ أحكام الدين وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) بل كانت ملمة بثقافة عصرها، قال عروة بن الزبير- وهو ابن أختها-: "وما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا طب ولا بشعر من عائشة"(131) وقال حسان بن ثابت: "ما رأيت أحداً أعلم بالقرآن ولا بفريضة ولا بحلال وحرام ولا بشعر ولا بحديث العرب ولا النسب من عائشة"(132) وقد روت عنها كتب الحديث ألفين ومائة وعشرة أحاديث، وهو قدر يكشف عن سعة دائرتها في الرواية والعلم، وألف الزركشي كتاباً في ما استدركته عائشة على الصحابة رضوان الله عليهم في مجالات الأحكام والسنة، وهو يبين دقة فهمها ، وعمق فقهها ، وقوة ذاكرتها ، وفرط ذكائها ، وسرعة بديهتها ، ورقي تعبيرها ، وقدرتها على المحاججة والبيان، فضلاً عن نضج شخصيتها ومعرفتها بطبائع الإنسان وسنن الاجتماع... سألتها امرأة عن مسألة تتعلق بالتجميل فأجابتها: "إن كان لك زوج" فاستطعت أن تنزعي مقلتيك فتضعيهما أحسن مما هما فافعلي"(133).
ولم تكن عائشة (رضي الله عنها) أقل اهتماماً بمصالح العامة من زينب بنت خزيمة، بل كانت كثيرة الصدقة والإنفاق في سبيل الله... بعث إليها معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف، فأنفقتها في مصالح الناس في شهر واحد!! فقالت مولاة لها: لو اشتريت لنا من ذلك بدرهم لحماً؟ فأجابتها: ألا ذكرتني(134) ولا عجب أن تنسى ذاتها وهي في غمرة التفكير بمصالح المسلمين وسد ثغرات المجتمع ورعاية أبنائه.
ولا يمكن تناسي الأثر الكبير الذي تركته أم المؤمنين عائشة على حياة نساء عصرها، وخاصة في تعريفهن بأمور الدين وتربيتهن على تعاليمه وأخذهن بمنهجه... قالت رميثة- جدة عاصم بن عمر بن قتادة- "أصبحت عند عائشة، فلما أصبحنا قامت فاغتسلت، ثم دخلت بيتاً لها، وأجافت- أي ردت- الباب دوني، فقلت: يا أم المؤمنين، ما أصبحت عندك إلا من أجل هذه الساعة، قالت: فادخلي، فدخلت، فصلت ثمان ركعات لا أدري أقيامهن أطول أو ركوعهن أم سجودهن، ثم التفت إليّ فضربت فخذي ثم قالت: "يا رميثة رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصليهن، ولو نشر لي أبي على تركهن ما تركتهن"(135) وهذه الرواية تبين حرص الصحابيات على معرفة تعاليم الإسلام واختيار القدوة الصالحة في ذلك، فلم يكتفين بحفظ القرآن والحديث بل لجأن إلى معرفة التطبيق العملي للأحكام والسنن ؛ حرصاً على دقة الفهم وتطابق العمل مع النصوص.. فنرى رميثة تبيت في منزل عائشة (رضي الله عنها) للاطلاع على منهجها في العبادة وما تصنع في ليلها ونهارها في طاعة الله تعالى، ويلاحظ حرص عائشة على أن تعبد الله في خلوة عن الناس ودون أن تظهر ذلك لضيفتها فردت عليها الباب، قاصدة إخلاص النية والبعد عن الرياء، لكن الضيفة أظهرت قصدها من الحرص على رؤية صلاة عائشة وأنها تريد أن تتعلم منها، فأذنت لها وصلت أمامها صلاة الضحى، وأخبرتها بأنها "السنة" وحثتها على العبادة وعلى صلاة التطوع تذوقاً للعبادة ورغبة في الثواب، وما أعجب قولها: "ولو نشر لي أبي على تركهن ما تركتهن"..
رحم الله الصديقة بنت الصديق عائشة ورحم الله أم المساكين زينب بنت خزيمة فقد كانتا قدوة في الخير والعبادة والإحسان...
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
(1) النسائي: المجتبى: 8/176-177.
(2) البخاري كما في فتح الباري 2/111 حديث رقم 631.
(3) أبو داود: سنن 5/ 354 حديث رقم 5146.
(4) الترمذي: سنن 5/ 709 حديث رقم 3895.
(5) أبو داود: سنن 5/ 374 حديث رقم 5186.
(6) البخاري: صحيح (فتح 5/ 112) حديث رقم 2465.
(7) الترمذي: سنن 4/ 599 حديث رقم 2392.
[font:7451=T