الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين ، وبعد ..
فقد تحدثنا في الحلقة السابقة عن تمكن المجاهدين المسلمين من القضاء على حركة المرتدة قضاء مبرما في خلال سنة واحدة ، وتمكنها بعد ذلك من فتح بلاد الحيرة والعراق في فترة قياسية تحت قيادة خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ وأن فتوحاته اتسمت بـالسرعة الفائقة ، وأنها كانت تبدأ بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ، ومحاولة تأليف قلوب الناس إليه ، وفي نفس الوقت إظهار القوة للخصم ، والبطش بالمتحدين له ، ليكونوا عبرة لغيرهم ، وفي مقابل تلك الشدة مع المحاربين كان خالد يلين مع أهالي البلاد والفلاحين ..
وأن تلك الفتوحات أظهرت للناس سماحة الإسلام وعدله ، كما أنها كانت فاتحة خير على أهل البلاد المفتوحة ، وخاصة الفقراء منهم ، فقد رفعت عنهم القيود والأغلال التي كانت مفروضة عليهم ، وصاروا يتمتعون بخيرات أرضهم التي كانوا يعملون فيها لساداتهم الإقطاعيين دون مقابل ..
وحتى من وقعوا في السبي من أطفالهم ، وفّر لهم الإسلام فرص التنشئة السوية والنبوغ في ظل من تملكوهم ، وأحسنوا تربيتهم ، وصار منهم ومن أبنائهم مشاهير العلماء كابن إسحاق ، والواقدي والحسن البصري وابن سيرين وغيرهم .
واليوم بمشيئة الله سبحانه وتعالى نترك العراق الذي رفرفت على سواده راية الإسلام وعدله بفضل تلك الفتوح لنذهب إلى الشام ، حيث كان الصديق ـ رضي الله عنه ـ كان قد بعث عمرو بن العاص لفتح فلسطين ، وبعث أبا عبيدة بن الجراح لفتح حمص ، وبعث الوليد بن عقبة لفتح الأردن ، وبعث يزيد بن أبى سفيان لفتح دمشق ـ رضي الله عنهم جميعا ..
وكان عمرو بن العاص من قبل أميرا على منطقة عُمان بتأمير من النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما احتاجه الصديق لمواجهة المرتدين استدعاه ، ثم رده إلى عمان بعد فتنة الردة ، وقبل أن يصل إليها كتب إليه يقول : إني كنت قد رددتك على العمل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكه مرة ، وسماه لك أخرى ..؛ إنجازا لمواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وُليته ، ثم وُليته ، وقد أحببت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه ؛ إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك ، فكتب إليه عمرو يقول : إني سهم من سهام الإسلام ، وأنت بعد الله الرامي بها ، والجامع لها ، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به شيئا إن جاءك من ناحية من النواحي . (1).
ويوم أن يرى الحاكم أن كل واحد من رعيته سهما يرميه في أي جهة شاء لا بد أن يجابه كل قوى الطغيان أو الشرك ، وهو مطمئن أن سهامه لن تنفد .
وقد لاحظ الصديق أن تقدم الفتوحات الإسلامية بالشام متعثرا بالقياس إلى التقدم السريع الذي حدث بالعراق ، فأمر خالدا بأن يترك جزءا من جيشه بالعراق مع المثنى بن حارثة ، ويرحل هو إلى الشام لمساعدة القادة الذين بعثهم إليها ، وقال له : " أن سر حتى تأتى جموع المسلمين باليرموك فإنهم قد شجوا وأشجوا " فاستجاب خالد لأمره ، ورحل على الفور في جزء من جيشه إلى اليرموك بعد أن استخلف على جند العراق المثنى بن حارثة الشيباني ، فافتتح في طريقه مرج راهط، ثم سار فنزل على قناة بصرى ، وقدّم أبو عبيدة ففتح مدينة بصرى صلحا ، حيث كانت أول ما فتح من مدائن الشام، وفتح هو ( أي خالد ) مدينة تدمر .
ووصل خالد إلى نهر اليرموك حيث كان المسلمون في انتظاره فوجد أن الروم قد احتشدوا لهم في 240 ألفا ، منهم ثمانون ألف مقيد ، وأربعون ألفا مسلسلون للموت ، وأربعون ألفا مربطون بالعمائم ، وثمانون ألف فارس ، وثمانون ألف راجل ، أما المسلمون فكانوا سبعة وعشرين ألفا ، وقد قدم إليهم هو في تسعة آلاف ، فصاروا جميعا ستة وثلاثين ألفا ..
وكان القادة المسلمون من قبل يحارب كل واحد منهم في الجهة التي حددها له الصديق ، فلما اجتمع لهم الروم اجتمعوا هم وتصافوا لهم ، ولكن دون تنسيق بينهم ، فقال لهم خالد : إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي ، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم ، فإن هذا يوم له ما بعده ، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبية على تساند وانتشار ، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي ، وإن من وراءكم ( يقصد الصديق الذي أرسل كل قائد على حده ) لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا ، فاعملوا فيما لم تؤمروا به للذي ترون أنه الرأي . ...
وقال لهم ذلك وهو يوقن أن الصديق لا يهمه في النهاية سوى المصلحة العامة ، ولا يشغله أن يتقيد القادة بأوامره تقييدا أعمى ..
ثم عرض عليهم خالد التصور الأمثل الذي يراه مناسبا لتحقيق النصر على هذا الجم الغفير من قوات الأعداء فقال : اجتمعوا فتكونوا عسكرا واحدا ، والقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين ، فإنكم أعوان الله ، والله ناصر من نصره وخاذل من كفره ، ولن يؤتى مثلكم من قلة ، وإنما يؤتى العشرة آلاف ، والزيادة على العشرة آلاف إذا أتوا فمن تلقاء الذنوب ، فاحترسوا من الذنوب ، واجتمعوا باليرموك متساندين ، وليصل كل رجل منكم بأصحابه(2) .
ولما تصاف الناس للقتال قال رجل لخالد : ما أكثر الروم وأقل المسلمين ، فقال خالد : ما أقل الروم وأكثر المسلمين ، إنما تكثر الجنود بالنصر ، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال ، والله لوددت أن الأشقر ( فرسه ) براء من توجيه ، وأنهم أضعفوا في العدد ، وكان فرسه قد حفي في مسيره من العراق ..
ولا عجب أن يرى خالد 240 ألف جندي أمامه لا شيء ، فإنه الرجل الذي رُبي في مدرسة النبي العسكرية ، وليس في المدارس العسكرية العلمانية التي تضع في حسبانها كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى ، ويرتجفون من عدوهم أكثر من ارتجافهم من الله وقدرته .
كما أن هذا الإحساس بالعظمة لم يكن شعور خالد وحده ، لأن المسلمين لم يكن عندهم فكرة القائد الأوحد الذي تحيا به الشعوب وتموت ، وإنما كان ذلك إحساس كل من شارك في القتال من 36 ألفا ، فهذا عكرمة بن أبي جهل يقف يومئذ ويقول : قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل موطن وأفر منكم اليوم ، ثم نادى من يبايع على الموت فبايعه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم ..
وكان وراءهم الصديق الذي ذكرنا من قبل بعض مواقفه أيام حروب الردة ، كان من وراء هؤلاء يشجعهم ويحضهم ويحثهم على الإقدام حثا ، ويثني عليهم ، لكنه في نفس الوقت يحاسب كل واحد منهم على أدق الهفوات ؛ ليبقى الصف نقيا ، فلا يؤتى من ذنوبه ، فلم ينس ـ رضي الله عنه ـ وهو في غمرة الانتصارات أن يوجه إلى خالد اللوم لاجتهاد اجتهده فأخطأ فيه يوم أن ترك جيشه وذهب للحج سرا ، فقال له : وإياك أن تعود لمثل ما فعلت فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجيك ، ولم ينزع الشجي من الناس نزعك ، فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة ، فأتمم يتمم الله لك ، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل ، وإياك أن تدلُ بعمل فإن الله عز وجل له المن ، وهو ولي الجزاء .(3).
وبينما كان الصديق رضي الله عنه يترقب نتيجة تلك المعركة بين جند الله وجند الروم طرأه المرض فحّم 15 يوما ثم فاضت روحه إلى بارئها ، ورغم اشتداد المرض عليه إلا أن حرصه على مصلحة الإسلام والمسلمين لم يقِل خلال تلك الأيام التي حُم فيها ، فقد أرسل قبيل وفاته إلى عمر الفاروق رضي الله عنه فلما جاءه قال له : اسمع يا عمر ما أقول لك ، ثم اعمل به ، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا ( وذلك يوم الاثنين) فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى ( وكان قد جاءه يطلب منه المدد لمواصلة الفتوح في العراق بعد رحيل خالد بن الوليد ) وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى ، ولا يشغلنكم مصيبة وإن عظمت عن أمر دينكم ووصية ربكم ، وقد رأيتني متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما صنعت ولم يصب الخلق بمثله ، وبالله لو أني أني عن أمر الله وأمر رسوله لخذلنا ولعاقبنا فاضطرمت المدينة نارا ، وإن فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق ، فإنهم أهله ، وولاة أمره وحده ، وأهل الضراوة بهم والجراءة عليهم .(4).
إن المسلم الآن قد يجد في وقته الضيق وهو يؤدي بعض الأعباء ، وربما انشغل بعمل عن باقي الأعمال ، أو انصرف بعمله عن شئون بيته ، ولكنا نرى أبا بكر رضي الله عنه الذي أدار تلك المعارك من المدينة ضد أعتى قوتين في عصره يظل في بداية خلافته ستة أشهر يجمع بين إدارة الدولة والمشي في الأسواق متاجرا ، ثم وجد بعد ذلك أن المسلمين في حاجة إلى كل وقته فقال : لا والله ما تصلح أمور الناس التجارة ، وما يصلحهم إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم ، ولا بد لعيالي مما يصلحهم ، فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم ويحج ويعتمر ..
فقدر له القائمون على بيت المال في كل سنة ستة آلاف درهم ، فعاش بها حتى إذا حضرته الوفاة قال : ردوا ما عندنا من مال المسلمين ، فإني لا أصيب من هذا المال شيئا ، وإن أرضي التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم ، ورضي أن تكون الفترة التي قضاها في إدارة شئون المسلمين حسبة لله دون مقابل .
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن كان في العمر بقية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
*مدير موقع التاريخ الالكتروني
1ـ تاريخ الطبري - (ج 2 / ص 587) .
2 ـ تاريخ الطبري - (ج 2 / ص 594).
3ـ تاريخ الطبري - (ج 2 / ص 602)..
4 ـ تاريخ الطبري - (ج 2 / ص 607)..