(إن الأمر العظيم لايسهل دائما الإحتفاظ به ) قول مأثور
بقيت ذكرى الخلافة الراشدة في أذهان المسلمين حاضرة دائما ، ومافتئوا يقيسون كل حاكم أتى بعد ذلك على هذه الفترة المضيئة السامقة ، بل يقيسون على فترة أبي بكر وعمر خاصة ، وقد استشرف هذه الحالة علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما رأى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يداوي إبل الصدقة بيده فقال : " لقد أتعبت الخلفاء بعدك " وقد صدق رضي الله عنه ، فهذا الخليفة الذي ترتجف منه الفرس والروم ، وفتحت في عهده بلاد فارس والعراق والشام ومصر يداوي إبل الصدقة بيده ، وملبسه خشن ومأكله خشن ، وينام بلا حرس ولا جنود ، هذا لم يعهد أبدا في الدول والحكومات ، والمسلمون الذين طالبوا عثمان رضي الله عنه أن يكون مثل عمر في كل شيء ،هؤلاء لا يدركون أن هذا مخالف لطبيعة وتكوين كل شخص ، عدا عن صعوبة الأمر بحد ذاته لتميز عمر رضي الله عنه بشخصية فذة عبقرية ، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما ربى أصحابه لم يكن ليغير من طبائعهم واستعداداتهم ، ولم يجعلهم نسخا متماثلة ، ولكنه فجر طاقاتهم وأطلقها في الاتجاه الذي يخدم الإسلام ، فعبد الله بن مسعود فقيه عالم ، وخالد فاتح عظيم ، وأبو هريرة حافظ للسنة ، لقد اجتهد عثمان في تولية أقاربه وكانوا أكفاء لهذا العمل ، ولكن عمر لم يفعل ذلك وهذا افضل وأحوط لسياسة الدولة.
إذا كانت الخلافة الراشدة هي القدوة وهي النموذج فإن الذي جرى على أرض الواقع هو أقل من الخلافة الراشدة، والاستمرار على هذه القمة السامقة لم يتحقق ، فالإنسان مركب على النقص والضعف ، ولذلك تحولت الآمال إلى درجة أو درجات دون الخلافة الراشدة ، ولكن مع بقاء العمل بالشريعة والحماية للأمة والحرص على العدل واستقلال القضاء ، ذلك لأن هذه الخلافة نموذج فريد في تاريخ البشرية، ومتى عاشت البشرية _ بعد عهود الأنبياء _ في ظل حكم مثل حكم أبي بكر وعمر، وطريقة عيش هؤلاء الخلفاء معروفة وهي أشهر من أن تسطر هنا .
هذه النظرة الواقعية لما بعد الخلافة الراشدة هي التي جعلت الإمام الذهبي يتحدث عن آماله في القرن الثامن الهجري يقول:" ونحن آيسون اليوم من وجود إمام راشد من سائر الوجوه، فإن يسر الله للأمة بإمام فيه كثرة محاسن وفيه مساوئ قليلة فمن لنا به؟"
وتحدث ابن تيمية عن ملوك بني أمية وبني عباس: "ما قال أهل السنة أن الواحد من هؤلاء كان هو الذي يجب توليته وطاعته في كل ما أمر به، بل كذا وقع، فيقولون ( أهل السنة) : تولى هؤلاء، وكان لهم سلطان وقدرة، وأقاموا مقاصد الإمامة من الجهاد وإقامة الحج و الجمعة والأعياد وأمن السُبل، ولكن لا طاعة في معصية الله"
ويقول أيضاً في معرض الحديث عن توليه الأصلح "فإذا تعيين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوةً قُدم أنفعهما لتلك الولاية وأقلاهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً"
يتولد من عدم فقه هذا الأمر أن المسلمين اليوم لا يحققون شيئاً على أرض الواقع وإنما يلوذون دائماً بعالمٍ غير متحقق، وإني لأحسب أن المسلمين اليوم يجمح بهم الخيال أن يأتي حُكّام متل عمر رضي الله عنه إن مُكن لهم في الأرض، إن الهوة بين الواقع و بين هذا المثال النموذج الذي يجب أن نقترب منه، هذه الهوة لن تعبر أبداً عبوراً كاملاً إلا ما جاء في الحديث عن عودة الخلافة الراشدة قبل نزول المسيح عليه السلام.
إن عدم عبور هذه الهوة لا يُعفي المسلمين من الشعي الدائب للاقتراب من هذا النموذج ومحاولة التحقق به في سياساتهم الشرعية ما أمكنهم ذلك، وهذا السعي شيء إيجابي لأنه يحفّز الهمم ويظل الأمل يراود الناس لحكم فيه عدل و خير ودولة تطبق شرع الله وإن كان فيها أجطاء أو نقص، وهذا أفضل من دولة تحارب الإسلام و المسلمين، يقول الشيخ رشيد رضا:"ولحريةٌ تبيح بعض المنكر ولا تمنع شيء من المعروف أهون من عبودية (استعباد) تنهى عن المعروف وتأمر بالمنكر، فالعبودية تطفئ نور الفطرة البشرية"
إن انشداد المسلمين إلى هذه الفترة الوضيئة يجب ألا يمنعهم من الاهتمام بحاضرهم ، وكيفية التخلص من واقعهم الضعيف ، والتفكير أيضاً بالمستقبل والتخطيط له ، وإذا كان الكلام على الدول فإنه يُقاس عليه الكلام على واقع الدعوات الإسلامية اليوم، فمن كان من القادة أو العلماء عنده علم وتقوى نقبل به ، وإن كانت له هفوات وأخطاء مع المجاهدة دائماً لتحقيق المثال الأفضل.
إن بعض الناس يحاسب العلماء أو الدعاة على أشياء وقع متلها من ملوك الدول الإسلامية سابقاً، وهم يبررون لهم أخطائهم أو يلتمسون لهم الأعذار فلماذا لا نسير بالدعوة سيرها الطبيعي مع معرفة ما يحيط بها ولاستفادة من أخطاء الماضي.