إن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم حازوا السبق والكمال البشريوهذا أمر قدري ، فما كان الله ليرضى لصفوة الأنبياء إلا صفوة الناس فهم الذين صنعهمرسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه ، ورباهم فأحسن تربيتهم ، فكانوا ـ وربي ـ قدوةيقتدى بها ، وأسوة يتأسى بها حيث زكاهم الله وعدلهم ..
فالعلماءمجمعون على أنجهالة الصحابي لا تضر فتغني صفته عن اسمه ، ثم إن الله شهد لهم بالجنة جملة حيث قال" وكلا وعد الله الحسنى كما زكى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمالهم وباركها " لوأنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " وإن الله تعالى ربط هدايتناباتباع هذا الجيل القرآني الفريد فقال : " فإن ءامنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا"..
لذلك سيكون موضوع هذه الورقة هو الإبحار في هذا البحر الزاخر لعلنا نستخرج بشباكنادررا تلمع وتضيء في العلم , والصدق , والتضحية , والبذل وللتنويع لن نكتفي بواحد – وإن كانت فيه الكفاية – وإنما ننوع ذلك ، فنذكر من ابن عباس حرصه وصبره على تعلم العلم، ومن ابن جحش صدقه مع الله ، ومن عاصم بن ثابت حفظه لما أمر الله به ، ومن ثمامة بنأثال توظيف المال لخدمة الإسلام ..
عبد الله بن عباس حبر هذه الأمة وترجمان قرآنها، حدث عنه مجاهد فقال :" كان ابن عباس يسمى البحر من كثرة علمه " وقال ليث بن سليملطاووس : لزمت هذا الغلام يعني ابن عباس وتركت الأكابر من أصحاب رسول الله صلى اللهعليه وسلم ، فقال : إني رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تدارءوافي شيء صاروا إلى ابن عباس ، وأخرج الحاكم عن أبي وائل قال : " حججت أنا وصاحب لي وابنعباس على الحج ، فجعل يقرأ سورة النور ويفسرها ، فقال صاحبي : يا سبحان الله ماذا يخرج منرأس هذا الرجل ؟ لو سمعت هذا الترك لأسلمت ، وأخرج بن سعد عن ابن عباس قال : دخلت على عمربن الخطاب رضي الله عنه يوما فسألني عن مسألة كتب إليه بها يعلى بن أمية من اليمنوأجبته فيها فقال عمر أشهد أنك تنطق عن بيت نبوة .
كان بن عباس قمة في طلب العلمفلزم النبي صلى الله عليه وسلم حتى حظي منه بدعاء " اللهم فقه في الدين وعلمهالتأويل" أقبل على التعلم من الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " لماتوفي النبي صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار : هلم فلنسال أصحاب النبي صلىالله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير فقال : وا عجبا لك يا بن عباس !!أترى الناس يحتاجونإليك وفيهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى ؟ فترك ذلك وأقبلت على المسالة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه ، فتسفي الريحعلى وجهي التراب فيخرج فيراني فيقول : يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاءبك ؟ ألا أرسلت إلي فآتيك ؟ فأقول : أنا أحق أن آتيك ، فأساله عن الحديث ، قال : فبقي الرجل حتىرآني وقد اجتمع الناس علي فقال : كان هذا الفتى أعقل مني وصدق القائل :
بلغت لعشر مضتمن سنيك ما يبلغ الرجل الأشيب
فهمك فيها جسام الأمور وهــــم لداتك أن يلعب
دعاء مستجاب وهمة عالية :
نالابن عباس دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"وقال هو عن نفسه : ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال : " اللهم علمه الحكمة"وكان لهذا الدعاء أثر بالغ في نشأة ابن عباس فهو لا شك شحذ الهمة ، وخفف الرجل ، وكانيقتصر المسافة الطويلة من أجل حديث سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان قويالذاكرة .
ترجم ابن عباس هذه الاستجابة فقال لمن سأله أنى أصبت هذا العلم ؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول ، ولأن العلم بالسؤال والتحري فقد جمع ابن عباس الخصلتين فقالعن نفسه : إن كنت لأسأل عن المسالة الواحدة ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يفحص الإجابة ويناقشها بعقل جريء .
علم ابن عباسأن العلم للعمل فجمع بينهما ، فيقولعنه أبن أبي مليكة : صحبت ابن عباس من مكة للمدينة فكان إذا نزل قام شطر الليل فسألهأيوب ، كيف كانت قراءته ؟ قال قرأ " وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد"فجعل يرتل ويكثر في ذلك النشيج ، ولما سقط الماء في عينيه جاءه الذين ينقبون أييخرجون الماء من العيون فقالوا : نسيل ماءهما لكنك تمكث عن الصلاة خمسة أيام أي قائما، فقال : لا والله !! ولا ركعة واحدة " إني حدثت أنه من ترك صلاة واحدة متعمدا لقي اللهوهو عليه غضبان .
ومن حبر هذه الأمة إلى قائد أول سرية في الإسلام عبد الله بن جحشحيث صدق الله فصدقه الله ، روى إسحاق بن سعد بن أبي وقاص أن عبد الله بن جحش قال لهيوم أحد : ألا ندعو الله ؟ فخلوا في ناحية فدعا عبد الله بن جحش فقال : " يا رب إذالقيت العدو غدا فلقني رجلا شديدا بأسه وحربه أقاتله فيك ويقاتلني ثم يأخذني فيجدعأنفي وأذني ، فإذا لقيتك غدا ، قلت : يا عبد الله لم جدع أنفك وأذنك ؟ فأقول فيك وفي رسولكفتقول صدقت ".
قال سعد : ولقد لقيته آخر النهار وإن أذنه وأنفه لمعلق في خيط ، وقبل ذلككان عبد الله بن جحش هو أول من وخز بشوكة الإسلام ، حيث اختاره رسول الله صلى اللهعليه وسلم أميرا لأول سرية من سراياه التي انتشرت مبلغة دين الله لمن آمن به ، ومنكلةبمن أعرض وأبى فقتلوا وأسروا وغنموا ، وكان ترتيب هذه السرية بين بدر الأولى وبدرالكبرى ، فحين تربى القوم وصلبت أعوادهم استعدوا كامل الاستعداد ، لذلك خرجوا على حيثالمجهول بما فيهم الأمير عبد الله بن جحش ، فالنبي صلى الله عليه وسلم ودعهم وسلمللأمير كتابا وأوصاه " لا تفك هذا الكتاب إلا بعد يومين من المسير نحو جهة كذا"وبعد أن وصل القوم على المكان المحدد (نخلة بين مكة والطائف ) وبعد الفترة المحددة فتحعبد الله الكتاب وقرأه وقال معلقا : سمعا وطاعة . تعرضت سرية عبد الله لعير عمرو بنالحضرمي فقتلت رجلا وأسرت اثنين ، وغنمت العير وعادت سالمة غانمة .
ويتحرج القومويرفع الله الحرج :
كانت الواقعة في اليوم الأخير من رجب الفرد ، فتحدث الناس أن القومانتهكوا الشهر الحرم فقتلوا واسروا وغنموا ، وتحرج القوم حتى أنزل الله فيهم قرآنايرفع الحرج ، ويتلى على يوم القيامة " ويسألونك عن الشهر الحرام قتال فيهإلى.......والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله " الآية
خر عبد الله بنجحش شهيدا في سبيل الله بعدما سن القتل والأسر والغنيمة في سبيل الله .
عاصم بنثابت ، حفظ الله حيا فحفظه الله ميتا ، وهو من أبطال أحد ، حكم السيف في رقاب العدو ، ولنتجد فيه رمية ولا طعنة من خلف ، كان ممن قتل أخوين لأمهما سلافة بنت سعيد بن سهيل، كانت تقول : لئن قدرت عليه لأشربن في قحفه الخمر، فلما استشهد جاءت تطلبه فمنعته الدبر، فلما حالت بينهم وبينه قالت دعوه حتى يذهب عنه فنأخذه ، فلما ذهبوا أرسل الله مطرافذهب به السيل على حيث شاء الله ، فأصبح القوم يبحثون عنه ، وكان عاصم قد جعل لله عهداألا يمسه مشرك وألا يمس مشركا تنجسا ، فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه خبره : حفظ اللهالعبد المؤمن عاصم خروجه في الله ودعاؤه لله فأجاب الله دعاءه : " اللهم إني منعت دينكأول النهار فامنع جسدي آخر النهار ، وفي هذا يقول الشاعر :
وعناية الرحمن تعصم عاصمـامن أن ينال براحة أو إصبع
بالسيل بعد الدبر من أعدائه في مصرع أكرم به من مصـرع
وأخيرا نحط راحلنا مع راحلة من تلك الرواحل ثمامة بن أثال ، حيث توظيف المكانة فيخدمة الإسلام ، كانت قريش تعيش على الرحلات التجارية ، وكان سوق اليمامة من أسواقهاالتي لا تعيش دونها ، وكان ثمامة سيد القوم ، لذلك لما دخل مكة ملبيا أسرعت إليه قريش فيخفة الطير وأحلام السباع يردون قتله ، فلما اقتربوا منه وعرفوه قال بعضهم لبعض : ويحكمأتعلمون من هذا ؟ إنه ثمامة بن أثال ملك اليمامة ، والله إن أصبتموه بسوء ليقطعن قومهعنا الميرة حتى نموت جوعا .
ثمامة الضغط والحصار حتى الإسلام :
بعدما عرفت قريش ثمامةوأغمدوا سيوفهم وأقبلوا إليه بأساليب التشكيك والتشويه أصبأت يا ثمامة ؟ قال لهم: ما صبأت ، وإنما اتبعت خير دين ، ثم قال : لهم أقسم برب هذا البيت إنه لا يصل إليكم بعدعودتي إلى اليمامة حبة من قمحها أو شيء من خيراتها حتى تتبعوا محمدا صلى الله عليهوسلم عن آخركم ، ظل هذا الحصار ممتدا حتى ضاع القوم وجاعوا ، واستشفعوا بالنبي صلى اللهعليه وسلم فوجدوه أخا كريما وابن أخ كريم ..
والله أكبر ولله الحمد