سياسة أبي بكر الصديق في مواجهة الأزمات
إن من الرجال من يُؤتى بسطة في الجسم ؛ فيُرى قوي البدن , مفتول العضلات , فإذا ألمت به ملمة خر كالثور الذبيح , ومنهم من يشتهر عنه العلم والحلم , فإذا نزلت به نازلة تاه في غياهبها , ومنهم من يتظاهر بالتضحية من أجل المبادئ , فإذا وقع في مأزق كان كمن يعبد الله على حرف , إذا أصابه شر انقلب على وجهه , خاسرا دنياه وآخرته ...
ومنهم من يُرى بسيطا متواضا, لا يتميز على الناس في حياته العادية بشيء , فإذا خبرته وجدته جبلا شامخا راسيا , تزول الجبال ولا يزول , تنهار أمامه الشدائد العظام , انهيار المباني العملاقة إذا ما أصيبت بقاذفة نووية , وأحسب أن أبا بكر كان من هذا الصنف...
فقد ذكر البهقي في سننه عن عائشة رضي الله عنها أنها: " قالت قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتدت العرب , واشرأب النفاق بالمدينة , فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها.."( سنن البيهقي الكبرى : جزء 8 - صفحة 200 )وزاد واشرأبت يهود والنصرانية، وبقي المسلمون كالغنم في الليلة المطيرة لفقد نبيهم وقلتهم وكثرة عدوهم...
قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ـ كما نعلم ـ رفيقه في حياته , نشئا معا , وشبا معا , وعملا في مجال التجارة معا , ثم توثقت تلك الصلة أكثر بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم , فصارا متلازمين , تلازما يصحبه حب وإخلاص ووفاء , حب عبر عنه أبو بكر رضي الله عنه بقوله : "شرب رسول الله حتى ارتويت ", وعبر عنه رسول الله بقوله : "إن أمنّ الناس عليّ في بدنه ودينه وذات يده أبو بكر.. " .
وهذه العلاقة الوطيدة جعلته يبكي بمجرد أن سمع رسول الله يقول : " إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا , وبين ما عنده , فاختار ما عنده " وقال : بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا يارسول الله , فكان الرد من رسول الله :" على رسلك ( هون عليك ) يا أبا بكر .."
ورغم ذلك تلقى نبأ وفاته صلى الله عليه وسلم بصبر غير مسبوق , وبتحكم في عواطفه غير معهود ..
وتلك مواقف الرجال , فجزعه على رسول الله لن يعيد إليه الحياة مرة أخرى , إذا فليترك الجزع جانبا , وحبه لرسول الله يجعله يقدم له أفضل ما يرضيه , وليس هناك أرضى لرسول الله من أن يخلفه في أمته بخير .
ففي الوقت الذي سيطر فيه الفزع والبكاء والاندهاش على سائر الصحابة الموجودين عقب سماع نبأ الوفاة , حتى إن الكثير منهم لم يستطع تحمل أثرها ، فمنهم من دُهش فخولط , ومنهم من أُقعد فلم يُطق القيام، ومنهم من أعتُقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية, نرى أبا بكر الصديق ما إن أُعلم بوفاته حتى جاء سريعا من منزل له بالسنح ـ خارج المدينة ـ ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه ـ وهو متمالك لنفسه ـ وقبّله قائلا: "بأبي أنت وأمي طبت حيا ميتا , والذي نفسي بيده لا يذيقنك الله الموتتين أبدا" .
ثم خرج فأتى المنبر فصعده , وحمد الله , وأثنى عليه , ثم قال : ألا من كان يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات , ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت , قال الله تعالى :" وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ " (آل عمران : 144)فتلقاها منه الناس , وصاروا يرددونها , وظل بمن حوله من أهل المدينة , حتى خفف عنهم هول الفاجعة , وفاءوا إلى رشدهم بفيئه , وأمسوا يدربون أنفسهم على الحياة دون رسول الله , وعلى الصبر على فراقه , وانصرفوا إلى مواصلة أمور حياتهم.
بهذا الأسلوب واجه أبو بكر رضي الله عنه تلك الشدة أو الأزمة التي لا يعلم هولها إلا من تفكر في شدة حبه لرسول الله , وارتباطه به الذي كان يجعله يضحي في سبيله بكل شيء حتى النفس والولد .
وجاءت الأزمة الثانية التي لم يفصلها عن الأولى غير لحظات , فوفاة رسول الله بالنسبة له لم تكن مجرد فراق فقط , وإنما ألقت عليه تبعة عظيمة ,وهي مسئولية القيام على أمر المسلمين بعده , وجمعهم تحت خليفة واحد , بطريقة غير سلطوية أو انتزاعية , وهو لم يغب عن ذهنه أن العرب داخل الجزيرة لم يتعودوا أن يخدعوا لحاكم غير نبي , وأن الأنصار في المدينة كانوا يرون أن لهم من فضل السبق إلى الإسلام ونصرته ما يؤلهم لخلافة رسول الله , وقد اجتمعوا بالفعل لبحث هذا الأمر في سقيفة " بني ساعدة " وهموا أن يؤمروا عليهم سعد بن عبادة ...
ولم يغب عن ذهنه الصراع الدموي بين قبيلتي الأوس والخزرج من الأنصار , هذا الصراع الذي لم ينته إلا بمجيء رسول الله , وأن هناك من المنافقين من يطمعون في بعث الفتنة من جديد , وقد رأى في حياة رسول الله كيف حاولوا أكثر من مرة أن يشعلوا النار بينهم .
فنظر في الأمر مع من حضره من المهاجرين بحلمه وهدوئه المعتاد منه , ثم ذهب بهم إلى الأنصار المجتمعين في سقيفتهم , وبعد اطلاعه على ما عزموا عليه , ومعرفة وجهة نظرهم تكلم فلم يترك شيئا أنزل في الأنصار , ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنهم إلا وذكره , وقال : ولقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو سلك الناس واديا , وسلكت الأنصار واديا , سلكت وادي الأنصار , ولقد علمت يا سعد ( ابن عبادة ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد : " قريش ولاة هذا الأمر , فبر الناس تبع لبرهم , وفاجرهم تبع لفاجرهم " فقال له سعد : صدقت .. وأسرع بمبايعته (مسند أحمد بن حنبل جزء 1 - صفحة 5 ) .
فليس هنالك أفضل في المجادلة من ذكر فضائل الطرف الآخر , والثناء عليه بما هو أهله , إذ يجعله يلين أمام من يحادثه , وكان أبوبكر أبرع الناس بعد الرسول في ذلك .
وبتلكم السياسة نجح رضي الله عنه في اجتياز الشدة الثانية التي تحدث عنها أبو هريرة رضي الله عنه بقوله : "والذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله.."
ولم يمض الليل إلا وقد اجتمع المسلمون بالمدينة تحت إمارته , راضين مختارين , لم يشذ عن ذلك فرد واحد , ثم أتته وفود العرب في اليوم التالي مجمعة على بيعته , إلا من ارتد منهم , فقام فيهم خطيبا ـ دون حفل تنصيب أو ...وقال : "أما بعد , أيها الناس ! فإني قد وُليت عليكم , ولست بخيركم , فإن أحسنت فأعينوني , وإن أسأت فقوموني . الصدق أمانة , والكذب خيانة , والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه ـ إن شاء الله ـ والقوي فيكم ضعيف عندي , حتى آخذ الحق منه ـ إن شاء الله ـ لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل , ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء . أطيعوني ما أطعت الله ورسوله , فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم .
ونزل من توه ليستعد للأزمة الثالثة , ألا وهي مجباهة العرب المرتدين , فالكثير من الأعراب في شتى الجزيرة العربية ما إن سمعوا بموت رسول الله حتى انتفضوا وثاروا خالعين ربقة الإسلام من أعناقهم , وطردوا ولاة رسول الله عليهم , وظهر من بينهم من يدعي النبوة , بعد أن ظنوا أن ذلك أفضل طريق لجمع الأعراب السذج عليهم..
روى عروة بن عروة عن أبيه قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب عوام أو خواص , وتوحى مسيلمة وطليحة فاستغلظ أمرهما , واجتمع على طليحة عوام طيء وأسد , وارتدت غطفان إلى ما كان من أشجع , وخواص من الأفناء فبايعوه , وقدمت هوازن رجلا وأخرت رجلا , أمسكوا الصدقة إلا ما من ثقيف ولفها ...وارتدت خواص من بني سليم , وكذلك كسائر الناس بكل مكان ...
وبالطبع فإن خبر تلك الردة قد وصل إلى مسامع الروم الذين كانوا يبحثون عن سبيل للقضاء به على دولة الإسلام قبل أن يقوى صلبها , وقاموا بمحاولات عدة لذلك في غزوة مؤتة وتبوك , كما قتلوا أحد الأمراء العرب الذين دانوا لرسول الله قبيل موته , وهم على استعداد تام لمناصرة أي خارج على الدولة الإسلامية .
واختلفت مواقف الصحابة بالمدينة تجاه تلك الثورات , وأكثرهم خشيء من عاقبة مواجهتها , ورءوا مهادنتهم , بل غلب بعضهم اليأس حتى قال : نعبد ربنا حتى يأتينا اليقين " الموت "إلا أن أبا بكر كان حازما في رأيه , وأصر على مواجهة كل خارج على الإسلام ولو انتمىإليه اسما وأدى بعض الفرائض , وقال : .. والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة , فإن الزكاة حق المال , والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها " (البخاري : رقم 6855).
وإذا كانت الأزمة الأولى قد بينت مدى ما اتصف به أبو بكر من صبر وقدرة على تحمل البلاء , وأن الثانية قد بينت حلمه ورجاحة عقله , فإن تلك الأزمة تنبئ بما ما اتصف به الصديق من شجاعة قل أن توجد في البشر , ويقين ورثه من النبي صلى الله عليه وسلم , نعم . يقين عاشه برفقته يوم الهجرة , ويقين شاهد أثره يوم بدر , ويقين رأى ثمرته يوم الأحزاب , بعد أن كانت كل المؤشرات المادية توحي بأن الإسلام أوشك على الزوال , يقين علمه أن النصر محقق للمسلمين إذا نزعت من بينهم أسباب الهزائم ..
قال عبد الله بن مسعود: " لقد قمنا بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مقاماً كدنا نهلك فيه لولا أن الله من علينا بأبي بكر، أجمعنا على أن لا نقاتل ... ونعبد الله حتى يأتينا اليقين، فعزم الله لأبي بكر على قتالهم، فوالله ما رضي منهم إلا بالخطة المخزية أو الحرب المجلية، فأما الخطة المخزية فأن يقروا بأن من قتل منهم في النار ومن قتل منا في الجنة، وأن يدوا قتلانا , ونغنم ما أخذنا منهم، وأن ما أخذوا منا مردودٌ علينا, وأما الحرب المجلية فأن يخرجوا من ديارهم.
ولما رأى الصحابة من حوله عزمه على مواجهة المرتدين ومدعي النبوة قالوا له : فلتبق جيش أسامة الذي كان رسول الله قد أوصى ببعثه ؛ ليكون عونا لك في حماية المدينة , لأن جيش أسامة جند المسلمين , والعرب قد انتفضت بك , فلا ينبغي أن تفرق عنك جماعة المسلمين ,وألح عليه أسامة في هذا الأمر فقال : ".. إن معي وجوه الناس وحَدّهم، ولا آمن على خليفة رسول الله , وحرم رسول الله والمسلمين أن يتخطفهم المشركون.
فأبى ذلك عليهم أيضا , لا لأنه يستبد برأيه , وإنما لأن رسول الله هو الذي قد أوصى ببعث جيش أسامة قبيل وفاته , ولا يجوز له أن يبدأ عمله بمعصية أمر رسول الله , فيسن سنة سيئة لمن يأتي بعده , وكان شعاره : "والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة , كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته" إضافة إلى أنه كان يضع في حسبانه أنه لن يستطيع أن يعيد الأمن داخل الجزيرة إلا إذا قطع الطريق على الروم وشغلهم بأنفسهم ..
وظن بعض المسلمين أن أسامة قد يعجز عن تحقيق هذا الهدف لصغر سنه , , وأرسلوا له تلك الرسالة عن طريق عمر , فقال له ـ رضي الله عنهما ـ : إن الأنصار أمروني أن أبلغك وأنهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة . فوثب أبو بكر ـ وكان جالسا ـ يأخذ بلحية عمر وقال له :ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب أستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه؟!!..
خرج أسامة بالجيش , وقبل رحيله قال له أبو بكر : "اصنع ما أمرك به نبي الله صلى الله عليه وسلم . ابدأ ببلاد قضاعة ثم ائت آبل , ولا تقصرن من شئ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا تعجلن لما خلفت عن عهده ".
وبعد رحيل أسامة قدم عليه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس في رجال من أشراف العرب , فقالوا : إنه قد ارتد عامة من وراءنا عن الإسلام , وليس في أنفسهم أن يؤدوا إليكم ما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فإن تجعلوا لنا جعلا كفيناكم , فدخل بعض الصحابة عليه , فعرضوا عليه ذلك وقالوا : نرى أن تطعم الأقرع وعيينة طعمة يرضيان بها , ويكفيانك من وراءهما حتى يرجع إلينا أسامة وجيشه ويشتد أمرك , فإنا اليوم قليل في كثير
وهذا الأمر كان من الممكن أن يوجد فرقة بين المسلمين ؛ لتباين وجهة نظرهم معه, ولكن سياسته الحكيمة ـ رضي الله عنه ـ كانت كفيلة بأن تجعلهم يسلمون له بما أراد ..
ووضحت تلك السياسة في قوله لهم : فهل ترون غير ذلك ؟ قالوا : لا .قال : قد علمتم أن من عهد نبيكم إليكم المشورة فيما لم يمض فيه أمر من نبيكم , ولا نزل به الكتاب عليكم , وأنا رجل منكم تنظرون فيما أشير به عليكم , وإن الله لن يجمعكم على ضلالة , فتجتمعون على الرشد في ذلك , فأما أنا فأرى أن ننبذ إلى عدونا , فمن شاء فليؤمن , ومن شاء فليكفر , وألا ترشون على الإسلام , فنجاهد عدوه كما جاهدهم .. وأما قدوم عيينة وأصحابه إليكم فهذا أمر لم يغب عنه عيينة , هو راضيه ثم جاء له , ولو رأوا ذباب السيف لعادوا إلى ما خرجوا منه , أو أفناهم السيف فإلى النار , قتلناهم على حق منعوه , وكفر اتبعوه , فقالوا له : أنت أفضلنا رأيا , ورأينا لرأيك تبع ...
ولكن المشكلة الحقيقية لم تكن في اعتراض هؤلاء الصحابة , وإنما في كيفية مواجهة هؤلاء المارقين , لذا أسرع من فوره بوضع خطة لمواجهة أي خطر قد يحيق بالمدينة , فوضع على مداخلها نفرا (عليا والزبير وطلحة وعبدالله بن مسعود ) ليراقبوا له الطرق , وأعلن بالمدينة حالة التعبئة العامة , وألزم الجميع بحضور المسجد ..
وقال لهم : إن الأرض كافرة , وقد رأى وفدهم ( من كان مع عيينة ) منكم قلة , وإنكم لا تدرون أليلا تؤتون أم نهارا , وأدناهم منكم على بريد , وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم , وقد أبينا عليهم , ونبذنا إليهم عهدهم , فاستعدوا وأعدوا ..
وصدق حدسه فما لبث عيينة والأقرع إلا ثلاثا حتى طرقا المدينة بمن معهما ليلا ؛ طمعا في الغارة على المسلمين وخلفوا بعضهم بمكان يسمى "ذا حسى " ليكونوا لهم ردءا , لكنه خرج إليهم بمن معه , فما طلع الفجر إلا والمسلمون والعدو في صعيد واحد , ووضعوا المسلمون فيهم السيوف , وولوهم الأدبار وغلبوهم على عامة ظهرهم , ثم تتبعوا المتربصين حول المدينة , فكان أول الفتح , وعز المسلمون بتلك الوقعة ..
عاد جيش أسامة بعد ستين يوما تقريبا ظافرا غانما , وبعوده عادت الطمانينة إلى قلوب المسلمين بالمدينة , وعلموا أن الصواب كان في إصرار أبي بكر على طاعة أمر رسول الله مهما كلفه من شدائد , أما أبو بكر فلم يركن قليلا ؛ لأنه كان كما قلنا يسابق الزمن فاستخلف أسامة على المدينة , وقال له ولجنده : أريحوا وأريحوا ظهركم , ثم خرج إلى المرتدين في مكان يسمى بذي القصة , فقال له المسلمون : ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرض نفسك , فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام , ومقامك أشد على العدو , فابعث رجلا , فإن أصيب أمّرت آخر , فقال : لا والله لا أفعل ولأواسينكم بنفسي ..وصار حتى لقي بني عبس وذبيان , وجماعة من بني عبد مناة بن كنانة , فلقيهم بالأبرق , فقاتلهم فهزمهم الله وفلهم .
ثم رجع إلى المدينة , وكان جيش أسامة قد استراح , وثاب من حول المدينة من الأعراب , فجيش الجميع , وعقد أحد عشر لواء على أحد عشر جندا , وسير كل قائد إلى ناحية من نواحي الجزيرة , ليحارب على كل الجهات بطريقة غير معروفة ولا مألوفة .
وكتب إلى قبائل العرب المرتدة كتابا واحدا , يذكرهم فيه بترك الغي والعودة إلى هدي ربهم , وأصى كل قائد من قواده أن يقرأءه على من يمروا به , وأمرهم ألا يقاتلوا أحدا حتى يدعونهم إلى داعية الله , فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحا قبل منه وأعانه عليه , ومن لم يجب قتل وقوتل , ولم يمر عام على ولايته إلا والجزيرة العربية كلها قد أدانت له , وفاء أهلها إلى الله سبحانه وتعالى , بل وانطلق أبناؤها مجاهدين ينشرون الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ,
ونجح الصديق رضي الله عنه بذلك في التغلب على كل ما واجهه من صعاب وشدائد , وتمثلت عوامل نجاحه في : ثقته البالغة بنفسه , وشجاعته الفائقة غير المتهورة , ونظرته الثاقبة للأمور ,وتعامله مع المشكلة من شتى جونبها, وقدرته عالية على إقناع من حوله ,وحرصه الشديد على تنفيذ أمر رسول الله , وفوق كل ذلك ثقته بالله سبحانه وتعالى وتسليمه بقضائه وقدره , ويقينه بأن النصر حليف المؤمنين لا يوخر إلا بسبب فيهم وليس في قوة أو كثرة عدوهم , كما قال تعالى بما كسبت أيديكم.