من بدائع تهكُّم الجاحظ الذَّاتي وروائعها قِصَّتَاه فيمن أخجله وغلبه، ولطرفتهما فقد شـاعتا شـيوعاً كبيراً حَتَّى تكاد لا تجـد مثقفاً ورُبَّما غير مثقف إلا وقد حفظ إحـداهما على أقل تقدير،
قال الجاحظ : ما أخجلني أحدٌ إلا امرأتان، رأيت إحداهما في العسكر، وكانت طويلة القامة، وكنتُ على طعام، فأردت أن أمازحها، فقلت لها: انـزلي كلي معنا، فقالت: اصعد أنت حَتَّى ترى الدُّنيا!!
وأما الأخرى فإنَّها أتتني وأنا على باب داري فقالت: لي إليك حاجة وأريد أن تمشي معي، فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صائغٍ يهودي وقالت له: مثل هذا!!! وانصرفت. فسألته عن قولها فقال: إنَّها أتت إليَّ بفصِّ وأمرتني أن أنقش لها عليه صورة شيطان! فقلت لها: يا سيدتي ما رأيت الشَّيطان؟!! فأتت بك وقالت ما سمعت؟!!
فإني كنت مجتازاً في بعض الطَّريق فإذا برجلٍ قصيرٍ بطينٍ، كبير الهامة طويل اللحية، مؤتزر بمئزر، وبيده مشط يمشِّطها، فقلت في نفسي، رجلٌ قصيرٌ بطينٌ ألحى! فقلت: أيها الشَّيخ، لقد قلت فيك شعراً! فترك المشط من يده وقال: قل. فقلت:
كَأَنَّكَ صَعْوَةٌ فِي أَصْلِ حُشِّ أَصَابَ الحُشَّ طشٌّ بَعْدَ رشِّ
فقال: اسمع جواب ما قلت: فقلت هات، فقال:
كَأَنَّكَ جُنْدُبٌ فِي ذَيْلِ كَبْشٍ تَدَلْدَلَ هَكَذَا وَالكَبْشُ يَمْشِـي
و أما قصَّتَهُ مع الجارية السِّنديَّة، فقد أعيته بعجزها عن النُّطق السَّليم، فاضطرته إلى الاستسلام والانسحاب.
قال: أتيت منـزل صديقٍ لي فطرقت الباب فخرجت إليَّ جارية
سنديَّةٌ فقلت :
ـ قولي لسيِّدك: الجاحظ بالباب.
ـ فقالت: أقول الجاحد بالباب؟ على لغتها.
ـ فقلت: لا، قولي: الْحَدَقِيُّ بالباب.
ـ فقالت: أقول الْحَلَقِيُّ بالباب؟
ـ فقلت: لا تقولي شيئاً، ورجعت.