ااخي / اختي:هل تذكرت النفخ في الصور؟ والبعث يوم النشور؟ وتطاير الصحف؟ والعرض على الجبار – جل جلاله؟- والسؤال عن القليل والكثير؟ والصغير والكبير؟ والفتيل والقطمير؟ ونصب الموازين لمعرفة المقادير؟ ثم جواز الصراط، ثم انتظار النداء لفصل القضاء إما بالسعادة، وإما بالشقاوة، "فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ"[الشورى: من الآية7]، "فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ[هود:106-108].
اخي / اختي: من أي الفريقين تحب أن تكون؟ فجدير بمن الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده، ألاَّ يكون له فكر إلا في ذلك، ولا استعداد إلا له.
فيا أخي الحبيب، إن العمر قصير، والسفر طويل، والزاد قليل، والعقبة كؤود، والعبد بين حالين: حال مضى لا يدري ما الله صانع فيه؟ وحال آت لا يدري ما الله قاضٍ فيه؟ فإن كان الأمر كذلك، فعلى صاحب البصر النافذ أن يتزود من نفسه لنفسه، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، ومن صحته لمرضه، ومن فراغه لشغله، ومن غناه لفقره، ومن قوته لضعفه، فما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، "فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ" [القارعة:6-11].
فمن أصلح ما بينه وبين ربه كفاه الله ما بينه وما بين الناس، ومن صدق في سريرته حسنت علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، فلا بد من وقفة جادة للمحاسبة مع مطلع هذا العام الهجري الجديد، فالمحاسبة الصادقة هي ما أورثت عملاً صادقاً ينجيك من هول المطلع في ساحة العرض على أحكم الحاكمين.
عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" ، فكان ابن عمر –رضي الله عنهما- يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" أخرجه البخاري(6416).
فيا غافلاً عن مصيره، يا واقفاً مع تقصيره، سبقك أهل العزائم وأنت في بحر الغفلة عائم، وقف على باب التوبة وقوف نادم، ونكس الرأس بذل وقل: أنا ظالم، وناد في الأسحار، وقل: مذنب وراحم، وتشبه بالصالحين إن لم تكن منهم وزاحم، وابعث بريح الزفرات سحاباً ودمعاً ساجماً، وقم في الدجى داعياً، وقف على باب مولاك تائباً، واستدرك من العمر ما بقي ودع اللهو جانباً، وطلق الدنيا والمعاصي والمنكرات إن كنت للآخرة طالباً. فيا أخي الحبيب: اخل بنفسك وحاسبها حساباً عسيراً، عن كل إساءة صدرت منك في هذا العام، واجتهد في التخلص من تلك العيوب واستبدلها بما يزينك من كل جميل وحسن، وافتح صفحة جديدة مع الله؛ عسى الله أن يتحمل عنك التبعات.
كتب عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- إلى بعض عماله يقول له: (حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة؛ فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضاء والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة).
وقال الحسن البصري – رحمه الله تعالى-: (لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه، ماذا أردت أن تعملي ؟ ماذا أردت أن تأكلي؟ وماذا أردت أن تشربي؟ والفاجر يمضي قدماً لا يحاسب نفسه).
وقال ميمون بن مهران – رحمه الله تعالى-: (لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه ذهب بمالك).
وقال مالك بن دينار – رحمه الله تعالى-رحم الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله – عز وجل- فكان لها قائداً).
ومحاسبة النفس تنقسم إلى قسمان، قسم قبل العمل، وقسم بعده.
أما الأول:فهو أن يقف العبد عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له أيمضي أم يترك، قال الحسن البصري – رحمه الله تعالى-: (رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره توقف).
أما القسم الثاني:وهو محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع:
أحدهما: محاسبة النفس على طاعة قصرت فيها في حق الله –تعالى-فلم تؤدها على الوجه المطلوب، وحق الله في الطاعة ستة أمور وهي:
1-الإخلاص.
2-متابعة النبي – صلى الله عليه وسلم-.
3- النصيحة لله.
4- شهود مشهد الإحسان في هذه الطاعة.
5-شهود منة الله عليك في توفيقك لهذه الطاعة.
6-شهود تقصيرك فيها.
فيحاسب العبد نفسه: هل وفىّ هذه المقامات كلها في كل طاعة يقوم بها؟ أم لا؟.
الثاني:أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً من فعله.
الثالث:أن يحاسب نفسه على أمر مباح، أو معتاد لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون ذلك رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح، ويفوته الظفر به.
وتكون محاسبة النفس على هذا النحو الذي ذكره الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى-:
أولاً: البدء بالفرائض، فإذا رأى فيها نقصاً تداركه.
ثانياً: ثم المناهي، فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية.
ثالثاً: محاسبة النفس على الغفلة، ويتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله – جل جلاله-.
رابعاً: محاسبة النفس على حركات الجوارح من كلام اللسان ومشي الرجلين، وبطش اليدين، ونظر العينين، وسماع الأذنين، وغيرها، ماذا أردت بهذا؟ ولمن فعلت؟ وعلى أي وجه فعلته؟.
أخي /اختي: إن محاسبة النفس أمر عسير لكنه يسير لمن يسره الله لذلك، وهناك أمور تعين العبد على محاسبة النفس، ومن أبرزها وأهمها:
(1) استشعار رقابة الله على العبد واطلاعه على خطاياه، فإذا علم العبد ذلك استيقظ من غفلته وقام من رقاده، وقويت إرادته على محاسبة نفسه ومجاهدتها.
(2) معرفة العبد أنه كلما اجتهد في محاسبة نفسه اليوم استراح من ذلك غداً، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً.
(3) بذكر الحساب الأكبر والسؤال بين يدي الجبار –جل جلاله- يوم القيامة فإذا علم العبد أنه مسؤول بين يدي الله فيجب أن يعد لكل سؤال جواب، ومن هنا كان العبد أشد محاسبة لنفسه.
(4) معرفة العبد ربح محاسبة النفس، ومراقبتها وهي سكنى الفردوس الأعلى، والنظر إلى وجه الرب – سبحانه- ومجاورة الأنبياء، والصالحين، وأهل الفضل، وأن عدم المحاسبة تفقده هذا كله، وتفوته عليه وليس بعد ذلك خسارة.
(5) النظر فيما يؤول إليه من ترك محاسبة النفس ومراقبتها من الهلاك والدمار، ودخول النار، والحجاب عن رؤية الرب – سبحانه- ومجاورة أهل الكفر والضلال والخبث – عياذاً بالله-.
(6) صحبة الأخيار الذين يحاسبون أنفسهم ويطلعونه على عيوب نفسه، وترك صحبة من عداهم.
(7) النظر في سيرة المصطفى – صلى الله عليه وسلم- وصحابته – رضي الله عنهم- ومعرفة أخبار وسير أهل المحاسبة، والمراقبة في سلفنا الصالح.
(8) زيارة القبور والتأمل في أحوال الموتى الذين لا يستطيعون محاسبة أنفسهم أو تدارك ما فاتهم.
(9) حضور مجالس العلم والوعظ والتذكير، فإنها تدعو إلى محاسبة النفس.
(10) قيام الليل، وقراءة القرآن بتدبر وخشوع، وحضور قلب، والتقرب إلى الله –تعالى- بأنواع الطاعات.
(11) البعد عن أماكن اللهو والغفلة والمجون والعربدة فإنها تنسي الإنسان محاسبة نفسه.
(12) ذكر الله –تعالى- ودعاؤه بأن يجعلك من أهل المحاسبة والمراقبة.
(13) سوء الظن بالنفس، فإن من حسن ظنه بنفسه نسي محاسبتها، أو غفل عن ذلك، وربما إذا رأى العبد بسبب حسن ظنه بنفسه أن عيوبه ومساوئه كمالاً، وهذا أدعى لعدم المحاسبة.
أخي /اختي: إن من التزم بما سبق فإنه وبفضل الله لا يعدم بأن يجني ثمار تلك المحاسبة سواء في الدنيا أو في الآخرة، وفوائد محاسبة النفس كثيرة جداً منها على سبيل المثال لا الحصر:
(1) الاطلاع على عيوب النفس وآفاتها، ومن لم يطلع على عيوب نفسه لم يمكن إزالتها.
(2) التوبة والندم وتدارك ما فات في زمن الإمكان.
(3) معرفة حق الله –تعالى- فإن أصل محاسبة النفس هو محاسبتها على تفريطها في حق الله –تعالى-.
(4)انكسار العبد وزلته بين يدي ربه –تبارك وتعالى-.
(5)معرفة كرم الله –تعالى وعفوه ورحمته بعباده في أنه لم يُعجل عقوبتهم مع ما هم عليه من المعاصي والمخالفات.
(6) مقت النفس والإزراء عليها، والتخلص من العجب والرياء والسمعة.
(7) الاجتهاد في الطاعة وترك العصيان لتسهل عليه المحاسبة فيما بعد.
(8) رد الحقوق إلى أهلها وسل السخائم، وحسن الخلق، وهذه من أعظم محاسبة النفس .
أخي /اختي:فحق على الحازم العاقل، المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها، وسكناتها، وخطراتها، وخطواتها، فكل نَفَسٍ من أنفاس العمر جوهرة نفيسة يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز، لا يتناهى نعيمه أبد الآباد، وإضاعة هذه الأنفاس أو شراء صاحبها ما يجلب هلاكه خسران عظيم، لا يسمح بمثله إلا جاهل، بل هو من أجهل الناس وأحمقهم، وأقلهم عقلاً وفهماً، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن "يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ"[آل عمران:30].
وبهذه الروح الإيمانية، والنفس اليقظة نستقبل عامنا الهجري الجديد، وكلنا عزم على استدراك ما فات، والعمل على إرضاء الله – جل وعلا- في جميع أحوالنا، هذا والله أعلم، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.