الحمد لله الذي خلق الخلق وأجرى عليهم ما قدره في كل زمان ومكان، أحمده وأشكره على جزيل الإنعام وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الفضل والامتنان، وأشهد أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خير من صلى وصام وطاف بالبيت الحرام اللهم صل وزد وبارك وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الكرام؛... أما بعد...
فها نحن نعيش هذه الأيام وقد أشرقت عليها شمس جديدة هي شمس العام 1431هـ لنقف أمام عامٍ كامل قد انصرم، عامٍ قد تصرمت أيامه، وتفرقت أوصاله، وقد حوى بين جنبيه حِكماً وعبراً ، وأحداثاً وعظات،، ومنح ومحن؛ كم بلاء فيه قد رفع؟ وكم نعمة فيه قد نزلت؟ كم غائب فيه قد حضر؟ وكم حاضر فيه قد غاب؟ كم حق فيه قد اغتصب؟ وكم أرض فيه قد استبيحت؟،وكم طفل فيه قد تيتّم؟، وكم من زوجة فيه قد ترمّلت؟،وكم من سليم فيه قد مرض؟ وكم مريض فيه قد شفيّ؟ كم من مولود فيه قد ولد وكم ومن ميت فيه قد دفن؟ كم سعد فيه من أُناس، وكم تعس فيه من آخرين؟هذا يتمنى انقضاء عمره؟ وذاك يتمنى خلود يومه!!
أيام تمر على أصحابها كالأعوام *** وأعوام تمر على أصحابها كالأيام
فهكذا هي الأيام.. ودوام الحال من المحال، هذا بفضل الله قد عزَّ وهذا بأمر الله قد ذلَّ، تغيّرت أحوال، وتبدلت أمور فسبحان ربي ما أحكمه، سبحانه ما أجلّ صنعه، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويعطي بفضله وحكمته من يشاء، ويمنع بعدله من يشاء، وربك يخلق ما يشاء ويختار ..
والسؤال الذي يطرح نفسه علينا الآن: هل مرور عام من أعمارنا.. أي نقصان عام من عمرنا الدنيوي أمر يستوجب الاحتفال؟
قبل أن نجيب عن هذا السؤال: يجب أن نعرف أولاً أن الذي وضع التقويم الهجري لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم، كما لم يضعه أبي بكر الصديق- رضي الله عنه؛ وإنما الذي وضعه هو الفاروق عمر بن الخطاب- رضي الله عنه، حينما جاءته رسالة مكتوب فيها حررت في رجب، فقال رضي الله عنه: أي رجب؟؟ فأدرك ضرورة أن يكون هناك تقويمٌ للمسلمين، فأقره- رضي الله عنه واختار له أن يبدأ بهجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم، ولعل هناك من يسأل لماذا اختار له غرة محرم ولم يختر له أن يكون غرة شوال أول أيام عيد الفطر المبارك، يوم فرحة المسلمين مثلاَ؟ أقول: إن عمر- رضي الله عنه وكذلك باقي أصحاب نبيينا محمد صلى الله عليه وسلم كانوا فقهاء بالسجيّة؛ فعمر رضي الله عنه يفرق بين اليوم الذي يشرع فيه للمسلم أن يفرح ويلعب ؛ وبين اليوم الذي يشرع له فيه أن يقف مع نفسه ويحاسبها؟!
فمرور عام من عمرنا الدنيوي يستوجب منا وقفة محاسبة لنقف أمام هذا العام وقفة صادقة نعلم فيها أن لنا فيه ما نعلم من أنفسنا، ونعلم أن هذه الوقفة هي طوق النجاة وسبيل الهدايا، فمن كان منا محسناً فعليه إن يزيد في إحسانه، ومن كان مقصرا فعليه أن يستغفر وينيب يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } [الحشر:18]. ذكر ابن كثير في تفسيره: ( أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم)
فـإذا كنــت بالأمسِ اقتـرفت إسـاءةً --- فــــثَنَّ بإحسـانٍ وأنـت حميـــدُ
فيومــك إن أغنيتـه عــاد نفعــه --- علـيك وماضـي الأمسِ ليس يعود
ولا تُرجِ فعـل الخـيرِ يوماً إلى غدٍ --- لعــل غــداً يــأتي وأنــت فقيــدُ
جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس..))
والسلامي قيل: أنها المفصل أو العظمة، فإذا كان في جسم الإنسان 360 عظمة ومفصل؛ ففي كل يوم تطلع فيه الشمس يصبح على كل نفس 360 صدقة فإذا ضرب في 355 وهو عدد أيام السنة الهجرية لكان مجموع ما على كل نفس 127800صدقة. هذا بعيدا عن الفروض والذنوب والكفارات وغيرها..
وبالقياس إذا قال لك أحدهم هل نقطع مفصل إصبعك أم نقلع عينكِ أيهما تختار؟ لا شك أنك ستختار المفصل..؛ فهل المفصل عليه صدقة والعين لا؟ ؛ فالعين أولى، والكبد أولى، والقلب أولى، وهذا ما يسمى في الفقة بقياس الأولى؛ فهذه نعم لم نُلهم شكرها؛ فإذا ألهِِمنا شكرها وحمد الله عليها؟؛ فهل شكرناه – سبحانه- على هذا الإلهام؟! فهكذا يجد العبد نفسه في سلسلة متواصلة من النعم التي تستوجب منه الشكر المستمر يقول الله تعالى : {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم:34].
وبذلك يجد المسلم نفسه فقيرا إلى الله، فقيرا إلى عطاياه، يجد نفسه يسابق إلى الخيرات، ويهتبل الفرص، ويبحث عن كل ما يقربه من مولاه، ويبحث عن مواسم الخير فيغتنمها.
عاشوراء غنيمة المسلم :
إن الله سبحانه يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، يختار من خلقه من شاء لتبليغ الرسالة، ولذلك قال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ...} [الحج:75] وقال تعالى: {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [ الإنعام:124]، ويختار كذلك من الأزمنة ما يفضله على ما سواه، ويختار من الأمكنة ما يفضله على ما سواه، وقد اختار من الأزمنة مواسم الخير في السنة ففضَّلها وشرَّفها تشريفاً بليغاً يظهرُ فيما ينزل فيها من الرحمات والبركات وفيما يبارك فيها من الأعمال الصالحة، ففضل ليالياٍ على ليال، وأياما على أيام، وأشهرا على أشهر ومنها هذا الشهر الكريم شهر الله المحرم، في هذا الشهر يوم فضيل، يوم قد شهد حدثا عظيما، ونصرا مبينا، أظهر الله فيه الحق على الباطل، فقد أنجى الله فيه موسى عليه الصلاة والسلام وقومه وأغرق فرعون وقومه، فهو يوم له فضيلة عظيمة وحرمة قديمة، هذا اليوم العاشر من شهر الله المحرم إنه عاشوراء.
عاشوراء بين الإسلام والأمم السابقة:
سبق معنا أن بينا فضل وعظمة وحرمة هذا اليوم؛ فقد كان أهل الكتاب يصومونه من قبلنا، وكذلك قريش كانت تصومه، وتكسو فيه الكعبة، وقيل: إن هذا مما بقي لهم من دين الحنيفية، وروي عن عكرمة: "أن قريشاً أذنبت ذنباً في الجاهلية، فعظم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك عنكم".؛ بل قد كان نبيينا صلى الله عليه وسلم يصوم عاشوراء بمكة قبل الهجرة.
وعندما قدم المدينة صلى الله عليه وسلم وجد اليهود يعظمون هذا اليوم ويجعلونه عيداً، فسألهم صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى فنحن نصومه لذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (نحن أولى بموسى منهم)، روى ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: ((قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليوم الذي تصومونه قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً لله فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم : فنحن أحق وأولى بموسى منكم فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه (([ متفق عليه].
فضل صيام يوم عاشوراء:
قد وردت أحاديث كثيرة عن فضل يوم عاشوراء والصوم فيه وهي ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في حديث الربيع بنت معوذ قالت: ((من كان أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة كان أصبح منكم مفطراً فليتم بقية يومه، فكنا بعد ذلك نصوم ونصوّم صبياننا الصغار منهم، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياها حتى يكون عند الإفطار) [متفق عليه]. وفي رواية: ( فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة نلهيهم حتى يتموا صومهم). وعن معاوية – رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفط)).[ متفق عليه].
ومن فضائل صيام يوم عاشوراء أنه يكفر ذنوب السنة التي قبله، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي قتادة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عاشوراء فقال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) [ صحيح مسلم].
وقد عزم النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره على أن لا يصومه مفرداً بل يضم إليه يوماً آخر مخالفةً لأهل الكتاب في صومه، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال :" حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا : يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع" . قال : فلم يأتِ العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم" [رواه مسلم ].
مراتب صيام يوم عاشوراء: قال ابن القيم رحمه الله تعالى مراتب الصوم ثلاثة:
• أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم.
• ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر. (والذي عليه أكثر الأحاديث).
• ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم.
والأحوط أن يصام التاسع والعاشر والحادي عشر حتى يدرك صيام يوم عاشوراء.وهذا ما ذهب إليه بن عباس رضي الله عنه.
بدع يوم عاشوراء:
مازال إبليس بالعبد حتى يجعله يدخل في شرع الله ما لم يأمر به، فألبس على كثير منا أمور وكلفهم بأعمال لم تثبت عن نبيينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومنها ما ابتدعه البعض في يوم عاشوراء فبعدوا عن المنهج الحق وعن الهدي الصحيح فضلوا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؟
ومن المخالفات التي تقع من بعض المسلمين في هذا اليوم: الاكتحال، والاختضاب، والاغتسال، والتوسعة على الأهل والعيال وكذلك صنع طعام خاص بهذا اليوم كتبادل طبق عاشوراء، وكل هذه الأعمال قد ورد فيها أحاديث موضوعة وضعيفة.
ومن بدع هذا اليوم أيضاً : تخصيصه بدعاء معين، وكذلك ما يعرف عند أهل البدع برقية عاشوراء، وأيضاً ما يفعله الشيعة والرافضة في هذا اليوم من أعمال بشعة من إيذاء النفس، واحتفالات سوداء لا أصل له في الشرع.
رزقنا الله وإياكم حسن الاتباع وحسن القول والفعل ، وختم أعمارنا بالخيرات ، وأعمالنا بالصالحات ، وصل اللهم على نبيينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم