اليوم و بعد ثمان و أربعين سنة من الاستقلال ما تزال الذهنية الجزائرية تجتر الشعارات الرنانة المزيفة، و لغة الخشب دون أن تبدي أية نيّة في التغيير و تصحيح الأخطاء و الأوضاع ، و تحديد موقفها من تجريم الاستعمار و إجبار فرنسا على الاعتذار للشعب الجزائري و إخراج الجزائر من الوصاية الفرنسية
يمثل الحادي عشر من كانون ألأول ( ديسمبر) 1960 من التواريخ الخمسة الحاسمة من أجل استقلال الجزائر ، و في هذا اليوم نزل الشعب الجزائري إلى شوارع المدن الجزائرية كهولا و شيوخا حتى نساءً و أطفالا ، خرجوا عزلا، لا يحملون إلا إيمانهم بقضيتهم و هم يرددون : " الجزائر عربية مسلمة" ، فكانت مظاهرات لإثبات الذات ، و في هذا اليوم قرر الشعب الجزائر أن يقرر مصيره بيده و أن تكون "الجزائر جزائرية "، لم تكن هناك خطابات سياسية، ولم تكن هناك تناحرات و انشقاقات حزبية أو صفقات تجارية و قوائم انتخابية تمرر تحت الطاولات، بل كانت إرادة جماعية في نيل الاستقلال، لأنهم آمنوا بأن الفشل بضاعة لا يستهلكها إلا الجبناء، و هو الشعار الذي قاله عبان رمضان: " من يفشل في الأول يضيع" عندما ألحق بجبهة التحرير الوطني فرحات عباس الذي كان متخوفا من عدم تكافؤ ميزان القوى و الوسائل بين الجزائر و فرنسا التي كانت تنفق آلاف الملايير من أجل الكفاح في الجزائر..
لا يمكن أن ينسى من عايش الثورة ممارسات الاستعمار الفرنسي من نهب للأراضي، و حرق للقرى و المداشر و تخريب و تعذيب و اغتصاب، تعرض خلالها الشعب الجزائري لأبشع المجازر فاقت وحشية العنف الفرنسي للجزائر كل وصف، و مواجهة أقوى دولة كان يعتبر جنونا هكذا كان يقول الملاحظون للشعب الجزائري و لكن بالإرادة و العزيمة كان النصر حليفه..
يجرنا الحديث عن هذه الممارسات إلى اتفاقيات الصداقة بين الجزائر و فرنسا بعد الاستقلال و رفض تقديم هذه ألأخيرة اعتذارها للجزائريين، و بدلا من الاعتراف بجرائمها تصدر قانونا تمجد فيه الاستعمار و يصادق عليه برلمانها في 23 فيفري 2005..، الفرق بين طبعا بين دولة تحترم شعبها و تطبق قوانينها و دولة يتردد برلمانها في المصادقة على قانون تجريم الاستعمار، يقول الأستاذ يوسف فرحي في كتابه: "فرنسا صاحبة اللطافة" أنه ليس هناك صداقة مع فرنسا، بل يمكن أن تكون هناك مصالح متبادلة، لأن مصلحة فرنسا أن تبقى الجزائر مستعمرة بشكل أو بآخر فكريا و ثقافيا حتى اقتصاديا، و أنه على المؤرخين و الباحثين و المثقفين و سياسات كل الدول ـأن يتفقوا على كتابة " الكتاب الأبيض " للاستعمار لأن العولمة تفرض ذلك،و هذا يعني أن الشعب الجزائري ملزم بطي صفحة الماضي و أن ينسى الشعب و بخاصة الفئات المتضررة ( الأسرة الثورية ) الثمن الذي دفعوه بالأمس و يدفعه اليوم أبناؤهم..
"المرتزقة " أي ( الحركى) الذين قدموا خدماتهم لفرنسا و الموجدون حاليا داخل و خارج الجزائر وحدهم على ما يبدو المستفيدين من الثورة، و ما زادهم قوة المراسيم الفرنسية التي تصدر بين الحين و الآخر لتحسين أوضاعهم ثمن تعاونهم معها، و السماح بإنشاء الجمعيات التي تهتم بشؤونهم، جعلت غالبية الشباب اليوم يكفر بذاكرته و يختار الموت عبر قوارب الموت و هو عنوان للقطيعة بين المواطن و التاريخ، و بين الدولة و الشعب..
الجزائر اليوم كما يقول خليفة بن قرعة في كتابه" الجزائر و الصديق اللدود" آراء في العلاقات الجزائرية الفرنسية " منكوبة " برجالاتها و سياساتها، فهل يمكن أن نكتفي بالكلمات و ترديدها في كل مناسبة وطنية لتحديد الضمير الجماعي بأكمله و نثبت بأن ثمة نوايا حسنة، إذا ما اعتقدنا أن المسؤولية شاملة و أصيلة، اليوم و بعد ثمان و أربعين سنة من الاستقلال ما تزال الذهنية الجزائرية تجتر الشعارات الرنانة المزيفة، و لغة الخشب دون أن تبدي أية نيّة في التغيير و تصحيح الأخطاء و الأوضاع ، و تحديد موقفها من تجريم الاستعمار لإخراج الجزائر من الوصاية الفرنسية
"من أنا إلى نحن و من نحن إلى أنا" تبقى الحركة مستمرة في مذكرات مولود فرعون التي طبعت بعد موته ، لإعادة النظر في كل شيء عندما يعود الوعي الوطني، و عندما ينهض الوعي الثوريّ، و يلتف الجميع حول المحررين الذين قاتلوا و ماتوا من أجل قضية اسمها "الوطن" فزرعوا حماس "الجهاد" في القلوب و جروا الجماهير وراء علم ساطع اسمه العدالة الاجتماعية لبناء دولة قوية لا تزول بزوال الرجال، يكون فيها كما قال محمد الصديق بن يحي " التوليد الشامل" الذي يمحو التناقضات التي غرس النظام الاستعماري جذورها، و بعث التغيير الجذري الذي سطرته رسالة مليون و نصف مليون شهيد ، حُلـْمٌ قد يتحقق و لكن..