إِذا جادتِ الدنيا عليكَ فجُدْ بها على النـاسِ طـراً إِنها تَتَقَلَّبُ
فلا الجود ُيفنيها إِذا هي أقبلت ولا البخلُ يُبْقيها إِذا هي تَذْهَبُ
بين الكرم والتضحية ارتباط وثيق وصلة قوية؛ فالمجاهد يجود بنفسه - وهذا غاية الجود - والمتحرر من شهوة المال، الباسط يده في أبواب البر والإحسان، قد يكون أقدر على الجهاد؛ لما يؤصله الكرم في النفس من معاني التضحية والإيثار.
ولأن الكرم له مجالاته المشروعة، فإن بذل المال في غيرها قد لا يكون كرمًا، ولذلك يقول ابن حجر: "والجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي وهو أعم من الصدقة". وضده الشح الذي يعني البخل مع مزيد من الحرص.
وصاحب الكرم لا بد أن يكون شديد التوكل، عظيم الزهد، قوي اليقين. ولذلك فإن الكرم مرتبط بالإيمان ظاهره كرم اليد ودافعه كرم النفس، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن بقوله: "المؤمن غرّ كريم، والفاجر خبّ لئيم". [صحيح سنن الترمذي]، وفي حديث آخر: "...ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا" [صحيح سنن النسائي].
وأعظم صور الكرم ما يكون مع الفقر والحاجة وقلة ذات اليد، وهذه كانت من أخلاق العرب في الجاهلية، فهذا حاتم الطائي الذي يضرب به المثل في الجود والكرم،قالت زوجه:أصابت الناس سنة أذهبت الخف والظلف وقد أخذني وإياه الجوع وأسهرنا،فأخذت سفانة-ابنته-،وأخذ عديا وجعلنا نعللهما حتى ناما فأقبل علي يحدثني ويعللني بالحديث حتى أنام فرفقت به؛لما به من الجوع،فأمسكت عن كلامه لينام فقال لي :أنمت؟فلم أجبه،فسكت ونظر في فناء الخباء،فإذا شيء قد أقبل،فرفع رأسه فإذا هي امرأة فقال: ما هذا؟فقالت:يا أبا عدي أتيتك من عند صبية يتعاوون كالكلاب،أو كالذئاب جوعا،فقال لها أحضري صبيانك فوالله لأشبعنهم،فقامت سريعة لأولادها،فرفعت رأسي وقلت:يا حاتم بماذا تشبع أطفالها فوالله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل؟فقال والله لأشبعنك وأشبعن صبيانك وصبيانها،فلما جاءت المرأة نهض قائما وأخذ المدية بيده وعمد إلى فرسه فذبحه ثم أجج نارا،ودفع إليها شفرة و قال:قطعي واشوي،وكلي،وأطعمي صبيانك،فأكلت المرأة وأشبعت صبيانها،فأيقظت أولادي وأكلت وأطعمتهم.فقال والله إن هذا للؤم؛تأكلون وأهل الحي حالهم مثل حالكم؟ثم أتى الحي بيتا بيتا يقول لهم: انهضوا ،عليكم بالنار،فاجتمعوا حول الفرس وتقنع حاتم بكسائه وجلس ناحية،فوالله ما أصبحوا وعلى وجه الأرض منها قليل ولا كثير إلا العظم والحافر،ولا والله ما ذاقها حاتم وإنه لأشدهم جوعا.فانظر رعاك الله هذه أخلاق العرب في الجاهلية وأهلُ الإيمان بها أولى.
وقد ورد أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس لي من شيء إلا ما أدخل علي الزبير أفأعطي؟" قال: "نعم، لا توكي فيوكى عليك" [صحيح سنن الترمذي]. وعلى قلة ما يدخل عليها أشار عليها بالعطاء وبعدم الإحصاء ليبارك في الرزق ولمزيد من التوكل.
وجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم بلحم، أتدرون ممن كان، كان من بريرة الفقيرة ومن صدقة قُدِّمت إليها: "قال: ما هذا؟ قالوا: شيء تُصُدّق به على بريرة. فقال: " هو لها صدقة ولنا هدية" [صحيح سنن أبي داود]. فقد كان الواحد منهم لا يملك إلاَّ قوت يومه ولكنه كريم، وحين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل.." [صحيح سنن أبي داود].
إن ديننا بماله من أهداف عظيمة ليحتاج إلى النفوس الكريمة التي يفيض خيرها على الأقربين، وينصب في الإعداد والجهاد "أفضل الدينار: دينار ينفقه الرجل على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله" [ صحيح سنن الترمذي].
قد تنطلق نفحات الكرم من فاقد الأمل بالدنيا حين يشرف على الموت. ولكن الكرم الحقيقي لصاحب قوة البدن، وطول الأمل، ودواعي الحرص محيطة به من كل جانب، لذلك حين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: أن تَصَّدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى..." [صحيح البخاري]. قال ابن حجر: ولما كانت مجاهدة النفس على إخراج المال مع قيام مانع الشح دالاً على صحة القصد وقوة الرغبة في القربة كان ذلك أفضل من غيره، وليس المراد أن نفس الشح هو السبب في هذه الأفضلية.[فتح الباري 3/285].
من الصفات المميزة لمن تأصلت فيه خصلة الكرم أنه لا يرد أحدًا يسأله، وقد كان هذا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما سئل عن شيء قط فقال لا". [صحيح البخاري]. حتى حين أهديت إليه بردة وكان محتاجًا إليها رآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه فاكسنيها. قال: "نعم". فلام الصحابة ذلك الرجل قائلين له: "..أخذها محتاجًا إليها ثم سألته إياها وقد عرفت أنه لا يُسأل شيئًا فيمنعه؟ فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم لعلي أكفَّنُ فيها" [صحيح البخاري].
والكرم من صفات الرب سبحانه وتعالى، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم حيي كريم، يستحيي من عبده أن يرفع إليه يديه؛ فيردهما صفرًا". أو قال: "خائبتين" [صحيح ابن ماجه]. وعباد الله الصالحون يمنعهم حياؤهم وكرمهم من رد حاجة العبد من عباد الله.
ومن أوجب الكرم معاملة الكرام بما يستحقون كما في الحديث: "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه" [صحيح الجامع]. وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الضيافة - كمظهر من مظاهر الكرم - بتحريك المشاعر الإيمانية: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه.." [صحيح سنن الترمذي]. ومن كانت المادة قد التهمته واستولت على قلبه وجعلته يعد ويحصي ويحجم عن المكارم استبقاء لما في الجيب وحذرًا مما يأتي به الغيب فلا خير فيه، يقول صلى الله عليه وسلم: "لا خير فيمن لا يضيف" [صحيح الجامع].
وقد كانت السمعة والصيت عند أبناء الجاهلية عرضًا يخشون عليه أن يمسّ، فيتحدث الناس عنهم بما لا يحبون، فكانوا يهينون أموالهم حفاظًا على سمعتهم:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه لابارك الله بعد العرض في المال
وعزّز الإسلام خيار الأخلاق فقال صلى الله عليه وسلم: "ذُبُّوا عن أعراضكم بأموالكم" [صحيح الجامع].لقد ربى الإسلام أبناءه على الجود والكرم فرأينا منهم عجبا،فهذا قيس بن سعد بن عبادة لما مرض استبطأ إخوانه في العيادة،فسأل عنهم فقيل له:إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين.فقال:أخزى الله مالا يمنع عني الإخوان من الزيارة،ثم أمر مناديا ينادي :من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل،فكسرت عتبة بابه من كثرة الزوار.
وهذا عبدالله بن جعفر رضي الله عنه يخرج هو والحسنان،وأبو دحية الأنصاري رضي الله عنهم من مكة إلى المدينة ،فأصابتهم السماء بمطر ،فلجأوا إلى خيمة أعرابي فأقاموا عنده ثلاثة أيام حتى سكنت الماء ،فذبح لهم الأعرابي شاة ،فلما ارتحلوا قال عبد الله للأعرابي:إن قدمت المدينة فسل عنا.فاحتاج الأعرابي بعد سنين ،فقالت له امرأته:لو أتيت المدينة فلقيت أولئك الفتيان .قال قد نسيت أسماءهم.قالت فسل عن ابن الطيار .فأتى المدينة فلقي الحسن رضي الله عنه فأمر له بمائة ناقة بفحولها ورعاتها.ثم أتى الحسين فقال قد كفانا أبو محمد مؤونة الإبل
،فأمر له بألف شاة ،ثم أتى عبدالله بن جعفر فقال:قد كفاني إخواني الإبل والشياه ،فأمر له بمائة ألف درهم،ثم أتى الرجل أبا دحية رضي الله عنه فقال:والله ما عندي مثل ما أعطوك ولكن ائتني بإبلك فأوقرها لك تمرا فلم يزل اليسار في عقب الأعرابي منذ ذلك اليوم.فأي كرم هذا؟!!!.
إن الناس بفطرتهم لا يحبون الشحيح البخيل، وإذا لم تتحقق المحبة لم تنفتح القلوب للاستجابة والاستقبال، وقد ورد بهذا المعنى: "السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد من النار. والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة، قريب من النار. ولَجَاهِلٌ سخي أحب إلى الله تعالى من عابدٍ بخيل" [ضعيف].
ومما يعين المرء على اكتساب صفة الكرم وتأصيلها في نفسه أن يستحضر صفة ربه عز وجل: "إن الله تعالى جواد يجب الجود، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها"[صحيح الجامع]، "إن الله كريم يحب الكرماء، جواد يحب الجَوَدة..."[صحيح الجامع]، "إن الله كريم يحب الكرم"[صحيح الجامع]. ومن لا يحب أن يكون كما يحب الله؟!
وإن في تأمل الحياة العملية للرسول القدوة - صلوات الله وسلامه عليه - ما يفجر معاني الجود والكرم في قلب المتبع المحب. جاء في الحديث: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس..."[صحيح البخاري]. كما ورد بمثل هذا المعنى: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة" [صحيح البخاري]. وجوده هذا كان سبب إيمان الكثيرين، ومحبة الكثيرين، واحترام العدو والصديق. وما على حملة الدعوة إلا أن تكون الدنيا أحقر ما يكون في أعينهم لتفيض بها أيديهم، وليعم الخير من حولهم.
وللشيطان نصيب كبير في قلب البخيل الشحيح. ولذلك شرع لنا الاستعاذة بالله من هذه الصفات الشيطانية، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ دبر كل صلاة: "اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن..." [صحيح سنن النسائي]. ولعل السر في تلاحق وصف البخل والجبن أن من عز ماله أن يصرفه في وجوه الخير فبخل، طبيعي من مثله أن تعز عليه روحه أن يزهقها في سبيل الله فيجبن. والجود بالنفس أسمى غاية الجود.
وإذا افتقدت الأمة الجود بالمال والجود بالنفس فقد سارت في طريق الهلاك لما جاء في الحديث: "إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح: أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا" [صحيح سنن أبي داود].
وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفات شرار الخلق في آخر الزمان، وكان من صفاتهم الشح: "يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، ويكثر الهرج..." [صحيح البخاري]. ولأن الكرم صفة قلبية تنعكس على السلوك فإن المريض بالشح مريض بالقلب يقعد به بخله عن البناء، ويحجزه الشح عن المبادرة، ويغدو يأخذ ولا يعطي، وماذا بعد ذلك من شر؟ لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شرّ ما في رجل شحّ هالع، وجبن خالع" [صحيح سنن أبي دواد].
وقد عدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الموبقات فذكر منها: "الشرك بالله، والشح.." [صحيح سنن النسائي]. وعدّ المهلكات فذكر فيها: "هوىً متبع، وشحٌ مطاع، وإعجاب المرء بنفسه" [صحيح الجامع].
تميزالجيل الأول بزهده ويقينه فصعد؛ فما هي سنن السقوط والهلاك؟ يقول صلى الله عليه وسلم: "صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل" [ السلسلة الصحيحة برقم3427]. قبض اليد والإحجام عن المبادرة والامتناع عن تقديم أي جهد، ثم بعد كل ذلك بناء الأحلام الكبيرة والآمال العريضة، ذلكم تشخيص هلاك الدنيا فهل صرنا إليه؟
أما في الآخرة فإن الكانز لمال دون أن يؤدي حق الله فيه يخيل له المال يوم القيامة بصورة "شجاع أقرع يفر منه صاحبه وهو يتبعه يقول له: هذا كنزك الذي كنت تبخل به..."[صحيح سنن النسائي].
إذا لم يكن خلق الكرم يميز عامة أبناء الإسلام العاملين لنصرته فلن تجتمع حولهم القلوب ولن يحظوا بالثقة. وحين تكرم النفوس وتتخلص من رق الدنيا. ويصغر في عينها كل متاع تنجذب إليها القلوب، وتعظم في الأنظار، ويتسابق الناس في الجود والكرم لا في الحرص والشح، وعندئذ نكون أهلاً للتمكين بإذن الله تعالى.