إنه الخليفة الذي تمكن من القضاء على ظاهرة الفقر ، إنه عمر بن عبد العزيز الخليفة الأُموي الذي عم الرخاء في عهده ، حتى أنه لم يبق للفقر وجود في مملكته الممتدة الأطراف، وإنه لم يصل إلى تحقيق هذا الحلم الذي لا يصدق في عالمنا اليوم إلا بأمور وعوامل افتقدها الخلفاء والملوك بعده ، ومنها أنه ولي الخلافة وهو لها كاره ، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال :" لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها وكلت إليها ، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها " (متفق عليه)، فلما تولاها من غير مسألة أو رغبة أعانه الله تعالى عليها وقضى عنه حاجته وبلغه مراده.
وكذلك فقد كان رحمه الله مقدِّرا حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه من أول يوم ، إذ لما بايعه الناس واستقرت خلافته انفلت وهو مهتم مغموم ، فقال له خادمه : مالك هكذا مغتما مهموما ، وليس بوقت هذا ! يريد أنه يوم فرح وسرور ، فقال له ويحك ! ما لي لا أغتم وليس أحد من أهل المشارق والمغارب من هذه الأمة إلا وهو يطالبني بحقه أن أؤديه إليه ، كتب إلى في ذلك أو لم يكتب ، طلبه مني أو لم يطلب.
وكان رحمه الله يخاف أن يكون له خصم من المظلومين أو الفقراء يوم يلقى ربه عز وجل، وقد دخلت عليه زوجته فاطمة يوما فوجدته جالسا في مصلاه واضعا خده على يده ودموعه تنهمر على خديه، فقالت له: ما بك فقال ويحك يا فاطمة قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والعاري المجهود واليتيم المكسور والأرملة الوحيدة والمظلوم المقهور والغريب الأسير والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير والمال القليل وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعلمت أن لا حجة عند خصومته فرحمت نفسي فبكيت".
فهذه أول العوامل التي جعلته يصل إلى ما وصل إليه، وممن حكى لنا توصله إلى القضاء على ظاهرة الفقر القاضي يحيى بن سعيد الأنصاري الذي قال بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية ( يعني تونس حاليا) فاقتضيتها ، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد بها فقيرا ، ولم نجد من يأخذها مني ، ثم قال : قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس ، فاشتريت بها رقابا (أي عبيدا) فأعتقتهم وجعلت ولاءهم للمسلمين. وكذلك كتب يوما إلى والي الكوفة الذي أخبره ببقاء مال فاضل من المال ليس له مستحقون فقال له : "أعط منهم من كان عليه دين في غير فساد، أو تزوج فلم يقدر على نقد والسلام".
ولا يظنن ظان أن تعمير بيت المال في عهده كان بطرق غير شرعية أو تعسفية في حق أرباب الأموال كالضرائب والمكوس ونحوها، فقد كتب إلى العمال في البلدان تعليمة عامة شاملة للأمور المالية للدولة وجاء فيها :" وأما المكس ( وهو الضريبة التي تفرض على التجار) فإنه من البخس الذي نهى الله عنه فقال: (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِين)(هود85) غير أنهم كنوه باسم آخر".
ومما ينبغي الوقوف عنده في سياسته الاقتصادية أنه كان قد منع أصحاب النفوذ في الدولة، من الأمراء والولاة أن يشتغلوا في التجارة ، لأنهم إن فعلوا ذلك استغلوا جاههم لصالح تجارتهم وتعسفوا في استعمال سلطتهم، وذلك طريق انتشار الفساد في المعاملات، ومن ثم استئثار طائفة من الناس بالمال دون غيرهم، وفي ذلك من الفساد في المجتمع ما لا يخفى، وقد جاء في التعليمة المشار إليها آنفا: "ولا يحل لعامل (الوالي) تجارة في سلطانه الذي هو عليه، فإن الأمير متى يتجر يستأثر ويصب أمورا فيها عنت وإن حرص على أن لا يفعل".
وأما هو من جهته فإنه لما تولى الخلافة أحصى جميع أملاكه لا ليصرح بها أمام الملأ، ولكن قام فباعها كلها، ولم يُبق إلا ما لا بد منه لحاجته، وجعل ثمن تلك الأملاك التي قدرت بأكثر من أربعين ألف دينار ذهبي كلها في سبيل الله، وإنما مكنه من ملء بيت المال حرصه على تحكيم شرع الله وعدله وإنصافه، ومن غريب ما يحكى عنه أن عامله في اليمن كتب إليه بأنه أضاع دنانير من بيت المال فرد عليه بقوله : "إنما أنا حجيج المسلمين في مالهم"، وأمره بأن يخلف من ماله غيرها، نعم ولم يقل ما يقال في مثل هذه الأيام :" ما قيمة دنانير في ميزانية الولاية أو الدولة فإنها لا تفي تكلفة مأدبة عشاء أو حفل ساهر بالغناء". وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.