الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فإن أعظم العبادات
عبادات القلوب ومن أعظم عبادات القلوب الإخلاص لله تعالى، وهي عبادة مشترطة
مع جميع أعمال القلوب والجوارح فلا تصح إلا بها، ومن حقق الإخلاص جزاه
الله تعالى خير الجزاء، وأوصله إلى ثمار هذه الطاعة في الدنيا والآخرة، وإن
الله تعالى شكور يشكر العباد على أحسن أعمالهم، وفيما يأتي ذكر لأهم
الثمار التي يجنيها المؤمن من تحقيق عبادة الإخلاص.
1-الإخلاص مفتاح النجاة
إن تحقيق الإخلاص مفتاح النجاة يوم القيامة، إذ هو شرط من شروط كلمة لا إله إلا الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّه" (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم :" أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ" (رواه
البخاري)، فمن أراد أن يصح إسلامه واستسلامه لله تعالى فليقل هذه الكلمة
لا يريد بها إلا رضوان الله تعالى، وليجتنب مظاهر الشرك الأكبر والأصغر،
قال الله تعالى:( وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين)
(البينة:5) وقال:( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ
الْخَالِصُ) (الزمر:2-3).
2-قبول الأعمال
ليس كل من أتى بالعبادة تقبل منه ويجازى عليها، ولكن من أخلص فيها واتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك:2) وأحسنه أخلصه وأصوبه، وقال صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه" (رواه النسائي وأبو داود).
3-تصيير كل الأعمال عبادة لله تعالى
من الأعمال ما هو عبادة وهو حق الله تعالى على العباد والإخلاص فيها واجب،
ومنها ما هو عمل عادي يفعله العبد بحكم فطرته وجبلته، فهذا لا يجب فيه
الإخلاص لكن بالنية الصالحة يصير قربة يتقرب بها إلى الله عز وجل، كما قال
معاذ رضي الله عنه:" إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي" يعني أنه ينوي
بنومه التقوي على القيام في آخر الليل فيحتسب ثواب نومه كما يحتسب ثواب
قيامه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" نفقة الرجل على أهله وهو يحتسبها صدقة" (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص:" إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك» (متفق عليه). فكل عمل يقوم به الإنسان يستطيع أن يصيره بالإخلاص طاعة لله تعالى وهذا من فضل الله تعالى على عباده.
4-تكفير السيئات
ومن ثمرات الإخلاص مغفرة الذنوب وتكفير السيئات مهما كثرت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" (متفق
عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم:"صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ
تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ
ضِعْفًا وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ
خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ لَمْ
يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ
بِهَا خَطِيئَةٌ فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي
عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ
ارْحَمْهُ وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ
الصَّلَاةَ"(رواه البخاري).
5-مغفرة الكبائر
مما هو معلوم أن الحسنات كفارة للسيئات دون الكبائر ، لكن الإخلاص إذا
اقترن ببعض الأعمال الصالحة أعطاها قوة فتمحو السيئات جميعا بما فيها
الكبائر، كما في حديث صاحب البطاقة، حيث أن حسنة واحدة عملها وهي كلمة لا
إله إلا الله قالها خالصا من قلبه ولم يأت بما ينقضها رجحت في الميزان على
تسع وتسعين سجلا من السيئات، وليس لكل من قال لا إله إلا الله ولكن كما قال
ابن تيمية في الفتاوى(10/735) :" فهذا لما اقترن بهذه الكلمة من الصدق
والإخلاص والصفاء وحسن النية، إذ الكلمات والعبادات وإن اشتركت في الصورة
الظاهرة فإنها تتفاوت بحسب أحوال القلوب تفاوتا عظيما ومثل هذا الحديث الذي
في حديث المرأة البغي التي سقت كلبا فغفر الله لها فهذا لما حصل في قلبها
من حسن النية والرحمة إذ ذاك، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: إن
العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له
بها رضوانه إلى يوم القيامة وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن
أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة".
6-بلوغ منازل العاملين
من الناس من يعجز عن بعض الطاعات وهو يتمناها ويود أن يقوم بها ، فيجازيه
المولى عز وجل على حسن نيته بأن يبلغه منزلة العاملين، قال صلى الله عليه
وسلم:" إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ
مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ
رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ
الْمَنَازِلِ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا، وَلَمْ يَرْزُقْهُ
مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا
لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ"
(رواه الترمذي). ومعنى قوله "يتقي فيه ربه" أن مكسبه من حلال ومصرفه فيما
يجب ويحل. ومعنى "فأجرهما سواء " أي في أصل الأجر، وإلا فالعامل يستحق
المضاعفة كما قال صلى الله عليه وسلم:" مَنْ
هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً وَمَنْ هَمَّ
بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ
ضِعْفٍ" (متفق عليه).
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة تبوك : "إِنَّ
أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا، وَلَا
وَادِيًا، إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ" (متفق عليه) وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ
أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ
فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ
نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ" (رواه
النسائي مرفوعا وموقوفا) وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ
قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم:" الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" (متفق عليه).
7-تحقيق السعادة
ومن ثمار الإخلاص أن العبد يكتسب به السعادة في الدنيا قبل الآخرة، قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم:" مَنْ
كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ
لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتْ
الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ
عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ
لَهُ". (رواه الترمذي وابن ماجة) فمن كان مخلصا لله تعالى لا يهمه أن تقبل الدنيا أو تدبر، لأنه يريد وجه الله واليوم الآخر.
8-حلاوة الإيمان
ومن
ثمار الإخلاص أن يجد العبد حلاوة الإيمان في قلبه ، وذاك من أعظم الأسباب
المورثة للسعادة، وقد أرشد إلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال :" مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَجِدَ طَعْمَ الْإِيمَانِ فَلْيُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" (رواه أحمد وإسناده صحيح).
9-تطهير النّفس من الغلّ والحقد
ومن ثماره تطهير النفس من الغل والحقد، وذلك موجب لراحة البال وسلامة الصدر وقوة الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم : "ثَلَاثٌ
لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ،
وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ
الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ" (رواه الترمذي وابن ماجة).
10-تحقيق النصر الموعود به
ومن آثار الإخلاص أن تنال العزة وتحقق الأمة النصر الموعود به فقد قال تعالى: (وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (النّور:55). فجعل إخلاص العبادة لله تعالى شرطا في تحقيق وعده سبحانه، وقال صلى الله عليه وسلم:" إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ» (رواه النسائي).
11-توفيق الله وحفظه
ومن ثمار تحقيق الإخلاص الظفر بتوفيق الله تعالى وحفظه، فصنائع المعروف
وعلى رأسها إخلاص العمل لله تعالى تقي مصارع السّوء، وقد قال تعالى حكاية
عن إبليس: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص:82-83). قال عز وجل عن يوسف: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف:24).
ومن شواهد هذا في السنة الصحيحة قصة الثلاثة الذين سدت عليهم صخرة غارا
آووا إليه، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ
إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ ! فتوسل كل واحد
منهم إلى الله تعالى بأخلص عمل قام به فذكر الأول أنه كان له أبوان
شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، فكان يسقيهما في المساء قبل أهله فتأخر يوما حَتَّى
نَامَا، فجاء باللبن فلبث وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيه ينْتَظِرُ
اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا
اللبن.
وَذكر الثاني أنه كَانَتْ لِه بِنْتُ عَمٍّ يحبها، فأصابتها حاجة فجاءته
تطلب مالا فأعطاها على أن تُخَلِّيَ بَيْنِه وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فلما
اقترب منها قَالَتْ: اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه ، فقام عنها وتركها
وترك لها المال.
وَذكر الثالث أنه استأجر أُجَرَاءَ، فَأَعْطاهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ
رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّر أَجْرَهُ حَتَّى
كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ، فَجَاءَه بَعْدَ حِينٍ وطلب أجره فقال لَهُ:
كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ
وَالرَّقِيقِ ! فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ، وكان كل واحد يدعو ويقول
:" اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ
فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ". فتنفرج الصخرة شيئا حتى دعا الثالث
فخرجوا وأنجاهم الله بصالح أعمالهم ( الحديث متفق عليه) قال ابن
القاسم:"اتقوا الله فإن قليل هذا الأمر يعني العلم مع تقوى الله كثير
وكثيره مع غير تقوى الله قليل" قال بعض السلف : الإخلاص يورث الفهم عن الله
عز وجل، ومما يؤثر عن مكحول :"ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع
الحكمة من قلبه على لسانه".
12- محبة الله تعالى
وأعظم آثار الإخلاص على الإطلاق الفوز بمحبة الله تعالى، فإن الله تعالى
يحب المؤمنين المتقين والصادقين المخلصين، قال صلى الله عليه وسلم:" إن الله يحب المؤمن التقي الغني الخفي" (رواه مسلم) الغني غني النفس، والخفي العابد المشتغل بإصلاح نفسه الذي لا يحب الشهرة والظهور، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الكاتب محمد حاج عيسى الجزائري