الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه ، أما بعد :
فإن الباعث لكتابة هذه الرسالة هو النصح والتذكير بفريضة الزكاة ، التي تساهل بها الكثير من المسلمين فلم يخرجوها على الوجه المشروع مع عظم شأنها ، وكونها أحد أركان الإسلام الخمسة التي لا يستقيم بناؤه إلا عليها ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " بُني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت " متفق على صحته
* وفرض الزكاة على المسلمين من أظهر محاسن الإسلام ورعايته لشئون معتنقيه ، لكثرة فوائدها ، ومسيس حاجة فقراء المسلمين إليها
فمن فوائدها : تثبيت أواصر المودة بين الغني والفقير ، لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها
ومنها : تطهير النفس وتزكيتها ، والبعد بها عن خلق الشح والبخل ، كما أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [ التوبة : 103 ] 0
ومنها : تعويد المسلم صفة الجود والكرم والعطف على ذي الحاجة 0
ومنها : استجلاب البركة والزيادة والخلف من الله ، كما قال تعالى : { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين } [ سبأ : 39 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وســـلم في الحديث الصحيح : " يقول الله عز وجل : يا ابن آدم ، أنفق ننفق عليك ." إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة 0
وقد جاء الوعيد الشديد في حق من بخل بها أو قصر في إخراجها ، قال الله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } [ التوبة : 34، 35] .
* فكل مال لا تُؤدَّى زكاته فهو كنز يعذب به صاحبه يوم القيامة ، كما دل على ذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفحت له صفائح من نار فأٌحمي عليها في نار جهنم ، فيُكوى بها جنبه وجبينه وظهره ، كلما بردت أٌعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله ، إما إلى الجنة، وإما إلى النار " .
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الإبل والبقر والغنم الذي لا يؤٌدي زكاتها، وأخبر أنه يعذب بها يوم القيامة .
* وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعنى : شدقيه - ثم يقول : أنا مالك ، أنا كنزك " ، ثم تلا النبي صلىالله عليه وسلم قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما ءاتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرٌ لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } [ آل عمران : 180] .
والزكاة تجب في أربعة أصناف : الخارج من الأرض من الحبوب والثمار ، والسائمة من بهيمة الأنعام ، والذهب والفضة ، وعروض التجارة .
ولكل من الأصناف الأربعة نصاب محدود لا تجب الزكاة فيما دونه .
فنصاب الحبوب والثمار : خمسة أوسق ، والوسق : ستون صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون مقدار النصاب بصاع النبي صلى الله عليه وسلم من التمر والزبيب والحنطة والأرز والشعير ونحوها : ثلاثمائة صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أربع حفنات بيدي الرجل المعتدل الخلقة إذا كانت يداه مملوءتين .
* والواجب في ذلك العشر إذا كانت النخيل والزروع تسقى بلا كلفة ، كالأمطار ، والأنهار ، والعيون الجارية ، ونحو ذلك .
أما إذا كانت تسقى بمؤونة وكلفة ، كالسواني والمكائن الرافعة للماء ونحو ذلك ، فإن الواجب فيها نصف العشر ، كما صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما نصاب السائمة من الإبل والبقر والغنم : ففيه تفصيل مبين في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي استطاعة الراغب في معرفته سؤال أهل العلم عن ذلك ، ولولا قصد الإيجاز لذكرناه لتمام الفائدة .
وأما نصاب الفضة : فمائة وأربعون مثقالاً ، ومقداره بالدراهم العربية السعودية : ستة وخمسون ريالاً .
ونصاب الذهب : عشرون مثقالاً ، ومقداره من الجنيهات السعودية : أحد عشر جنيها وثلاثة أسباع الجنيه ، وبالغرام اثنان وتسعون غراماً 0 والواجب فيهما ربع العشر على من ملك نصاباً منهما أو من أحدهما وحال عليه الحول 0
والربح تابع للأصل ، فلا يحتاج إلى حول جديد ، كما أن نتاج السائمة تابع لأصله فلا يحتاج إلى حول جديد إذا كان أصله نصاباً 0
* وفي حكم الذهب والفضة الأوراق النقدية التي يتعامل بها الناس اليوم ، سواء سميت درهماً أو ديناراً أو دولاراً ، أو غير ذلك من الأسماء ، إذا بلغت قيمتها نصاب الفضة أو الذهب وحال عليها الحول وجبت فيها الزكاة .
* ويلتحق بالنقود حُليُّ النساء من الذهب أو الفضة ، خاصة إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول فإن فيها الزكاة ، وإن كانت معدة للاستعمال أو العارية في أصح قولي العلماء ، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من صاحب ذهب أو فضة لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار " .. إلى آخر الحديث المتقدم .
* ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى بيد امرأة سوارين من ذهب ، فقال: " أتعطين زكاة هذا ؟ " قالت : لا ، قال : " أيسُرك أن يُسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار ؟ " فألقتهما ، وقالت : هما لله ولرسوله 0 أخرجه أبو داود، والنسائي ، بسند حسن .
* وثبت عن أم سلمة رضي الله عنها ، أنها كانت تلبس أوضاحاً من ذهب ، فقالت : يارسول الله ، أكنز هو ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " ما بلغ أن يُزكّى فزكي فليس بكنز " ، مع أحاديث أخرى في هذا المعنى .
أما العروض : وهي السلع المعدة للبيع ، فإنها تقوّم في آخر العام ، ويخرج ربع عشــــر قيمتها ، سواءً كانت قيمتها مثل ثمنها أو أكثر أو أقل ، لحديث سمرة قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع " رواه أبو داود .
ويدخل في ذلك : الأراضي المعدة للبيع ، والعمارات ، والسيارات والمكائن الرافعة للماء ، وغير ذلك من أصناف السلع المعدة للبيع .
* أما العمارات المعدة للإيجار لا للبيع ، فالزكاة في أجورها إذا حال عليها الحول ، أما ذاتها فليس فيها زكاة، لكونها لم تُعد للبيع ، وهكذا السيارات الخصوصية والأٌجرة ليس فيها زكاة إذا كانت لم تُعد للبيع ، وإنما اشتراها صاحبها للاستعمال .
* وإذا اجتمع لصاحب سيارة الأجرة أو غيره نقود تبلغ النصاب فعليه زكاتها ، إذا حال عليها الحول ، سواءً كان أعدها للنفقة ، أو للتزوج ، أو لشراء عقار ، أو لقضاء دين ، أو غير ذلك من المقاصد ، لعموم الأدلة الشرعية الدالة على وجوب الزكاة في مثل هذا .
والصحيح من أقوال العلماء : أن الدين لا يمنع الزكاة لما تقدم .
وهكذا أموال اليتامى والمجانين تجب فيها الزكاة عند جمهور العلماء إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول ، ويجب على أوليائهم إخراجها بالنية عنهم عند تمام الحول ، لعموم الأدلة ، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ لما بعث إلى أهل اليمن : " إن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم ، تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم " .
* والزكاة حق الله لا تجوز المحاباة بها لمن لا يستحقها ، ولا أن يجلب الإنسان بها لنفسه نفعاً أو يدفع ضراً ، ولا أن يقي بها ماله أو يدفع بها عنه مذمة ، بل يجب على المسلم صرف زكاته لمستحقيها ، لكونهم من أهلها ، لا لغرض آخر ، مع طيب النفس بها ، والإخلاص لله في ذلك ، حتى تبرأ ذمته ويستحق جزيل المثوبة والخلف .
* وقد أوضح الله سبحانه وتعالى في كتابه الكـــريم أصناف أهل الزكاة ، قال تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قُلُوبُهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} [التوبة:60]
* وفي ختم هذه الآية الكريمة بهذين الاسمين العظيمين تنبيه من الله سبحانه وتعالى لعباده على أنه سبحانه هو العليم بأحوال عباده ، من يستحق منهم للصدقة ومن لا يستحق ، وهو الحكيم في شرعه وقدره ، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها ، وإن خفي على بعض الناس بعض أسرار حكمته ، ليطمئن العباد لشرعه ، ويسلموا لحكمه .
والله المسئول أن يوفقنا والمسلمين للفقه في دينه والصدق في معاملته ، والمسابقة إلى ما يرضيه ، والعافية من موجبات غضبه إنه سميع قريب .
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد ، وآله وصحبه
سماحة الشيخ / عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية