حين اعترض الحاخام ديفيد نيسينوف طريق الصحافية الأمريكية الكبيرة هيلين توماس أمام مدخل البيت الأبيض, وسألها مستفزاً عما إذا كان لديها ما تقوله للإسرائيليين, أجابت السيدة التسعينية بحزم: «قل لهم أن يخرجوا من فلسطين. تذكر أن هؤلاء الناس ) الفلسطينيين) تحت الاحتلال وأن هذه أرضهم. على الإسرائيليين الذهاب إلى أوطانهم في بولندا وألمانيا وأمريكا وغيرها من الأمكنة».
لقد كان موقف عميدة الصحافيين في البيت الأبيض, في ذلك المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس باراك أوباما في حزيران الماضي, كافيا لتجريدها من امتيازاتها الصحافية وانتزاعها من مكانتها المرموقة التي احتلتها على مدى عقود من الزمن, حيث تعامل بمنتهى الود والاحترام من قبل الرؤساء المتعاقبين. وفي مواجهة أبواب جهنم الصهيونية التي انفتحت ضدها قالت هيلين توماس: «في هذا البلد لا يمكنك انتقاد إسرائيل والنجاة».
وكيف يمكن توجيه الانتقاد للكيان الإسرائيلي في بلد يتخذ فيه مجلس النواب, أو الشيوخ, مواقف وقرارات أشد تطرفاً أحياناً من مواقف وقرارات الكيان الإسرائيلي? حتى إن الأمر لم يكن يحتاج أن يصبح اليهودي الصهيوني أريك كانتور زعيماً للأغلبية في مجلس النواب بعد الانتخابات الأمريكية النصفية الأخيرة, فالمجلس منحاز بثبات للكيان الإسرائيلي, بزعامة كانتور للأغلبية الجمهورية أو من دون زعامته, وسواء أكانت هذه الأغلبية جمهورية أم ديمقراطية!
لكن الأمر لم يقتصر على اختيار أريك كانتور زعيماً للأغلبية الجمهورية, بل تعداه إلى انتخاب صورة عنه, أو توأمه, لرئاسة مجلس النواب, حيث من المعروف والمعلن أن الرئيس الجديد لمجلس النواب جون باينر شريك قديم لزعيم الأغلبية الجديد في جميع المواقف الصهيونية من القضية الفلسطينية على مدى السنوات الطويلة الماضية, وهي المواقف المتمادية في الإسفاف والوقاحة والوحشية.
في السابع عشر من الشهر الماضي, تشرين الثاني أصبح أريك كانتور أول يهودي صهيوني في تاريخ الولايات المتحدة يتزعم الأغلبية في مجلس النواب. وهكذا أصبح الطريق إلى البيت الأبيض معبداً أمام رئيس يهودي صهيوني للولايات المتحدة. ولعل أحد أسباب أو أحد أسرار انتخاب باراك أوباما, الإفريقي الأصل من أب مسلم, هو التمهيد لصعود رئيس يهودي صهيوني إلى سدة الرئاسة الأمريكية الأولى!.
لقد صوّت أريك كانتور دائماً في مجلس النواب بما يتفق تماما مع عقيدته الدينية وولائه الراسخ للكيان الإسرائيلي. صوّت على استمرار الحصار ضد كوبا, وعلى فرض العقوبات ضد سورية, وعلى طلب الاعتراف بالمجازر التركية ضد الأرمن, وعلى قرار بمساندة المتظاهرين الإيرانيين عقب الانتخابات الرئاسية, وقبل ذلك على مساندة «إسرائيل» في حربها ضد الإرهاب في لبنان وفلسطين, وعلى اعتماد القوة العسكرية في العراق... إلخ. أما جون باينر فنذكر له تصريحه بأن لدى «إسرائيل» كل الحق في الدفاع عن نفسها, وان واشنطن تخطئ بالتقرب من أعدائها والابتعاد عن أصدقائها الإسرائيليين, وأنه من المنطقي إحكام الحصار ضد غزة لمنع تهريب الأسلحة التي يستخدمها الفلسطينيون في «الأعمال الإرهابية»!.
ولكن يجب أن لا نقيم وزناً كبيراً لمواقف وتصريحات جون باينر, ولا لعقيدة وولاء أريك كانتور في حد ذاته, لأن حزبهما الجمهوري, وكذلك الحزب الديمقراطي, متعصبان في هذا المضمار أشد التعصب, بل إن قياداتهما اللوثرية الصهيونية أكثر تشبثاً منهما بنصوص العهد القديم وبالانحياز المطلق للكيان الإسرائيلي. إن برامج الحزبين, منذ أربعينيات القرن الماضي, تتضمن من الالتزامات الصهيونية في فلسطين المحتلة ما يفوق التزامات الكنيست الإسرائيلي.
بعد الأزمة العابرة (المريبة?) بين واشنطن وتل أبيب في آذار الماضي, المتعلقة ببناء الوحدات الاستيطانية الجديدة, ظهر كأنما هناك قلقاً بين أعضاء الكونغرس بصدد العلاقة بين الدولتين, فسارع 300 نائب وسناتور لتوقيع عريضة موجهة إلى وزيرة الخارجية يأسفون فيها لتوتر العلاقات, ويتعهدون بالتزام الرابط الذي لا ينكسر بين الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي, فكان جون باينر وأريك كانتور أول الموقعين, وها هما الآن في موقعيهما النيابيين المتقدمين, حيث يستطيعان تقرير أولوية القوانين التي تنبغي دراستها, ناهيكم عن إدارة الجلسات. أي أن العالم سيعيش سنتين من القوانين والقرارات المتطرفة في تأييدها للكيان الإسرائيلي (كما تقول ديما شريف في صحيفة «الأخبار» البيروتية - 20/11/2010)
لقد ذكرنا أن صعود اليهود إلى مواقع عليا في الإدارة الأمريكية لا يضيف شيئاً مهما إلى الالتزامات الصهيونية غير اليهودية تجاه الكيان الإسرائيلي. وينبغي أن نضيف أن اليهود الصهاينة, بفقدانهم الحذر, وباندفاعهم إلى أعلى المراتب, وباحتلالهم الصفوف العدوانية الأمامية, يعرضون مجتمعاتهم الخاصة مستقبلاً لأعظم الأخطار, وفي الولايات المتحدة بالذات قبل غيرها وأكثر من غيرها, وما عليهم لتقدير ذلك سوى التمعن في نصيحة الصحافية العظيمة, التسعينية, المجربة, هيلين توماس!.