الحمد
لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فإن لحسن الخلق منزلة عظيمة
في الدين، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أثقل شيء في الموازين،
وجعله صفة خيار المؤمنين، فقال:«أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» (رواه
الترمذي وصححه)، فعلى المؤمن أن يحرص على تحسين أخلاقه ومحاسبة نفسه
ومعالجة أمراضه وعلى مجانبة كل الخصال الموجبة لسوء الخلق.
ومن هذه الخصال التي ينبغي الحذر منها:" الغضب وحب الانتقام والانتصار
للنفس"، وإن هذه الخلال من الأمور الجبلية، ولكن لا يجوز للمؤمن أن يطلق
لها العنان حتى تدخله في دائرة سوء الخلق، بل عليه أن يضبط هذه القوة
الغضبية، فلا تهيج إلا للأمر الذي ينبغي أن تهيج له، وفي الوقت الذي ينبغي
أن تهيج فيه، ولا تتجاوز الحد الذي ينبغي أن تقف عنده. وبعبارة مختصرة عليه
أن يتصف بخلق الحلم الذي عرفه بعض أهل العلم بأنه :« ضبط النفس عند هيجان
الغضب ».
الترغيب في الحلم وترك الغضب
وقد ورد الترغيب في الحلم في غير ما آية وحديث، ومن ذلك :
1-قوله
تعالى في صفة المتقين المستحقين لدخول جنات النعيم : (الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل
عمران:134). فقوله الكاظمين الغيظ معناه الذين يردون الغضب إلى الجوف
والذين يبطنونه مع القدرة على إظهاره.
2-وقوله
تعالى في صفة العباد الذين كرمهم فنسبهم إلى نفسه: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ
الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ
الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63) وقوله سلاما أي سدادا فيردون
برفق ولين أو هي على ظاهرها فيقولون هذا اللفظ.
3-وقَالَ
النبي صلى الله عليه وسلم: « لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا
الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ » (متفق عليه) فصحح
مفهوم الشدة والصلابة فجعلها في خلق الحلم.
4-وعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم أَوْصِنِي قَالَ لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ:« لَا
تَغْضَبْ» (رواه البخاري) وليس معناه أن يترك الغضب ويلغيه، لأنه لا يملك
ذلك فهو جبلي كما سبق، ولكن معناه كما ذكر العلماء اجتناب أسباب الغضب
وتعويد النفس على الأخلاق المسكنة له والدافعة له عند حصوله، وكذلك كظمه
بعدم العمل بمقتضاه.
أهمية خلق الحلم
قيل لابن المبارك:" اجمع لنا حسن الخلق في كلمة" فقال:« ترك الغضب». وترك
الغضب هو الحلم، وقد قال جعفر الصادق:«الغضب مفتاح كل شر »، وصدق فإن
الشيطان يستولي على الإنسان في هذه الحال ويغلبه، والغضب يزيل العقل ويفقد
الإنسان الاتزان، فهو مفتاح للشر كما أن الخمر كانت أم الخبائث باعتبارها
تدفع إلى جميع الموبقات، ولأن من فقد عقله لم يكن له شيء يعقله عن الشر،
والغضب وإن كان لا يذهب العقل تماما، فهو يعيقه ويجعله لا يوازن بين
المصالح والمفاسد.
طرق اكتساب الحلم
إن خلق الحلم كسائر الأخلاق قد يكون فطريا جبليا كما قد يكون مكتسبا يأتي
بمجاهدة النفس وتربيتها وتعليمها، ولاكتساب هذا الخلق طرق منها :
1-دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم
فقد كان e على خلق عظيم وكان خلقه القرآن وسيرته حافلة بمظاهر الحلم
والكرم والعفو والإحسان وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة، ومن أخبار حلمه صلى
الله عليه وسلم ما ورد في الصحيحين عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه
قَالَ:« كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ
بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ
فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ
مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ ثُمَّ قَالَ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي
عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ»
فتأملوا جرأة هذا الأعرابي وغلظته وسوء أدبه مع رسول الله e، وكيف قابله
النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها ما ورد في الصحيحين أيضا أن ملك الجبال
قال للنبي صلى الله عليه وسلم :« إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ
الْأَخْشَبَيْنِ » أي على قريش لما عصته، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم:« بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ
يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ».
2-دراسة أخبار الصالحين ومجالسة الحلماء
ومن ذلك ما حدث للحسن البصري فقد شتمه رجل شتما بليغا فكان جواب الحسن:«
أما أنت فما أبقيت شيئا وما يعلم الله أكثر!!» ومن ذلك أيضا ما حدث للأحنف
بن قيس، حيث شتمه رجل والأحنف يمشي ولا يبالي به، وما زال ذلك الرجل يمشي
وراءه ويشتمه فلما بلغ الأحنف حيه قال له :« يا هذا إن كان بقي في نفسك شيء
فهاته وانصرف ، لا يسمعك بعض سفهائنا فتلقى ما تكره!» وخرج عمر بن عبد
العزيز مع حارسه إلى المسجد ظلمة الليل فعثر برجل كان نائما في الطريق فقال
الرجل : أمجنون أنت ؟ فقال عمر: لا، فهم الحارس به ليبطش به فقال له عمر :
مه فإنه سألني أمجنون أنت ؟ فقلت : لا !
3-التأمل في فضائل الحلم
-الحلم
يقطع شرا عظيما، فإن الشر القليل إذا لم يقابل بالحلم لتمادى وعظم ، قال
أيوب :« حلم ساعة يدفع شرا كبيرا»، وقال بعض البلغاء :« ما ذب عن الأعراض
كالصفح والإعراض»، وقال رجل لضرار بن القعقاع : والله لو قلت واحدة لسمعت
عشرا، فقال له ضرار:« والله لو قلت عشرا لم تسمع واحدة».
-الحلم
قد يجلب المودة ويقضي على الحقد، وتصديق ذلك في قوله تعالى (وَلا
تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو
حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:34-35).
-الحلم
يوجب عزة النفس وعلو القدر عند الناس، وقد قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم
:« وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا » (رواه مسلم).
وكان عروة بن الزبير إذا أسرع إليه أحد بشتم لم يجبه فإن تكلم قال:« إني
أتركك رفعا لنفسي»، وتفسير ذلك أن :« احتمال السفيه خير من التحلي بصورته»
كما قال بعض الحكماء، وقال علي رضي الله عنه:«حلمك على السفيه يكثر أنصارك
عليه».
-بالحلم
يستحق العبد أن يكون قدوة، قال تعالى في صفة نبينا صلى الله عليه وسلم:
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً
غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (آل عمران:159) وسأل
معاوية عرابة الأوسي : بم سددت قومك حتى قيل فيك كذا وكذا؟ -وذكر أشعارا-،
فقال:« يا أمير المؤمنين كنت أحلم على جاهلهم وأعطي سائلهم وأسعى في قضاء
حوائجهم».
-وأعظم
من كل ذلك: بالحلم ينال رضا الله تعالى ومحبته، فقد أخبر ربنا أن من صفة
المتقين الذين يدخلون الجنة كظم الغيظ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«
مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ
وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ
الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ» (أبو داود والترمذي وصححه) والله تعالى حليم يحب
الحلم ومن اتصف بالحلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد قيس:«
إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة» (متفق عليه).
4-التحلم وترويض النفس ودفع الغضب
قال أبو الدرداء رضي الله عنه:« إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن
يتحر الخير يعطه ومن يتق الشر يوقه ». وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم
إلى هذا في قوله :« لا تغضب» وقوله :«ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي
يملك نفسه عند الغضب».
كيف تدفع الغضب؟
1-الاستعاذة من الشيطان،
لقوله تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (الأعراف:200) وفي
الصحيحين أن رجلين استبا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما تحمر
عيناه وتنتفخ أوداجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« إني لأعرف كلمة
لو قالها لذهب عنه الذي يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم » (متفق عليه).
والمعنى في هذا أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهو يستغل وقت غفلة
الإنسان وضعفه فيملي عليه الانتقام وفعل الشر ساعة الغضب، فأمر الغاضب
بالاستعاذة بالله تعالى منه ساعتها.
2-الجلوس والاضطجاع،
لقول النبي صلى الله عليه وسلم:« إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب
عنه الغضب وإلا فليضطجع» (رواه أبو داود وصححه الألباني). والمعنى في هذا
أن القائم متهيئ للانتقام والجالس دونه وأبعد، والمضطجع دون القاعد وأبعد
من ذلك.
3-السكوت،
لأن أكثر ما يخشى على الغضبان لسانه، فقد يصدر منه في حال غضبه من القول
ما يندم عليه بعد ذلك، فإذا سكت أزال شرا كثيرا، وما أحسن قول مورق
العجلي:« ما امتلأت غضبا قط ولا تكلمت في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت ».
4-ذكر الله تعالى في حال الغضب والاستعانة به،
وذلك لعموم قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ
بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)
(الرعد:28) وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أسألك كلمة الحق في
الغضب والرضا (رواه النسائي).
5-الصيام ،
حيث أرشدنا نبينا e إلى أن نجعل من الصيام مدرسة نتعلم فيها ترك الغضب
فقال:« إذا أصبح أحدكم يوما صائما ، فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو
قاتله فليقل إني صائم إني صائم» (متفق عليه)
خاتمة
وفي الختام لابد من التأكيد على بعض الأمور التي توضح حقيقة الحلم وتفصله
عما قد يشتبه به وليس منه، فإنه ليس من شرط الحلم أن يفقد الرجل قوة الغضب،
وإنما شرط الحلم أن لا يطغى الغضب حتى يدفع الرجل إلى الانتقام، أو يمنعه
من العفو والصفح حيث يكون الصفح أولى به. وإن الحليم يغضب إذا جهل عليه
واعتدي عليه، لكنه يكظم غيظه حتى لا يكون له أثر في غير نفسه. وإن الحلم
المأمور به لا يعني الضعف والذلة والخور والجبن، فإن الذلة احتمال الأذى
على وجه يذهب بالكرامة، أما الحلم فهو إغضاء الرجل عن المكروه حيث يزيده
رفعة ومهابة.
وإن الحليم قد يعاقب لكنه لا يعاقب إلا إذا كانت العقوبة خيرا وأفضل من
العفو، وإن المؤمن الحليم يغضب وينتقم إذا انتهكت حرمات الله تعالى، عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت:«وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ
لِلَّهِ بِهَا » (متفق عليه). وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت
أستغفرك وأتوب إليك.
الكاتب أبو عبد الله محمد حاج عيسى الجزائري