الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، أما بعد فإننا بعد أن
أوضحنا في مقالة سابقة حكم الشرع في الإقامة بين الكفار، سنحاول حصر
الشبهات الرائجة، التي يتخذها بعض الناس ذريعة لاستباحة الهجرة ومخالفة
الحكم الذي نقلنا، مع بذل الجهد في ردها وبيان وجه بطلانها باختصار غير مخل
إن شاء الله تعالى.
1-هجرة الصحابة إلى الحبشة
فمنهم من يقول:» أَوَليس قد أذن للمسلمين الأولين أن يهاجروا إلى أرض الحبشة وهي أرض كفر«.
جواب هذا أنه دليل خارج عن الموضوع، واستدلال في الوهن مثل خيط العنكبوت وهذا البيان:
-أن
هؤلاء خرجوا في ذلك الزمن من أرض كفر يضطهدون فيها (مكة) إلى أرض كفر
يأمنون فيها على أنفسهم ودينهم (الحبشة)، لا من أرض إسلام إلى أرض كفر لا
يأمنون فيها على أنفسهم ودينهم وأبنائهم، فأين الشبه بين الأمرين.
-أن
ذلك وقع قبل أن تكون للمسلمين أرض خاصة بهم، في المرحلة المكية، والهجرة
ومفارقة المشركين إلى أرض الإسلام إنما وجبت في المرحلة المدنية، فالمستدل
بهذه القصة كالمستدل بقوله تعالى: }لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى{ على
إباحة الخمر.
-أن
خروج هؤلاء المسلمين إلى الحبشة كان من أجل الحفاظ على الدين والنفس، لا
من أجل المال والعيش الهنيء، وغير ذلك من المصالح الدنيوية التي قد يستغني
عنها المسلم وقد يحصلها في بلد الإسلام.
2-عدم تحكيم الشريعة
ويحتج كثير من الناس بأن بلاد المسلمين اليوم لا تحكم فيها شريعة رب
العالمين في جميع الميادين ، لذلك فالإقامة بها أم في بلاد الكفار سواء .
والجواب أن هذا الزعم خطأ ومغالطة :
-فإن
المعتبر في التفريق بين أرض الإسلام وأرض الكفر ليس هو القوانين المحكمة
ولكن هو ظهور شعائر الدين على وجه عام شامل، قال العثيمين:» وبلد الشرك هو
الذي تقام فيه شعائر الكفر ولا تقام فيه شعائر الإسلام كالآذان والصلاة
جماعة والأعياد والجمعة على وجه عام شامل ، وإنما قلنا على وجه عام شامل
ليخرج ما تقام فيه هذه الشعائر على وجه محصور كبلاد الكفار التي فيها
أقليات مسلمة«.
-أن
قولهم الإقامة في بلاد الإسلام والإقامة في بلاد الكفر سواء مغالطة
وتزوير، لأن الشرور والفتن الموجودة في بلاد المسلمين لا يمكن أن تقارن
بالشرور والفتن الموجودة في بلاد الكفر .
3-يوجد من ازداد تمسكا بدينه هناك
ومنهم من يقول: في الناس من ذهب إلى هناك ولم ينقلب، بل فيهم من استقام وازداد تمسكا بدينه . فيقال لهم:
-هذه
الشبهة ما هي إلا مناقضة لمفسدة واحدة من المفاسد الكثيرة المترتبة على
الإقامة بينهم، وهي الردة والانقلاب وتضييع الدين، ومن الجواب عنها أن من
سلم من مفسدة وقع في مفاسد أخرى بلا ريب، ومن سلم اليوم من ذلك، فهل يضمن
السلامة والثبات غدا؟؟
-أن
الحكم الشرعي إنما جاء لتحقيق المصالح العامة ودفع المفاسد الواقعة
والمتوقعة ، وهو يتبع الأعم الغالب ، فلا يمكن أن يعترض عليه بعدم وجود
مفسدة في آحاد المسائل وشاذها ، فصنيع المعترض هنا كذاك الذي قيل له إن
الخمر حرمت لأنها تسكر ولأنها داء، فقال: يوجد من يشرب الكأس والكأسين فلا
يسكر، بل يوجد في الناس من صح جسمه منذ شربها، ولا ننسى أن تحريم الإقامة
في بلاد الكفار ثبت بالنص الصريح لا بمجرد القياس والمصلحة.
4-اتباع رخص بعض المفتين
ومنهم من يتساءل: ألا يوجد من أفتى بالجواز؟ فلماذا تفرضون علينا رأيكم ؟ والجواب عن هذا بما يلي :
-أن
هذا الحكم هو حكم رب العالمين وفيه فتوى محمد صلى الله عليه و سلم سيد المرسلين ، وليس هو
رأينا ولا قول لأحد مع قول الرسول صلى الله عليه و سلم الذي قال:» أنا بريء من كل مسلم يقيم
بين أظهر المشركين، لا تراءى نارهما «. رواه أبو داود والترمذي وصححه
الألباني.
-أن
الواجب على كل مسلم عندما يختلف من يفتيه من العلماء في المسائل، أن يتبع
من يقدم له الدليل من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه و سلم وإجماع العلماء السابقين، لا
أن يتخير من أقوالهم ما فيه اليسر والسهولة ويوافق هواه ، لأن الله تعالى
يحاسب الناس بحسب ما بلغهم من العلم .
-وبعض
العلماء نقل الإجماع على التحريم كما ذكرناه في مقالة مفاسد الإقامة في
بلاد الكفار، وإنما رخصوا في السفر لأغراض معينة بشروط محددة.
5-في المغتربين كثير من المتدينين
وكثير من العامة يقول:» قد فعل ذلك فلان وهو ملتزم ، وفلان ممن له علم بالشرع فيما أحسب «. والجواب كما يلي :
–لا
يوجد أحد يستدل بقوله وفعله مجردا إلا رسول الله ، لا عالما ولا متعلما
فكيف يحتج بفعل هؤلاء في معارضة الأحاديث الصحيحة الصريحة- وإن من يسميه
الناس اليوم ملتزما هو المصلي الذي ترك المجاهرة بالمعاصي، وهذا الملتزم
(الأصح أن يقال المستقيم) ليس منـزها عن المعاصي ولا معصوما عن الأخطاء.
-والمظاهر
ليست هي التي تدل على العلم، فهذا المفتي إذا أفتاك أنت لا تقبل فتواه إلا
بالدليل فما بالك تستدل بمن تجهل حاله ودليله وسبب مخالفته هل ضرورة أم
حاجة أم مجرد هوى.
6-لماذا يذهب المشايخ إلى هناك؟
وربما يستدرك هنا آخر فيقول :» إنما أحدثك عن المشايخ والمدرسين الذين يذهبون إلى هناك «.
فنقول له: ذهاب هؤلاء إلى هناك لإقامة محدودة بأسبوع أو أكثر قصد التعليم
والإرشاد أمر جائز، ليس ينطبق عليه الحكم الأصلي، لأن المقصود مشروع
والشروط متوفرة ، وإن مما ينصحون به الرجوع إلى بلاد الإسلام. أما من أقام
هناك لغير هذا فنقول لك هذه قاعدة عامة احفظها » اعرف الحق تعرف رجاله «
ولا تستدل على الحق بالرجال.
7-تعلم العلوم الدنيوية
ومن الناس من يقول إن جلب علوم الدنيا ضرورة وذلك يستدعي الإقامة بينهم سنوات.
والجواب عن هذا :
-أن
هذه شبهة قديمة ولقد كانت مقبولة لو كانت هذه العلوم فعلا لا تنال إلا
بالإقامة في بلادهم، وحينها ننظر فيمن يرسل إلى هذه المهمة من ذوي العلم
الشرعي الصحيح والإيمان القوي، الذين يتوسم منهم الثبات على الدين والرجوع
إلى بلاد الإسلام.
-إن
هذه تجربة قديمة ومريرة وقد علمت نتائجها، فكثير ممن ذهب للغرض المذكور
ارتد عن الإسلام ورجع إلى بلاده لنشر الفساد والإلحاد، ومنهم من لم يرجع
أصلا لا بعلم الدنيا ولا بغيره، بل بقي هناك يخدم الكفار .
-وكثير
من هذه العلوم يمكن تحصيلها بغير الإقامة بينهم التي فيها المغامرة بأبناء
المسلمين ، ووسائل نقل العلوم كثيرة ليس المقصود سردها ومنها على سبيل
المثال استقدام المتخصصين فيها إلى بلاد الإسلام يعلموا أبناءنا تحت
رقابتنا وأنظارنا.
-نعم
قد رخص في الإقامة المحدودة لهذا الغرض بعض أهل العلم لكن بشرط تحصيل
العلم الشرعي الذي يقي من الشبهات ، والدين الذي يدفع عن صاحبه الشهوات .
8-الدعوة إلى الله تعالى
ومن الناس من يقول إذا لم نقم بينهم فكيف ندعوهم إلى الإسلام، فنحن نقيم هناك، ونضرب عصفورين بحجر واحد.
والجواب عن هذه الشبهة كما يأتي:
-إن
الدعوة إلى الله طاعة والطاعة لا يتوسل إليها بالمعصية، والدعوة إلى الله
ممكنة دون هذا السبيل ؛ عن طريق التجار والمجلات وشبكات الإنترنت والبعثات
الخاصة، وكذلك إذا ما جاءوا سواحا أو عمالا إلى بلادنا.
-ويا
من تريد الدعوة، إن كنت أهلا لها حقا، الأقربون أولى بالمعروف، وقد قال
تعالى:] وأنذر عشيرتك الأقربين[ (الشعراء 214) فمن أراد الدعوة فليبدأ بمن
حوله ممن يحتاج إلى تعليم ونصح وتذكير، والحفاظ على الموجود أولى من جلب
المفقود.
-وفي
هذا الزمن الدعوة لا تحتاج إلى الإقامة بينهم فوسائل العلم والاتصال قد
تطورت ، وأهل العلم والدعوة إلى الله تعالى المتخصصون يستغلون ما تيسر لهم
منها والحمد لله رب العالمين.
9-بيت القصيد
وأخيرا نأتي إلى الحجة الحقيقية وهي قولهم : ثمة العمل، ثمة الخير، ثمة الرزق، ثمة الجنة المعجلة.
ولهذا جوابان من الواقع ومن الشرع:
-فأما
الواقع فإننا نرى الفقر موجودا عندنا كما هو موجود عندهم وكذلك البطالة
…ولكن أبناء المسلمين غرتهم الأفلام وما يشاهدونه عبر الهوائيات المقعرة ،
وما يروج له الإعلام الغربي الفاسد . وفي أوروبا اليوم مسلمون مشردون يمدون
أيديهم إلى الكفار، ويمتهنون مهن الذل والهوان. ومنهم من دفع إلى السرقة
والاتجار في المخدرات، ولو كانت لدي إحصاءات عن المسلمين الذين يدخلون سجون
الكفار لذكرتها، ولكن عددهم كبير ولا حول ولا قوة إلا بالله.
-وأما
الشرع، فإن الذي يرزق أهل بلاد الإسلام هو الذي يرزق أهل بلاد الكفر،
والذي يرزقك هنا هو الذي يرزقك هناك، والذي يرزقك وأنت طائع هو الذي يرزقك
وأنت عاص، وقد قال صلى الله عليه و سلم:» أيها الناس، اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسا
لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها…«. (رواه ابن ماجة وصححه الألباني)
وليس من تقوى الله ولا من جميل الطلب الهجرة إلى بلاد الكفر، ونيل ما عند
الله يكون بإرضائه لا بإغضابه، ثم إن الله تعالى قد نهانا عن تمني ما عند
الكفار لأنه فتنة لهم ونعيم معجل، فقال تعالى:} فَلا تُعْجِبْكَ
أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ
كَافِرُونَ[ (التوبة:55)، وقال:} وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا
مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى[ (طـه:131) وقال
نبينا صلى الله عليه و سلم :» من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم
يأته من الدنيا إلا ما كتب له،ومن كانت الآخرة نيته جمع الله أمره وجعل
غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة «. (رواه الترمذي وابن ماجة وصححه
الألباني).
أخي المسلم هذه نصيحة خالصة صالحة، بأدلة مفسرة وواضحة، وأذكرك بأن
الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك
وأهله، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك.
الكاتب أبو عبد الله محمد حاج عيسى الجزائري