في أواخر الشهر الماضي، كتب المتوكل طه وكيل وزارة الإعلام الفلسطينية في رام الله، مقالة موجزة عن (حائط البراق) الذي يسميه اليهود (حائط المبكى)، ذكر فيه أن حائط البراق هو الجدار الغربي للمسجد الأقصى، والذي يدعي الاحتلال الصهيوني ملكيته زوراً وبهتاناً. وقال: «إن حائط البراق هو جزء لا يتجزأ من المسجد الأقصى ومن الحرم القدسي الشريف، وهو وقف إسلامي لعائلة بومدين المغاربية المسلمة». ونشر المقال في الموقع الرسمي لوزارة الإعلام.
وما هي إلا أيام، حتى تحولت هذه المقالة إلى قصة وقضية، وأصبحت المقالة بقدرة قادر مسألة دولية. وبادرت الولايات المتحدة إلى إدانة المقالة، معتبرة أنها قضية سياسية خطيرة. وتجاهلت ردود الفعل، وخاصة ردود الفعل الأميركية، أن مسألة حائط البراق هي مسألة تاريخية، وصدرت بشأنها قرارات وتوصيات. وانحازت أميركا بموقفها إلى جانب "إسرائيل" بالكامل، بل ووجهت لوماً قاسياً للفلسطينيين.
وقد تتالت ردود الفعل على هذه المقالة كما يلي:
أولاً: طالب مارك ريجيف (12/1/2010)، وهو المتحدث الرسمي باسم رئاسة الوزراء الإسرائيلية، بإزالة المقال من موقع الوزارة الفلسطينية، معللاً طلبه هذا بأن المقالة تحريضية، وأنها تؤكد إسلامية حائط البراق. وطالب ريجيف الرئيس عباس ورئيس الوزراء سلام فياض بمحاسبة الكاتب بذريعة تحريضه على العنف (!!). وذهب ريجيف في موقفه هذا إلى ما هو أبعد فقال: «إن مقالة المتوكل تثير تساؤلات حول التزام الحكومة الفلسطينية بعملية السلام». حتى إنه قال: إن المقالة تشكك في العلاقة التي تربط اليهود بالقدس وبأرض "إسرائيل".
ثانياً: لم تمض سوى ساعات قليلة على هذا التصريح الإسرائيلي، حتى بادر «بي جي كراولي»، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية، إلى عقد مؤتمر صحافي قال فيه: «نحن ندين بشدة هذه التصريحات (المقال)، ونرفضها رفضاً تاماً بوصفها خاطئة من منظور الوقائع (!!)، ولا تراعي أحاسيس الآخرين، واستفزازية للغاية». وقال كراولي أيضاً: «لقد ناقشنا مراراً مع السلطة الفلسطينية ضرورة مكافحة كافة أشكال نزع الشرعية عن "إسرائيل"، بما في ذلك الارتباط اليهودي التاريخي بالأرض (أرض فلسطين)».
ثالثًا: اتسع نطاق رد الفعل الأميركي الرسمي، فشارك فيه رجال البرلمان، وقال هاورد بيرمان، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي: إنه يدين بشدة هذه المقالة، وإن الرئيس عباس ورئيس الوزراء سلام فياض يعرفان الأهمية الروحية للحائط الغربي لدى اليهود في العالم، وإنكار العلاقة اليهودية بالحائط الغربي هو عمل استفزازي متعمد (من أنكر هذه العلاقة؟!).
تتضمن هذه الأقوال أخطاء سياسية كثيرة، وخاصة الأقوال الأميركية، وإذا كان من الممكن أن نتفهم رد فعل المسؤول الإسرائيلي ريجيف، الذي يروج لسياسة وزارة نتنياهو، فإنه من المستحيل أن نتفهم رد الفعل الأميركي الرسمي، الذي يطلب من الفلسطينيين أن يكونوا يهوداً وإسرائيليين في معتقداتهم وفي آرائهم السياسية! فالسيد كراولي ينحاز إلى "إسرائيل" وينكر توجه مقالة المتوكل نحو القول بإسلامية حائط البراق. لا، بل إن السيد كراولي يدعو الفلسطينيين إلى أن يكونوا إسرائيليين ويهوداً أصوليين، فيؤمنوا بما يؤمن به هؤلاء من علاقة خاصة تربط اليهود بأرض "إسرائيل" تاريخياً، فينكروا بذلك الرواية الفلسطينية والعربية حول القدس وأرض فلسطين.
ولا ندري ما إذا كان السيد كراولي يعرف أن مدينة القدس احتلت إسرائيلياً عام 1967. ولا ندري إذا كان يعرف أيضاً أن "إسرائيل" أعلنت في ذلك العام ضم القدس رسمياً إلى دولة "إسرائيل"، خلافاً حتى للقانون الدولي الذي يمنع ضم الأراضي المحتلة أو تغيير صفتها، وهو القانون الدولي الذي يدعي المسؤولون الأميركيون حرصهم عليه. ولا ندري أيضاً إذا كان السيد كراولي يعرف أن بلده، أي الولايات المتحدة الأميركية، لم تعترف رسمياً حتى الآن بقرار "إسرائيل" ضم مدينة القدس إلى أراضيها. وفي ضوء ذلك، فإن موقفه المعلن يصبح مستهجناً جداً حين يقول: «لقد ناقشنا مراراً مع السلطة الفلسطينية ضرورة مكافحة كافة أشكال نزع الشرعية عن "إسرائيل"، بما في ذلك إنكار الارتباط اليهودي التاريخي بالأرض».
ولكن الأخطاء الأميركية الفادحة لا تقف عند هذا الحد، بل تتعدى ذلك إلى الجهل التاريخي. ويكفي أن نذكر بإيجاز هنا شيئاً من الوقائع التاريخية المعلنة والرسمية:
شهدت فلسطين في عام 1929 ثورة شعبية عرفت باسم (هبّة البراق)، بدأت في القدس وامتدت إلى أكثر من مدينة، وسقط فيها عدد من القتلى والجرحى من الفلسطينيين ومن اليهود المهاجرين، وكانت الثورة من القوة بحيث أثارت اهتماماً لدى حكومة الانتداب على فلسطين (بريطانيا)، ثم أثارت اهتماماً لدى المؤسسات الدولية.
تمثل الاهتمام البريطاني بتشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في ما حدث، ترأَّسها السير والتر شو، وعرفت باسم (لجنة شو). وصلت اللجنة إلى فلسطين في 23/9/1929، والتقت مندوبين عن العرب واليهود، واستمعت إلى شهادات أشخاص كثيرين، وتسلمت وثائق رسمية، ثم أوصت بتشكيل لجنة دولية لتحديد حقوق العرب واليهود في حائط البراق.
وافقت (عصبة الأمم)، وهي التي تحولت في ما بعد إلى الأمم المتحدة، على توصية (لجنة شو) يوم 14/1/1930، وتم تشكيل لجنة دولية من السويد وسويسرا وإندونيسيا. وصلت اللجنة إلى القدس في 19/6/1930، ووضعت تقريرها في مطلع ديسمبر (كانون الأول) 1930، وحاز تقريرها تأييد بريطانيا وعصبة الأمم معاً، وجاء في توصياته ما يلي:
1) تعود ملكية الحائط الغربي إلى المسلمين وحدهم، ولهم وحدهم الحق العيني فيه، لأنه يؤلف جزءا لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف... وتعود إليهم ملكية «الرصيف» الكائن أمام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط. (هدم الجيش الإسرائيلي حي المغاربة بالكامل فور احتلال الجيش الإسرائيلي لمدينة القدس عام 1967).
2) إن أدوات العبادة، من الأدوات التي يحق لليهود وضعها بالقرب من الحائط... ولا يجوز أن يكون من شأنها إنشاء أي حق عيني لليهود في الحائط أو في الرصيف المجاور له.
3) لليهود حرية السلوك إلى الحائط لإقامة التضرعات في جميع الأوقات.
هذا ما تقوله الوقائع التاريخية، وهذا ما تقوله قرارات عصبة الأمم. إنها تؤكد حق ملكية حائط البراق (المبكى يهودياً) للمسلمين وللفلسطينيين، ولا تنكر أبداً على اليهود حقهم في الصلاة عند الحائط، بل إن اليهود مارسوا هذا الحق سنوات طويلة في ظل حكم العرب والمسلمين للمدينة.
وفي ضوء هذه الحقائق، من حقنا أن نطلب من السيد كراولي أن يعتذر للصحافيين الأميركيين، وأن يعتذر للفلسطينيين والمسلمين أيضاً.
... وما قاله المتوكل طه في مقالته لا يتجاوز تأكيد الحقائق التاريخية المعترف بها دولياً