أفهم أن تسعى "إسرائيل" للتلاعب بنا وخداعنا، أفهم أيضاً أن تسايرها في ذلك الإدارة الأمريكية وحتى الرباعية الدولية لحسابات وأسباب مفهومة، لكن ما لا يخطر على بال أي عقل رشيد أن نشارك من جانبنا في خداع أنفسنا وشعوبنا، وأن نسهم في إحكام الخداع الإسرائيلي.
(1)
"إسرائيل" عملياً أغلقت ملف الانشغال بالضفة عبر التفاوض والتنسيق الأمني مع السلطة، وفي غزة عبر الحصار، ومن ثم لم يعد لها انشغال بالأراضي المحتلة، (لذلك) انكفأت على تعزيز هوية الدولة وحدودها، واعتبرت أنها تستطيع أن تتفرغ لهذه المهمة بحيث تركز على الأمن الداخلي، بعد إغلاق ملف الأمن الخارجي.
هذا الكلام ليس من عندي، لكنه ورد في سياق حوار مهم نشرته صحيفة الحياة اللندنية (في 18/10) مع النائبة العربية في الكنيست حنين الزعبي، التي كانت ضمن من شاركوا مع أسطول الحرية الذي استهدف كسر حصار غزة.
وفي ذلك الحوار سلطت الضوء على مجموعة من حقائق ومؤشرات السياسة الإسرائيلية الراهنة، التي تغيب عن الناظر إلى المشهد من الخارج، من تلك المؤشرات ما يلي:
- إن "إسرائيل" لا تشعر الآن بأنها في حاجة إلى السلام، لأنها حلت هاجسها الأمني بطريقة أخرى (عن طريق الجدار والحصار والتنسيق الأمني) - لكنها تظل بحاجة إلى المفاوضات فقط لأنها تحميها من الضغوط والعزلة الخارجية. وهي المفاوضات التي ضربت القضية الفلسطينية وقضت على منجزات سياسية لنضال دام عشرات السنين، إذ لا ينبغي أن تصبح آلية تستبدل النضال، وإنما يفترض أن تبقى وسيلة لحصد ثمار النضال وجزءاً من المشروع الوطني، ضربت لذلك مثالاً بالاستيطان، إذ بدلاً من أن يعد عثرة تحول دون السلام فإنه أصبح الآن عثرة أمام المفاوضات فقط.
- إن "إسرائيل" اكتشفت مؤخراً فشل مشروعها لتذويب وتدجين عرب 48، خصوصاً حين تبينت موقفهم من خلال انتفاضة القدس والأقصى ومن حرب لبنان ويهودية الدولة.
- إن هذا الإدراك دفع بملف عرب 48 إلى مقدمة تحديات الدولة العبرية. وكان نتنياهو قد عبر عن موقفه إزاء ذلك أمام مؤتمر هرتزليا قبل سبع سنوات (حين كان وزيراً للمال في حكومة شارون) حين قال إن مشكلة "إسرائيل" هي عربها وليست عرب فلسطين. واعتبر أنه في حالة اندماجهم فإن نسبتهم ستصل إلى 35٪ من السكان، مما يجعل "إسرائيل" دولة ثنائية القومية.
أما إذا بقي عددهم في حدود 20٪ أو أقل وبقيت العلاقة مؤثرة، فإن ذلك يضر بالنسيج الديمقراطي ل"إسرائيل". مضيفاً أنه يريد سلاماً اقتصادياً داخلياً، بمعنى دعم العرب كأفراد لأن اقتصاد "إسرائيل" في حاجة إليهم، شريطة أن يتخلوا عن فكرة الدولة لكل مواطنيها (التي تتساوى فيها حقوق العرب مع اليهود).
- إن "إسرائيل" في تمييزها ضد العرب وبهدف تضييق الخناق عليهم أصدرت خلال الأعوام الستين الماضية 23 قانوناً، ولكن خلال سنة واحدة تولى فيها نتنياهو السلطة فإن حكومته قدمت 15 قانوناً عنصرياً آخر، وهذه مسألة تحتاج إلى وقفة.
(2)
«قانون المواطنة» مثلاً الذي يشترط الولاء للدولة اليهودية يعني أن على كل فلسطيني الاعتراف بشرعية "إسرائيل"، والاعتذار عن النكبة والمشروع الوطني وسد الفرص الواقعية أمام عودة اللاجئين، وتشريع العنصرية ضد العرب المقيمين في "إسرائيل"، وهو القانون الأول من نوعه الذي يصدر في "إسرائيل" ويتعامل مع القناعات، في حين أن كل القوانين الصهيونية الأخرى تعاملت مع الأفعال والسلوكيات، مثل منع التحريض أو المشاركة في إحياء ذكرى النكبة أو غير ذلك. وقد ذكرت السيدة حنين الزعبي أن القانون بهذه الصيغة يركز على القناعات الأيديولوجية، ويطرح الوجه الفاشي ل"إسرائيل". «إذ هو قانون يطلب مني أن أحارب نفسي، بينما القوانين السابقة كانت تشرع للحكومة أن تحاربني».
قانون المواطنة هذا سوف يستتبع بقانون آخر تعده حركة «شاس» يقضي بإسقاط حق المواطنة عن كل من يثبت عدم ولائه «وخيانته» للدولة. وهو ما يعني أن أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني في أراضي 48 سيصبحون عرضة لسحب الجنسية والهويات منهم ومنعهم من مواصلة حياتهم على أرضهم. وهناك سلسلة من القوانين ومشاريع القوانين التي تصب في ذات الوعاء. منها سحب الامتيازات من نواب بسبب مواقفهم السياسية، مثلما حدث مع النائبة الزعبي بسبب مشاركتها مع أسطول الحرية. وكذلك ملاحقة الدكتور عزمي بشارة رئيس التجمع الوطني الديمقراطي بسبب مواقفه. واقتراح مشروع قانون يقضي باعتبار الحركة الإسلامية الشمالية تنظيماً ممنوعاً، وآخر يتيح فصل نائب يؤيد المقاومة المسلحة أو يشارك في التحريض العنصري أو ينفي وجود "إسرائيل" «دولة يهودية ديمقراطية»، وثالث يتعلق بسحب المواطنة في حال عمل إرهابي أو تجسس ورابع لمنع النقاب وخامس لإزالة ذكرى النكبة من برامج التعليم. وقد تمت الموافقة على مشروع القانون الأخير في القراءة الأولى، وهو يحظر إحياء فعاليات النكبة، ويفرض عقوبات على من يخالف ذلك، ثمة مشروع آخر لإصدار قانون «لجان القبول في البلدات»، الذي يتيح لمجلس البلدية داخل "إسرائيل" رفض السماح بسكن أي شخص لا تتلاءم أفكاره مع «فكرة نشوء البلدة الصهيونية»، فضلاً عن قانون الجمعيات الذي يحظر إعطاء إذن لإقامة جمعية لا تتلاءم مع سياسة الدولة، ويقضي بإغلاق أي جمعية تقف خلف دعاوى رفعت ضد إسرائيليين أمام المحاكم الدولية، إضافة إلى مجموعة أخرى من القوانين العنصرية التي تستهدف، وفي شكل صارخ، خفض نسبة فلسطينيي 48 من 20 في المائة اليوم إلى نحو 5 في المائة لإبعاد ما يسمى شبح «التوازن الديموغرافي وتحول الدولة»، تالياً، إلى دولة «ثنائية القومية»، في حال استبعاد إمكانية ترحيل هؤلاء الفلسطينيين، لأسباب عدة، في الوقت الحاضر.
كان الكنيست قد مرر قبل ذلك قانون «لم الشمل المؤقت»، الذي يمنع الفلسطينيين من الحصول على حق الإقامة في أراضى 48، أو الحصول على الجنسية الإسرائيلية من أزواجهن أو زوجاتهم من فلسطينيي 48. كذلك الحال مع قانون «أملاك الغائبين» في القدس المحتلة، الذي استهدف بسط سيطرة "إسرائيل" على آلاف الدونمات والعقارات والأبنية التي تقدر قيمتها بمئات المليارات من المناطق التي احتلت سنة 1967.
هذه الحزمة من القوانين والإجراءات تستهدف شيئاً واحداً هو اقتلاع الفلسطينيين و«تطهير» "إسرائيل" من الوجود العربي لتثبيت «نقائها» للشعب اليهودي.
(3)
في عدد الثاني من شهر سبتمبر الماضي كان عنوان غلاف مجلة «تايم» كالتالي: لماذا لم تعد "إسرائيل" مكترثة بالسلام مع الفلسطينيين؟. وكان العنوان إشارة إلى تقرير لمراسل المجلة في القدس كارل فيك رسم فيه صورة لحالة الاسترخاء والطمأنينة، التي يتمتع بها الإسرائيليون في الوقت الراهن، خصوصاً أن بلادهم لم تشهد خلال الثلاثين شهراً الأخيرة عملية استشهادية واحدة، الأمر الذي أشاع بين الإسرائيليين درجة عالية من الاستقرار والهدوء، سمحت لهم بالاستمتاع بأوقاتهم وإنعاش اقتصادهم. وقد دلل على ذلك بنتائج استطلاع للرأي أجري في شهر مارس الماضي، سأل الإسرائيليين عن أهم المشاكل والتحديات التي يواجهونها، وجاءت الإجابة مشيرة إلى أن 8٪ فقط منهم اعتبروا أن الصراع مع الفلسطينيين هو الأهم. في حين أن 20٪ تحدثوا عن التعليم والجريمة والأمن القومي والفقر.
كلام المراسل الأمريكي يتفق إلى حد كبير مع الرأي القائل بأن "إسرائيل" في الوقت الحاضر لم تعد بحاجة إلى عقد اتفاق سلام مع الفلسطينيين، بعدما تم تأمين جانبهم سواء من خلال التنسيق الأمني والسور العازل في الضفة أو من جانب الحصار المضروب على غزة.
وهذا الرأي أيده أيضاً المعلق السياسي لاري درفنر في مقال نشرته له صحيفة جيروزاليم بوست ونقلته صحيفة «الشروق» في 18/10 الحالي، في هذا المقال قرر الكاتب ما يلي:
لم أعتقد ولو للحظة واحدة أن نتنياهو كان جاداً بشأن التوصل إلى سلام ينطوي على إقامة دولة فلسطينية مستقلة فعلاً، إنه على استعداد لرمي عظمة أو عظمتين إلى الفلسطينيين، ولا شيء أكثر من ذلك، فبالنسبة إليه فإن إقامة دولة فلسطينية تستحق أن تسمى دولة هي بمثابة استسلام شخصي ووطني، وإذلال، وهو يفضل الموت على أن يسجل في التاريخ باعتباره «بيتان» إسرائيل (هنري بيتان، القائد الفرنسي الذي اتهم بالخيانة بسبب قبوله ترؤس حكومة فيشي الموالية للألمان خلال الحرب العالمية الثانية).
أضاف الكاتب قائلاً: انتهى كل شيء إذن، انتهت هذه المحاولة الأخيرة لبث روح الحياة في عملية السلام، ولا يبدو أن نتنياهو مكترث بأن يلقي العالم اللوم عليه، وهو الأمر المرجح. كما أنه لا يهمه أن ليبرمان تمادى في إهانة وزيري الخارجية الفرنسي والإسباني علناً ولا يهمه أنه حمل باراك أوباما فشلاً آخر عشية انتخابات الكونجرس، الأمر الذي لا يفترض بأي رئيس حكومة إسرائيلي أن يفعله تجاه رئيس أمريكي.
قال أيضاً إن نتنياهو أكد مجدداً تحالفه الأيديولوجي مع ليبرمان والمستوطنين وبقية اليمين المتطرف. «فهؤلاء يركبون موجة عالية، ولديهم مجموعة كبيرة أخرى من القوانين الاستبدادية المناهضة للعرب التي يسعون لتمريرها، فمن الذي سيوقفهم؟ حزب العمل؟ حزب كاديما؟ يهود الشتات؟ واشنطن؟ وسائل الإعلام؟»
هل المستقبل يبدو أكثر إشراقاً؟! تساءل صاحبنا ثم أجاب قائلاً: بعد أيام قليلة سيمنى الديمقراطيون بهزيمة ساحقة في انتخابات الكونجرس، وسيصبح أوباما بطة عرجاء. إن الحليف الأيديولوجي الوحيد لنتنياهو في العالم، الحزب الجمهوري، سيعود عملياً إلى السلطة، في حين أن المعارض الحقيقي الوحيد له، إدارة أوباما، لن يكون قادراً على رفع يده في وجهه بعد الآن.
أضاف: هذه الحكومة جنباً إلى جنب مع المستوطنين ستكون حرة في أن تفعل ما تريد. ولن يقف أي أحد أو أي شيء في طريقهما، أما رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، فقد انتهى أمره، كما انتهى أمر الاعتدال في الضفة الغربية.
ختم الكاتب تعليقه قائلاً: إن هذه الأجواء ستشكل ظرفاً مواتياً لنتنياهو لكي يقوم بقصف إيران، وهو الهدف الذي يشغله ويسعى إليه منذ سنوات، وفي هذه الحالة فإنه لن يجد طرفاً يوقفه خصوصاً أن الجمهوريين يشجعونه ويؤيدونه في ذلك.
(4)
هذه ليست أسراراً محجوبة عن الأعين، ولكنها معلومات في متناول الجميع، ولست أشك في أن المعنيين بالقضية على علم بها وربما بما هو أكثر منها، وإذا صح ذلك - وهو صحيح لا ريب - فماذا يكون شعور المرء حين يقرأ أن لجنة المتابعة العربية قررت (في 8/10) «مباشرة البحث في البدائل المترتبة على فشل المفاوضات خلال شهر، ودعت الإدارة الأمريكية إلى الضغط على الحكومة الإسرائيلية لوقف الاستيطان»؟ وبماذا يفسر تجاهل القمة العربية الاستثنائية في سرت الليبية للملف الفلسطيني برمته. وتركيزها على الاهتمام بالسودان والصومال دون غيرهما. وكيف نقتنع بأنها انشغلت طول الوقت بمشروع إصلاح النظام العربي، وهل يظل اسم الجامعة العربية كما هو أم تصبح اتحاداً عربياً، وهل الذين لم يتقبلوا الفكرة تحفظوا فقط أم أنهم عارضوها صراحة؟ وهل نقيم مع دول الجوار العربي «رابطة» أم نكتفي «بالمنتدى»؟ - ثم ماذا نقول في القمم الثنائية العربية التي نقرأ عنها في الصحف، وتبشرنا كل حين بأن حوار البحث تناول تطورات القضية الفلسطينية ومساعي تحقيق السلام. تمهيدا لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف؟
لا يكاد المرء يصدق أن تكون الممارسات الإسرائيلية على أرض الواقع بالصورة التي نقلتها التقارير، في حين يكون رد الفعل العربي والفلسطيني على النحو الذي أشرت إليه تواً. وأعترف بأن الكلمات لا تسعفني في وصف المفارقة الفادحة التي يبدو فيها بجلاء أننا بصدد هزل لا جد فيه، وأن ما يحدث على الجانب العربي والفلسطيني بمثابة خداع للشعوب وضحك على العقول، وأن الملف الفلسطيني بات بيد مجموعة من المهرجين، الذين لم يتوقفوا عن اللعب في الوقت الضائع. وتلك أرق الأوصاف التي يمكن أن تطلق على المشهد. ومن لديه وصف أكثر صراحة فليحتفظ به لنفسه.