يختلف الذين يحكمون الولايات المتحدة الأمريكية بينهم في إدارة شؤون بلادهم الداخلية، يختلفون في السياسات المالية والاقتصادية، والتغطية الصحية، والضرائب، والحريات المدنية، وسياسة الطاقة، والأولويات في السياسة الخارجية، وفي كل شيء يتصل بالداخل الأمريكي. وتنقسم البلاد والمؤسسات (الكونغرس) والصحافة والإعلام على حدود انقسام الحزبين الماسكين بأزمّة أمور السياسة فيها، حتى ليخال المرء أنه سيكون لهذا الانقسام من التوابع ما قد يهدد استقرار الدولة، لكنهم إزاء قضايانا العربية - وإزاء أمن "إسرائيل" - يتوحدون. تتضاءل الخلافات والفوارق بينهم إلى حدود الزوال الكامل.
أمريكا السياسية كتلة واحدة موحدة أمام حقوق العرب ومطالبهم وأمام "حق" الدولة الصهيونية في الأمن المطلق وفي أن تكون فوق القانون. هنا تختفي ملامح التمايز فيتشابهون حد التطابق، بل التماثل: لا فرق بين جمهوري وديمقراطي، بين أبيض وأسود، بين أرستقراطي ثري وابن الطبقة الوسطى، بين مسيحي ويهودي، بين متدين وعلماني. جميعهم يدين بالولاء المطلق ل "إسرائيل" وكل يتفوق على نفسه في إبداء النصرة لها ضد أعدائها. يختلفون على بلدهم أمريكا وتوحدهم "إسرائيل" عليها، وها هنا لا فرق بين رئيس وآخر، بين وزير خارجية وآخر: أوباما هو بوش، وهيلاري كلينتون هي كوندوليزا رايس، ربما طبعة ثانية منقحة لا غير.
"إسرائيل" ليست دولة معتدية - في عقيدة أمريكا - ولا محتلة، وليس عليها أن تنفذ القرارات الدولية الصادرة في حقها فتنسحب من الأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلتها بالقوة العسكرية، كما ليس عليها أن تتوقف عن تهجير سكان المناطق المحتلة، ومصادرة أراضيهم، وإقامة المستعمرات غير الشرعية عليها، وتغيير معالمها الدينية والثقافية، وجرف الأراضي والأشجار، وتدمير الزراعة، وسرقة المياه، وإقامة جدار الفصل العنصري، وتقطيع أوصال الأرض بالمستوطنات والطرق الالتفافية والحواجز، والزج بالآلاف من الأهالي في السجون، والتقتيل المنظم والعشوائي لأهل الأرض الشرعيين. ليس عليها أن توقف شيئاً، فهي تمارس "حقاً" من حقوق تقررها هي وحدها وتوافقها أمريكا عليها، وهذا يكفيها أن تكون "حقوقاً مشروعة" وإن جافت القانون الدولي وخالفته.
ول "إسرائيل" الحق المطلق في الحصول على أي سلاح تحتاجه: من الأسلحة المحظورة دولياً (الكيماوية، والبيولوجية، والجرثومية، والقنابل العنقودية والفراغية، والفوسفورية) إلى أحدث الصواريخ والطائرات والغواصات والمضادات والقنابل الذكية. وليس لأحد في الكون أن يحتج على تكديسها السلاح أو يحسبه تهديداً للأمن والاستقرار في "الشرق الأوسط"، ولا لأحد الحق في مطالبتها بإخضاع منشآتها النووية للرقابة الدولية. ف "إسرائيل" - في عرف أمريكا - تمارس "حقاً" طبيعياً في توفير وسائل حماية أمنها "القومي".
ثم إن ل "إسرائيل" الحق المطلق في استخدام السلاح ضد شعب أعزل إلا من بنادق الصيد والحجارة، فهي "تدافع عن نفسها" في وجه من يريد "الاعتداء" على "مواطنيها"، أما إن لجأت إلى إبادة المدنيين واستخدام الأسلحة الفوسفورية، فإن أقصى ما يطلب منها الامتناع عن الإفراط في استخدام القوة.
لا أحد، في المقابل، يملك الحق في أن يدافع عن نفسه في وجه هذا الكيان ولو بالحجارة. أما أن يسعى في حيازة السلاح وتعزيز منظومته الدفاعية لحماية شعبه من دولة مارقة، خارجة على القانون، قائمة على عقيدة القوة والعنف، محتلة للأرض، فهو يسعى في تهديد وجودها وتعريض الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم للخطر، وعلى الجميع أن يحاصر سعي هذا إلى حيازة السلاح، كما على من يزوده بالسلاح أو يسهل أمر حصوله عليه أن يتلقى العقوبات الرادعة.
ماذا نسمي الحملة الأمريكية على سوريا اليوم تحت عنوان إمدادها "حزب الله" بصواريخ سكود سوى أنها تهديد مزدوج لها وللمقاومة في لبنان على اجترائهما على أمن "إسرائيل": الخط الأحمر في عقيدة أمريكا. ليس يهم أمريكا إن كانت سوريا ومعها لبنان في موقف دفاعي صرف أمام من يحتل أراضيهما ويرفض الانسحاب منهما، ولا يهمها ما فعلته وتفعله "إسرائيل" بلبنان، بشراً واقتصاداً وأمناً وسيادة بمسلسل جرائمها العدوانية الذي لا ينتهي ولا تتوقف مأساته على هذا البلد. المهم أن لا أحد يزعج هذه الدولة المدللة أو يشعر "مواطنيها" بالخوف، ذلك أن أمن "مواطن" واحد فيها أدعى إلى الخوف الأمريكي عليه من أمن مواطني لبنان وسوريا أجمعين، تماماً مثلما أن حرية جلعاد شاليت أهمّ عند أمريكا من حرية أحد عشر ألف أسير فلسطيني.