أحمد جابر / صحيفة الحياة
يعتبر كتاب «جهاد فلسطين العربية» (صدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية)، بمثابة عودة إلى الجذور. وهو، بهذا المعنى، ضروري ومهم، في الحاضر الفلسطيني والعربي، لأنه يحسم الجدال مع مسالك سياسية، عربية وفلسطينية، تنحو منحى الاختزال، وتتعمد نهج الإلغاء لحقبات حقيقية، وحيوية، من تاريخ الشعب الفلسطيني... وبمقدار ما يبدو (الكتاب) جامعاً، ونابضاً بحرارة المساهمة الوطنية الشعبية الفلسطينية العامة، فإنه يقدم المرافعة العملية الكفاحية، ضد النظرات العصبوية الفئوية، وضد ادعاء احتكار جوهر القضية الفلسطينية، أو التصرف بمقدراتها التي تزخر بأماني الشعب، وطموحاته إلى الحرية والاستقلال.
يسلك مؤلفو الكتاب دروب تمهيد «منطقي»، يقدم الأسباب والدوافع، ويشرحها، ويرسم الإطار الموضوعي، الدولي بخاصة، بألوان فاقعة، لتكون النتائج مرهونة بمقدماتها، ومستندة إليها، ولتكون الصورة طبيعية، وغير مفتعلة. هكذا نفهم، وبعد عرض مسهب، ومعلومات مستفيضة، لماذا كان الانفجار الشعبي الفلسطيني؟ ونقف موقف الداعم، بقناعة، لحركة الشعب الاستقلالية، الشعب «الذي أحرجوه فأخرجوه».
يحرص الكتاب، على أن تكون البداية بعد أن ألقت الحرب العالمية الأولى «عصا نيرانها»، فيشير إلى الجو المتفائل الذي شاع في «الوطن العربي»، وإلى الأمل الذي علّقه قادة الشأن العربي، على وعود الحلفاء، التي قضت «بمكافأة» العرب، بالاستقلال، في مقابل الدعم الذي قدموه لحملة الحلفاء العسكرية، في مختلف الميادين. كانت مراسلات الشريف حسين، والسير مكماهون، الإنكليزي، تشير إلى ذلك... لكن «رياح» الحلفاء، هبت عكس «ما تشتهي السفن العربية»، ووجد منتظرو الوعود أنفسهم، في «محيط النكث» وفي «لجة النكوص»، لذلك بدأت مجاذيفهم رحلة الصراع المتجدد من أجل الاستقلال، فوق الرقعة الجغرافية، التي جلت عنها قوات الإمبراطورية العثمانية... وكان لفلسطين في هذه الرحلة، وما زال، طعم الملح، وعناء الإبحار... في المجهول الدولي والعربي. ترافق نكث الحلفاء بوعدهم للعرب، مع وفائهم لحليف آخر، كانت الصهيونية العالمية، بطموحاتها، هي هذا الحليف، الذي وجد «أشد العطف» لدى رئيس الحكومة البريطانية تشرشل، وترجم في صيغة وعد، بقلم «الوزير البريطاني بلفور»... هكذا وهب «من لا يملك لمن لا يستحق»، ودائماً، من كيس الجغرافيا العربية... ومن مستقبل أبنائها.
نعلم مجدداً، من خلال الكتاب، أن فكرة الوطن القومي اليهودي، التي بعثتها الصهيونية، تعود إلى القرن الثالث عشر، لكنها كانت «أمنية غامضة»... مع الوعد البريطاني، باتت الأمنية مطلة على نافذة تجسيد، ومع إجراءات الانتداب، الذي أعطي لبريطانيا، فأشرفت بموجبه على فلسطين... امتلكت الأمنية كل وسائل الترجمة العملية، فوق أرض الواقع، المحسوس.
على ما يعلمنا المؤلفون، تضمن وعد بلفور، في ما تضمن: إنشاء وطن قومي لليهود، والمساعدة على ترقية الحكم المحلي، وعدم الإضرار بحقوق الطوائف الأخرى، في فلسطين... لكن الوقائع جاءت بخلاف ذلك، وعلى طول خط تنفيذ الوعد المذكور. كانت المخالفات الأبرز، والأخطر في موضوعي: الهجرة، وبيع الأراضي. فعلى صعيد التدفق اليهودي، على فلسطين، فتحت أبواب الهجرة على مصراعيها، فارتفع عدد اليهود في فلسطين، من رقم «يقارب الخمسين ألفاً قبيل الانتداب» إلى رقم يعادل الأربعمئة وخمسين ألفاً، ويلامس نصف المليون، في الفترة التي أعدت فيها مادة الكتاب، الذي بين أيدينا. لم يلتفت «المندوب السامي» البريطاني، إلى قدرة البلاد على الاستيعاب، ولا اكترث لحالة البطالة، التي عرفتها فلسطين، بسبب من مزاحمة الفلسطينيين، في أرضهم وعليها، وبسبب من التعصب اليهودي، الذي منع «تشغيل العمال العرب» في أي مرفق يهودي.
مسألة الأراضي، كانت الوجه الآخر لخطر الهجرة، فقد تمّ شراء ما يقرب من المليوني دونم، من جانب الوكالة الصهيونية، التي جندت «صناديقها وشركتها» لهذا الأمر، هذا لأن اقتلاع الفلسطيني من أرضه، كان كفيلاً بإحلال «الوافد اليهودي»، مكانه، ليصح في ما بعد الادعاء الصهيوني القائل «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض!!». من الأمور الدالة على هذا الصعيد «امتياز الحولة»، الذي أخرج ألفاً وخمسمئة عائلة من أرضها، وبيع أرض مرج ابن عامر، الذي شرد «سكان 22 قرية، وعائلاتها الـ 1746»، وكذلك كان وضع «وادي الحوارث... التي أجلي منها 1500 عائلة». لقد واكب هذا التغيير الجغرافي - الديموغرافي، تطور استراتيجي، أشار إليه «الكتاب» بوضوح، وهو: فرض طوق من المستعمرات، حول المدن العربية، وجعل طرقاتها الرئيسة «متعرجة بينها»، بما يضعها تحت رحمة هذه المستعمرات، في الآتي من الأيام. إذاً، خالف «المندوب السامي» أحكام صك الانتداب، وبنود وعد بلفور أيضاً، فلم يحفظ مصالح «الطوائف الأخرى»، بل ألحق أفدح الأضرار بها، بخاصة في مسألة الأرض التي لها خطورتها الاجتماعية والاقتصادية، في «مجتمع فلاحين» كالمجتمع الفلسطيني.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد طاول الظلم والاستبعاد والتنكيل الفلسطينيين، في مختلف بنود السياسة الانتدابية. على صعيد الدستور الفلسطيني، صدر النص عن الملك الإنكليزي، في مجلسه الخاص، فلم يراعِ الخصوصيات الفلسطينية، وأناط بالمندوب السامي، صلاحيات مطلقة، فيها الاستنساب، والمزاج الشخصي، والتبديل غير المبني على منطق محسوب... لكن بوصلته الأساسية: قيام الدولة اليهودية.
في مجال التشريع والضرائب، أثقل كاهل الفلاح الفلسطيني بالديون، كنتيجة للسياسة البريطانية في هذا المضمار، كان الهدف دفع «الفلاح» إلى بيع أرضه، ليتمكن من مواجهة الأعباء الحياتية، والطبات «الانتدابية».
أما في مجال الحماية الزراعية والصناعية، فقد اكتفى التشريع الانتدابي بحماية المنتجات اليهودية، ومارس حيال المنتج الفلسطيني «سياسة التجارة الحرة»، وفتح الباب أمام منافسة البضائع الأجنبية، لإنتاجه. كان من نتيجة ذلك، أن وقع المواطن الفلسطيني ضحية لارتفاع الأسعار، لأنه كان يرفض «شراء المنتج اليهودي المدعوم»، لأسباب وطنية، فبات مضطراً لسداد حاجاته من المستورد الأجنبي ذي الأسعار المرتفعة.
ولم يشذ الخطأ المستشري في كل الممارسات الانتدابية، عن مسألة الحكم الذاتي في فلسطين، بل إن هذه «المؤسسة» أخذت نصيبها من إلحاق الضرر بالشعب الفلسطيني، الذي لم يجد نفسه ممثلاً، فعلياً، في أي من مراكز قرار «حكومة فلسطين»، حتى على مستوى المجالس البلدية، التي أقر الاحتلال إنشاءها، متأخراً، لكنه قيّد ظهورها بأغلال ثقيلة، جعلت المقارنة ترجح أفضليات الأتراك وحسن تدبيرهم، في هذا المجال، هذا لأنهم تغاضوا عن «مسألة إنشاء هيئات محلية مستقلة»، بحسب تعبير «لجنة شو البريطانية».
ماذا كانت الردود الفلسطينية، على سياسة الانتداب، المقصودة، والمبرمجة، والهادفة إلى تمكين اليهود، في فلسطين؟ يحفل الكتاب بوقائع التظاهرات والإضرابات والاحتجاجات، التي نظمها الفلسطينيون، طيلة العهد الانتدابي، مثلما يسجل التواريخ، وأهم الصدامات، التي رافقت حركة الاحتجاج، ولا يغفل عن ذكر حملات القمع التي نظمها المستعمرون، ضد الحركة الوطنية الفلسطينية... دونما جدوى. لقد تبادلت المدن الفلسطينية استقبال المؤتمرات، واحتضان التحركات، هكذا كان الأمر في القدس عام 1920، «عندما حاول اليهودي كريمر بن مندل الاعتداء على علم الخليل»... ومع يافا في العام ذاته، ثم في العام 1936، ومع عز الدين القسام الذي أسس للثورة، في جوار جنين عام 1935، ثم مع نابلس، في أيار (مايو) 1936، عندما قررت الرد على نار الإنكليز بالنار، فكانت تلك الشرارة التي ألهبت السهل الفلسطيني، برمته.
لقد كان من الطبيعي أن ينفجر البركان الفلسطيني بعد «18 عاماً من رفع العرائض وبسط الظلامات». وكان حرياً بالفلسطينيين أن يسلكوا درباً آخر، بعدما باءت مساعي «اللجنة التنفيذية» واللجنة العليا، وحركة العصيان المدني... وكل التحركات السلمية بالفشل. وما يستحق الذكر، هو هذا الإجماع الفلسطيني الذي يورد الكتاب عناصره، من مشاركة المرأة، إلى مشاركات الشباب والأطفال، ومختلف فئات «المجتمع الأهلي»، وما تجدر الإشارة إليه، هو هذا الوضوح في المطالب والتمسك بها، وصياغتها من دون لبس، وقد تمثلت أساساً: في وقف الهجرة، ووقف بيع الأراضي، وتشكيل حكومة وطنية، تمثل أمام مجلس نيابي منتخب.
يذكر المؤلفون، أسماء مواقع، تضاف إلى «الملحمة الفلسطينية المستمرة»، فنتعرف معهم الى معــارك «نورشمـــس، وعـــين حارود، وباب الواد»... التي من خلالــها «عــرف الإنكـــليز أنهم يقــاومون شعباً... بأكمله».
لكن بطولات الفلسطينيين الفردية، لا تزال فردية للأسف. فالثمانون مليوناً من العرب، يومها والأربعمئة مليون مسلم،... ظلّوا أعداداً... اليوم ازداد العدد، في المطرحين، لكن الفلسطينيين ما زالوا مستفردين، وهم مستمرون، وحدهم، في التصدي لقول جابوتنسكي، الصهيوني: أن لا مكان للعرب، إلا الصحراء.
لعل القتال الفلسطيني، الطويل «في الممر»، يلفت العرب إلى «جنة فلسطين»، التي تنقذ بخضرتها الكفاحية الدائمة، من يباب الشعارات الثورية، التي حولت الاجتماع العربي إلى صحراء قاحلة، من العجز، ومن أسباب القهر والتخلف... المزمنين.