احتلت فلسطين موقعاً في غاية الأهمية في الكتابات التاريخية القديمة والحديثة، مروراً بكتابات التاريخ الوسيط. وبدهي ان تحتل هذه المنطقة، التي تصل آسيا بأفريقيا، ومشرق المنطقة العربية بمغربها، موقعاً متميزاً في التاريخ الإسلامي أيضاً. ففيها أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومسرى النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، وزارها الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب، وعلى تخومها جرت معارك الإسلام الكبرى، ضد غزوة الفرنجة الصليبيين وغزوة المغول (حطين وعين جالوت).
في هذا الإطار، صدر للباحث الفلسطيني عمر سعادة كتاب «فلسطين في التاريخ الإسلامي»، عن «دار الفكر» في دمشق، في مقدمة وخاتمة وسبعة فصول، وملحق خرائط، عرض عبرها الأحداث التاريخية التي شهدتها فلسطين على مدى أربعة عشر قرناً من الإسلام.
في الفصل الأول، عرض الباحث أوضاع فلسطين قبل الفتح الإسلامي، حيث كانت تقع في إطار الإمبراطورية الرومانية - البيزنطية. وفي رأي الكاتب، فإن فلسطين منذ فجر التاريخ لم تشكل كياناً سياسياً مستقلاً عن بلاد الشام التي كانت بدورها امتداداً طبيعياً وبشرياً لجزيرة العرب. وبذلك يدحض الكاتب محاولات المؤرخين اليهود، ومن شايعهم، في صوغ تاريخ خاص بفلسطين القديمة، باعتبارها كياناً مستقلاً عن محيطها الجغرافي والحضاري. ويرى الكاتب «ان الدخول المفترض لبني اسرائيل إلى فلسطين، كان دخولاً لجماعة مضطهدة تبغي النجاة والأمان والتعايش السلمي مع الشعوب الأخرى». ويخلص الكاتب الى ان «اليهود لم يكونوا حملة حضارة أو ثقافة راقية إلى فلسطين، بل تعيّشوا على حضارات المنطقة ومعارفها، لكنهم لم يستفيدوا منها بسبب نزعتهم الانعزالية والعدائية تجاه الشعوب الأخرى. وهكذا، خرج اليهود من فلسطين كما جاؤوا إليها من دون أن يتركوا فيها أثراً حضارياً يشير إلى فترة وجودهم فيها».
وخصّص الفصل الثاني للحديث عن مقدمات الفتح الإسلامي واستقرار الإسلام في فلسطين. فكان هذا الفتح بمثابة «الولادة السياسية والاقتصادية والثقافية لفلسطين، إذ اتحد ساحلها بداخلها وجنوبها بشمالها».
وفي هذا الفصل، يفند الكاتب فكرة الحق التاريخي لليهود في فلسطين، ويعتبر أن «الفتح العربي الإسلامي لفلسطين لم يكن تأسيساً لعلاقة طارئة بين العرب المسلمين وبين فلسطين»، كما يزعم الكثير من المؤرخين الغربيين. ولتأييد وجهة نظره يستشهد المؤلف بأقوال الكاتب الغربي جفريز والكاتب الأميركي تشارلز مثيوز. كما يشير الى ان دائرة المعارف اليهودية العامة، لم تستطع إنكار هذه الحقيقة التاريخية، التي أكدت أن «فلسطين أصبحت بلاداً عربية، ليس فقط بسبب الفتح (الإسلامي)، بل لأن العرب كانوا أتوا الى البلاد مهاجرين منذ قرون مضت. فمنهم البدو ومنهم جاليات المحاربين المجربين والتجار، وكانت مسيحيتهم غير عميقة، فاستبدلوها بالإسلام بسهولة». وهكذا، فإن الإسلام جاء إلى بلاد الشام استمراراً وتوسيعاً للعلاقة التاريخية التي كانت قائمة بين العرب وبين هذه البلاد، ما جعل الخلفاء الأمويين والعباسيين وحتى آخر خليفة عثماني، ينظرون إلى فلسطين ليس باعتبارها داراً من ديار المسلمين فحسب، بل ووقفاً إسلامياً مصاناً للمسلمين على مر الزمن. ومن هنا، فإن مقارنة الوجود العربي الإسلامي الأصيل في فلسطين بالوجود الطارئ والموقت للقبائل والشعوب الغازية، مثل اليهود والروم والفرس ثم الصليبيين، إنما ينطوي على مغالطة تاريخية خطرة تساوي بين أصحاب فلسطين الشرعيين والغزاة الطارئين على هذا البلد.
أما الفصلان الثالث والرابع، فخصصا للغزو الصليبي، وما جره من احتلال بيت المقدس، وما تبع ذلك من استعدادات لمواجهة هذا الغزو الذي استوجب توحيد الشام وإعلان الجهاد وخوض معركة حطين، وما نجم عن ذلك من نتائج.
في الفصل الرابع، يفند الباحث ذرائع الحروب الصليبية، وضمنها ادعاء استنجاد مسيحيي الشرق بالبابا لحمايتهم، «إذ كان مسيحيو الكنائس الشرقية يتعايشون مع المسلمين على مدى القرون بانسجام وحرية كاملة، ويتولون المناصب الرفيعة في الدولة الإسلامية ويشرفون بأنفسهم على كنائسهم من دون تدخل الدولة». كما أن واقع الحال يدحض كل الادعاءات الغربية في موضوع المسيحيين الشرقيين، فالبابوية كانت تعتبر الكنائس الشرقية مجرد هرطقة كافرة، وعندما نجحت الحملة الصليبية الأولى في احتلال فلسطين، استولى الصليبيون على كنيسة المهد وحولوها كنيسة لاتينية وعاملوا أبناء الكنيسة الشرقية باعتبارهم شرقيين وليس مسيحيين. ولم يتم التمييز بينهم وبين المسلمين في موضوع الضرائب والإتاوات المرهقة وفي تسخيرهم لخدمة الغزاة الغربيين ورفاهيتهم.
في الفصل الخامس، تناول الكاتب تاريخ فلسطين منذ خروج الصليبيين حتى دخول العثمانيين. فتحدث عن المماليك وأعمالهم، ثم عن تآمر بقايا الصليبيين مع المغول الذين أسقطوا بغداد عام 656هـ، بسعيهم للقضاء على الدولة الإسلامية.
وتوقف الكاتب في الفصل السادس عند حكم العثمانيين لبلاد الشام ومصر، وأشار الى أطماع أوروبا في الشرق. ثم عرض لحكم محمد علي باشا لفلسطين، حتى الثورة على ابنه إبراهيم باشا. واعتبر الكاتب، مخالفاً رأي بعض المؤرخين، أن نظام محمد علي باشا والنخبة الحاكمة التي أقامها في مصر وبلاد الشام كانا تركيين أو عثمانيين في تركيبتهما وهويتهما السياسية والثقافية. إذ تشير المراجع والمصادر التاريخية الكثيرة إلى نظرة الازدراء والتعالي عند هذه النخبة الحاكمة في تعاملها مع السكان العرب في مصر ثم في بلاد الشام. ويعتقد الكاتب ان حملات محمد علي في شبه الجزيرة العربية والسودان، ثم بلاد الشام، جاءت خدمة لمطامعه السياسية في بناء دولة او مملكة له ولأولاده لا لـ «الأمة العربية».
واختتم المؤلف بالفصل السابع الذي أوجز فيه الحديث عن الأيام الأخيرة من الحكم العثماني لفلسطين، متوقفاً عند حكم السلطان عبدالحميد الثاني وظهور فكرة الصهيونية في عهده وما جرى آنذاك من حوادث عسكرية وسياسية.
في الخاتمة، لخص الكاتب أهم الأحداث المتلاحقة التي جرت بعد الثورة العربية الكبرى حتى يومنا هذا. ويشير الى أن «غياب التيار الإسلامي عن حركة العمل السياسي الفلسطيني، وعن تيار الكفاح المسلح، كان بسبب تزايد المد القومي العربي، واشتباك حركة الإخوان مع الخطين القومي واليساري المتصاعدين، ما دفع الحركة الإسلامية الى الانزواء والاكتفاء بدورها التقليدي على الصعيد التربوي الإسلامي والدعوي». لكن هزيمة حزيران، في رأي الكاتب، شكلت بداية القطيعة مع الخط الرئيس للإخوان المسلمين. وهكذا شهد مطلع عقد الثمانينات بداية تشكيل الخلايا الجهادية الأولى داخل فلسطين. ويرى الكاتب أن دلالة الجهاد المسلح الذي شرع المجاهدون في خوضه منذ تلك الحقبة، يتجاوز حدود الصراع المعهود ضد العدو الصهيوني ويرتقي به إلى أبعاد أوسع، إذ يضع فلسطين في موقعها الطبيعي كهدف مركزي يتقدم أهداف الحركة الإسلامية المعاصرة. ففلسطين هي عنصر توحيدي أساس لقوى الحركة الإسلامية يجمع شتاتها ويوحد طاقاتها و «يربط بين أهدافها برباط مقدس مشدود بحبل من السماء».
وكان الأفضل لو ان الأفكار الواردة في الخاتمة، حول الفكر الجهادي وإرهاصاته في فلسطين عولجت بتفصيل وعمق أكبر، فالمرور السريع عليها يترك الأسئلة عالقة. والفكرة المثارة كانت تتطلب من الكاتب إما فصلاً أو أكثر لجلائها وتوضيحها، خصوصاً ان الكثير من الجدال والخلاف يكتنفها في ظل ظروف بالغة الدقة والتعقيد، وفي ضوء ما تشهده الساحة الفلسطينية من انقسام داخلي... طبعاً هذا لا يعيب الكتاب ولا ينقص من أهميته كإضاءة مستنيرة تثري المكتبة التراثية العربية.