تشير الدراسات التاريخية الى أن الشعب الفلسطيني أسهم بنصيب لا بأس به في حركة الترجمة عن لغات مختلفة، وبدأت حركة الترجمة في فلسطين منذ عام 1860. ومن بين الترجمات المهمة في ذلك التاريخ ما قام به يوسف دباس اليافي حول كتاب «مرشد الأولاد» لفرنسيسكو سوافيواس.
وأخذ هذا النشاط يتقدم بتقدم المجتمع الفلسطيني في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على رغم المعوقات الاستعمارية وغيرها.
ونشأ مناخ ملائم لجهة تطور حركة الترجمة، حيث أخذت الصحف والمجلات بالظهور هناك. ولعل من بين تلك المجلات، مجلة «النفائس العصرية» لخليل بيدس الذي بذل جهداً كبيراً في الترجمة عن اللغة الروسية التي نقل عنها أربعة كتب في سنتي 1898 و1899، فضلاً عن ستة كتب بين عامي 1908 و1919، هذا الى جانب كثير من الروايات القصيرة التي كان ينشرها في اعداد مجلته.
وبرزت اسماء جديدة في اطار حركة الترجمة عن الروسية جنباً الى جنب مع خليل بيدس، مثل أنطوان بلاّن أحد مدرسي المدرسة الروسية في الناصرة الذي ترجم رواية «سبيل الحب» عن الروسية عام 1912، وحكايات قصيرة منها «سياحة في عالم الخيال» و «خواطر من طريق الخيال» لتولستوي وغيرها. وبرزت أسماء أخرى مثل لطف الله الخوري الصراف والسيدة كلثوم العودة وفارس نقولا مدور وعبدالكريم سمعان. وكما كانت مجلة «النفائس العصرية» بيئة منشطة لحركة الترجمة عن اللغة الروسية في فلسطين بسبب ثقافة مؤسسها وصاحبها وبعض رفاقه، كانت مدرسة «سيمنار» الروسية للطلاب في الناصرة ومدرسة «سيمنار» الروسية للطالبات في بيت جالا في الضفة الغربية بيئتين منشطتين في ميدان الترجمة عن اللغة الروسية أيضاً، إذ ترجم بعض الطلاب في المدرستين المذكورتين حكايات عن الروسية ونشروها في مجلة النفائس.
ومن الذين ترجموا بكثرة عن الروسية سليم قبعين ونجاتي صدقي. فقد كان لقبعين نشاط خصب في الصحافة المصرية وشارك في إنشاء بعض الصحف في مصر، وعرَّف القارئ العربي بكتاب روس مثل ترغنيف وبوشكين ومكسيم غوركي وتولستوي وغيرهم، ومن أهم ترجماته للصحف المصرية عن الروسية «أنشودة الحكم» لترغنيف اضافة الى كتب متنوعة اخرى.
ومن جهته ترجم صدقي أمهات الكتب الروسية الى العربية، فنشر في سلسلة «إقرأ» في عام 1945 أعمالاً عدة للشاعر الروسي بوشكين. ولم تنحصر آثار مجلة «النفائس العصرية» في إتاحة الترجمة عن اللغة الروسية فقط، بل تعدت آثارها ذلك، إذ نقل العديد من الحكايات والقصص الألمانية الى العربية ونشرها على صفحات المجلة المذكورة. فقد ترجم جبران مطر عدداً لا بأس به من القصص والحكايات الألمانية الى العربية، وشارك في النقل عن الألمانية بندلي الجوزي والياس نصر الله الذي ترجم رواية «ناثان الحكيم» للكاتب الألماني لسنغ وطبعها في مطبعة الايتام في القدس.
وفي اتجاه اللغة اليونانية، أتاحت الظروف للطائفة الارثوذكسية في القدس الاتصال باللغة اليونانية، وكان لجرجي زيدان حنا السكسك جهد في هذا الميدان. وترجم توفيق اليازجي من مدينة يافا قصيدة مهمة للشاعر اليوناني يوانس بوليتي. فضلاً عن ذلك كان من الطبيعي اتصال فلسطين باللغة التركية، فترجم عبدالله مخلص كتاب نامق كمال «سيرة الفاتح السلطان محمد الثاني» بعربية صافية، وترجم حسن صدقي الدجاني رواية «حذار» الاجتماعية عن التركية، في حين نقل عارف العزوفي الى العربية «ترانتا بايو، من رسائل شاب حبشي الى زوجته» وهي للشاعر التركي الكبير ناظم حكمت.
ولم تقتصر حركة الترجمة في فلسطين على الألمانية والروسية واليونانية والتركية، بل عرفت فلسطين نشاط ترجمة عن اللغة الفرنسية أيضاً، فترجم عادل بحثاً مطولاً لماكس نوردو بعنوان «روح القومية» ونقل اسحاق موسى الحسيني والأب اسطفان سالم الفرنسيسي كتاب «فن إنشاء الشعر العربي» وطبعاه في مطبعة الآباء الفرنسيين في القدس عام 1945.
ولعل من طليعة المترجمين الأصلاء عن اللغة الفرنسية عادل زعيتر الذي يعتبر من أعلام النهضة العربية في شكل عام، إذ ترجم عن الفرنسية ما يزيد على سبعة وثلاثين كتاباً من أمهات الكتب في الثقافة الفرنسية، وذلك بلغة عربية صافية جداً وناصعة. أما حركة الترجمة عن الانكليزية، فكان لها النصيب الأكبر، بسبب الاستعمار البريطاني المباشر لفلسطين، وبرزت أسماء كثيرة في مجال الترجمة عن الانكليزية في فلسطين تجاوز عددها المئة، ومن المبكرين في الترجمة عن الانكليزية في فلسطين ابراهيم حنا وروز حسون وبولس صدقي من مدينة القدس. كما عرفت أسماء وأعلام فلسطينية كثيرة في مجال الترجمة عن الانكليزية، وفي المقدمة منهم خيري حماد الذي ترجم أكثر من خمسين كتاباً عن الانكليزية والفرنسية تراوحت بين الأدب والفلسفة والاستشراق والاقتصاد.
ومن الاسماء الفلسطينية التي نشطت في الترجمة عن الانكليزية بعد نكبة عام 1948 ناجي علوش، ونقولا زيادة وابراهيم مطر وجبرا ابراهيم جبرا وعمر يمق وبكر عباس والشاعر الراحل إحسان عباس. واللافت أن حركة الترجمة أخذت بالتطور السريع، بخاصة بعد أن قصد الآلاف من الشبان الفلسطينيين خلال العقود الستة الماضية قارات العالم المختلفة للدراسة في جامعات الدول المختلفة وحصلوا على شهادات وخبرات وبالتالي لغات وثقافات متعددة، وأخذوا ينقلون الى المنطقة العربية وفلسطين ثقافاتهم المكتسبة بفعل الدراسة وبلغات عدة، الأمر الذي أعطى دفعة جديدة لحركة الترجمة في فلسطين والوطن العربي.