الملكة الطائشة 'خرقت' عيني إبنها ولي العهد لتنفرد بالحكم !
كانت الملكة 'ايرين' الوصية علي عرش روما الي أن يبلغ ابنها قسطنطين السادس السن القانونية لتولي العرش امرأة في غاية الحسم، حتي أن المؤرخين قالوا لو أنها كانت تملك القدرة علي قيادة الجيوش لتغير مسار التاريخ الروماني...
وكانت في نفس الوقت لها طموحات ليس لها سقف، حتي انها سملت عيني ابنها ليخلو لها الطريق نحو الصعود الي القمة والاستمرار كامبراطورة علي الدولة البيزنطية.
ايرين هذه كانت تعرف تماما انه لا قدرة لها امام القوات الاسلامية في عهد هارون الرشيد، ومن هنا فقد قررت أن تهادن المسلمين وأن تدفع الجزية لهم، بدلا من مواجهة عسكرية هي تعرف مقدما انها لن تستطيع أن تحوز النصر فيها، وربما دفعتها المغامرة الي خسارة هي في غني عنها، فلربما تتقدم الجيوش الاسلامية الي القسطنطينية نفسها لاسقاطها!
ولكن قسطنطين عندما بلغ سن الرشد لم يكن علي درجة عالية من الكفاية السياسية، وتصور أن هذه الجزية التي يدفعها لهارون الرشيد فيها من الاذلال ما يكفي لان ينقضها وأن يواجه الجيوش الاسلامية، وخيل اليه أنه يستطيع أن يوقف الانتصارات التي يحرزها المسلمون في كل المعارك التي خاضوها، حتي انهم سيطروا سيطرة كاملة علي جزر البحر الابيض المتوسط.
ولكن غروره.. وعدم تقديره للامور سول له أن يقف ضد هارون الرشيد، وأن يعيد الهيمنة للامبراطورية البيزنطية التي لم تخل من الفتن والدسائس في الداخل، ولعله اعتقد أنه يمكنه مجابهة الرشيد، وهو بهذا يكتسب مجدا من ناحية، ويقضي علي الفتن الداخلية من ناحية أخري.. وألغي قسطنطين هذه الاتفاقية، ورفض اعطاء الجزية للرشيد.
* * *
ولكن 'ايرين' ذات الشخصية الطموحة لا تريد أن تتنازل عن السلطة بهذه البساطة، فقد حاكت مؤامرة اطاحت بابنها قسطنطين، ولم تتركه لحال سبيله، ولم تراع أنه ولدها، فقد اعماها حب السلطة علي كونها أما، وقررت أن تسمل عيني ابنها!
وحكمت البلاد تحت اسم الامبراطورة أوجستا!
والغريب أنها لم تستمر طويلا في السلطة فقد قاد أحد النبلاء واسمه 'نقفور' ثورة ضدها واستولي علي الحكم ، ونحاها عن السلطة.
ولعل 'نقفور' هذا أراد أن يبسط نفوذه علي مختلف ارجاء بيزنطة، وأن يشعر الناس أنهم أمام قائد عظيم يذكرهم بقادة بنزنطة القدماء، ورغم أنه لا يجيد القيادة العسكرية.. الا أنه قرر الغاء الاتفاق بينه وبين العرب الذي ابرمته الامبراطورة 'ايرين' بشأن دفع جزية لهم، وارسل رسالة وقحة الي الخليفة هارون الرشيد، يعلمه فيها انه نقض المعاهدة التي بينه وبين العرب، ومضمون هذه الرسالة يعني أن التي ابرمت هذه الرسالة امرأة فيها ضعف النساء، وما كان ينبغي أن توافق علي مثل هذه المعاهدة وهذا الاتفاق، وكان ينبغي للعرب أن يدفعوا هم الجزية للروم وليس العكس!!
* * *
وقرأ الرشيد الرسالة وتملكه غضب شديد، علي هذه الجرأة الوقحة من انسان يعرف تماما أنه ليس بمقدرته الوقوف أمام القوة العسكرية العربية، وليس بمقدرته الصمود أمام جيش هارون الرشيد.. ونسي أن هارون الرشيد يجري في دمائه العربية حب الشرف والتمسك بالعهود والمواثيق، ورفض الاهانة من انسان يعتبره ليس في مستواه.. فما كان من الرشيد الا أن ارسل رده علي نفس الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من هارون الرشيد أمير المؤمنين الي نقفور كلب الروم.
قد قرأت كتابك، والجواب ما تراه دون أن تسمعه والسلام'
وأعد في نفس اليوم قوة عسكرية هائلة، وقادها بنفسه، وقد قدر البعض هذا الجيش بمائة ألف وخمسة وثلاثين مقاتلا، واجتاح آسيا الصغري حتي وصل الي هرقليه علي البحر الاسود والتي بينها وبين القسطنطينية 150 ميلا.
وما كاد ملك الروم يسمع عن هذا التقدم العسكري وعلي رأسه هارون الرشيد، وأنه يقترب من العاصمة البيزنطية حتي انهارت قواه، وخشي العاقبة.
وارسل الي الرشيد بأنه سوف يدفع الجزية حسب الاتفاق الذي تم بينه وبين 'ايرين' أو الامبراطورة أوجستا كما سمت نفسها عندما تولت زمام الامور في بلادها!
وعاد هارون الرشيد الي قصره في الرقة التي كانت عاصمة يملكه!
* * *
والعجيب أن هذا الامبراطور عاد وألغي اتفاقه بعد انسحاب الرشيد الي بلاده.. ولكن الرشيد عاود الكرٌة، وقرر غزو بلاد الروم، وعبر جبال طوروس برغم الثلوج، واجتاح أسيا الصغري من جديد.. وواجه جيش الروم وهزمه هزيمة ساحقة.. وارتجف الامبراطور وقرر أن يدفع الجزية عن يد وهو صاغر ولكن الرشيد اراد أن يذله فأمره بأن يضرب الدنانير الاسلامية باسم الرشيد وأولاده الثلاثة، وأن يسلم الروم كل ما لديهم من الاسري من المسلمين.
* * *
والمؤرخون يتساءلون بعد أن حقق الرشيد هذا النصر الحاسم لماذا لم يغر علي العاصمة البيزنطية نفسها، ولو فعل لتغير مسار التاريخ الانساني كله.
مهما يكن من شيء.. فإن قاريء التاريخ يتعجب من الاحداث التي تمر بنا في دنيانا، أو علي حد تعبير بعض المؤرخين أن اهم فائدة نستفيدها من دراسة التاريخ هو اننا لا نستفيد منها.
فلم يتعلم الامبراطور الروماني شيئا من دروس التاريخ!
ولا تعلم شيئا من هزائمه أمام الرشيد!
* * *
ويبدو أنه كان يبحث عن نصر بأي ثمن يعلي من قامته في امبراطوريته البيزنطية، فحاول أن يغزو بلاد البلغار، فقد ارسل بقوات للغزو لم يتح لها الانتصار، فقرر أن يقود المعركة بنفسه، وخرج في شهر مايو عام 811م علي رأس جيش كبير احتل به عاصمة البلغار في بليسكا.
ولكن البلغار لم يستسلموا له بالسهولة التي كان يتصورها، ولم يقفوا أمام انتصاره عليهم مكتوفي الايدي بل قرروا أن يوقعوا به الهزيمة في طريق عودته الي بيزنطة.
فهو سوف يمر عبر مضايق جبلية وعرة، وهم أدري بهذه المسالك، وبالتالي اعدوا له كمينا حتي يقع فيه أثناء مروره بتلك المسالك.
وبالفعل فان 'نقفور' وقد اعماه النصر، وشعر أنه امبراطور لا يقل عظمة عن أباطرة روما القدامي الذين حققوا انتصارات مذهلة علي أعدائهم في مختلف ارجاء العالم، حتي اصبح العالم في عصرهم تحت نفوذهم، وطوع بنانهم تصور وهو تحت غرور الانتصار، أن كل شيء قد انتهي، وانه قد أصبح ندا للرشيد، بل انه يمكن أن يعيد حساباته من جديد، وأن يلغي الاتفاق الذي ابرمه معه، فقد أصبح قوة لا يستهان بها، وخاصة بعد أن استولي علي بلاد البلغار، وضمها الي ممتلكاته!!
* * *
وفي أثناء مروره عبر هذه المضايق خرجت عليه الكمائن البلغارية من كل مكان، واذا بجيوشه تترنح وتنهار، ولم يستطع هذا الجيش الصمود أمام البلغار، ورغبتهم الاكيدة في تحقيق النصر، حتي لا يقعوا تحت اسر الحكم البيزنطي الطاغي، وقرروا الحرب الي آخر نفس في حياتهم، وأمام هذه الشجاعة والاستبسال في القتال، ابيد الجيش البيزنطي عن آخره، وقتل نقفور نفسه.
حدث ذلك في السادس والعشرين من يوليو 811م.
والعجيب أن ملوك البلغار اصروا علي أن يفصلوا رأسه عن جسده، وأن يأخذوا جمجمته، ويطلوها بالفضة، لتصبح قدحا يشربون فيه الخمر!
:::لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ:::