الكاتب أبو عبد الله محمد حاج عيسى الجزائري
في خضم هذا الجدل القائم حول البطاقة البيومترية، أحببت أن أقف وقفات هادئة مع هذه القضية المصيرية إقامة للحجة وقياما بواجب النصيحة التي فرض علينا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وخاصة للمسؤولين عن حفظ الدين ومظاهر السيادة الوطنية، وعن حفظ أمن المواطنين وحرياتهم المكفولة لهم شرعا وقانونا.
الوقفة الأولى: أليس في البطاقة البيومترية هتك لمظاهر السيادة الوطنية؟
وأول هذه الوقفات أنه قد طرق أسماعنا أن البطاقات البيومترية ستكون بلغة الفرنجة المستعمرين، وأن هذا التغيير يأتي في سياق تنفيذ بلادنا لالتزامات دولية خاصة بإصدار ومراقبة وثائق الهوية والسفر.
نعم، أن تكون هناك عهودٌ واتفاقات مشتركة بين الدول فهو أمر مقبول، لكن بشرط أن تراعى خصوصيات كل دولة وأن لا تمس سيادتها وهويتها، ولا يجوز لمسلم عزيز النفس يسعى لتحقيق شعار العزة والكرامة أن يقبل بشروط تتضمن تخليه عن مقومات شخصيته وعن رموز سيادته. إنه لا يجوز لنا أن نتنازل عن هويتنا الإسلامية ولا عن لغتنا العربية التي ناضل من أجلها المناضلون قبل الاستقلال وبعده، ولا عن الإسلام الذي جاهد في سبيله المجاهدون وسقط في سبيله الملايين من الشهداء، فإذا كان هناك التزام دولي حول لغة البطاقة البيومترية فإن للأمة الجزائرية شعبا وحكومة التزاما آخر أقوى من هذا: هو التزام تجاه العقيدة وتجاه التاريخ وتجاه الوطن وتجاه الشهداء، وهنا نقول: أين حراس الثوابت الوطنية؟ وأين حماة مظاهر السيادة الوطنية؟ وأين أنصار الحفاظ على عناصر الهوية الجزائرية التي كرسها الدستور في طليعة مواده، من أن الإسلام دين الدولة والعربية هي اللغة الرسمية للدولة الجزائرية المستقلة؟
الوقفة الثانية: البطاقة البيومترية والاستغلالات السياسوية
لقد قرأ الناس الآن – ولله الحمد - النصوص المتضمنة للمعايير الدولية للبطاقة البيومترية، فوجدوا أنه يسمح فيها بتغطية الرّأس وإعفاء اللحية لأسباب دينية أو صحية، وعلموا أنّه لا يوجد في دول العالم الغربي أو العربي من فرض على الناس حلق أو تقصير لـحاهم ولا نزع الخمار (أو سحبه!!) فلم نصرّ نحن على الشذوذ والمكابرة بدعاوى تبين للعالم زيفها؟ فالعالم الآن أصبح أشبه بقرية، والمعلومات تنتقل بين جنباته بسرعة البرق.
إن هذا الأمر يجعلنا نقول: إن ثمة أطرافا استئصالية متخفية تريد استغلال الحدث لفرض توجهاتها الفكرية المتطرفة، كما استغلت سنوات الأزمة لحلق لحى المواطنين بالتهديد والقوة، وكما أرادت من قبل أن تستغل تعديل قانون العقوبات لتجريم إعفاء اللحية ولباس القندورة والجلباب، ولكن الله تعالى رد كيدهم في نحورهم، وكان نهاية مكرهم بجواب رئيس الجمهورية من باتنة حين قال ما معناه: نحن نريد إطفاء نار الفتنة، وأنتم تريدون إرجاعهم إلى الجبال.
ولقد كان تصريحا وقرارا حكيما تضمن الإشادة بالحريات الفردية، وأخذ بعين الاعتبار أسباب استفحال الأزمة الجزائرية ودوامها وثقل خسائرها، لأنه لم يكن ليخفى عليه خطر المساس بمشاعر الأمة الدينية وبحرياتهم الشخصية، مع يقينه بوجود قابلية التطرف لدى شرائح معتبرة من الشعب.
الوقفة الثالثة: بين المعايير الدولية ومعاييرنا
إن المقاييس التقنية للصورة البيومترية مثل ما هو موضح في المواثيق الدولية تتعلق باللون والإضاءة والخلفية والوضعية وتقاسيم الوجه وضرورة ظهور ملامح الوجه كاملة مقابل آلة التصوير دون ميل إلى جهة ولا قرب أو بعد مفرط، دون نظّارات ملونة تخفي العينين، دون الإشارة إلى ضرورة كشف الأذنين ولا الشعر أو مقدمته مثل ما هو مذكور في المعايير الجزائرية، التي لم يسبقها إلى مثل هذا إلا الدولة الفرنسية التي تمكنت الصهيونية منها تمكنا كبيرا، والتي تمعن في محاربة الإسلام ومظاهره باسم العلمانية تارة وباسم مكافحة الإرهاب تارة أخرى، وباسم الحفاظ على الهوية الفرنسية تارة ثالثة.
الوقفة الرابعة: إلى من يريد إزالة العراقيل الإدارية
إنهم يقولون إن البطاقة البيومترية ستزيل العراقيل الإدارية، لكني أتوهم أنهم بصدد إضافة عراقيل جديدة لا عهد لهم بها، وذلك لتوقف استعمال هذه البطاقة على تقنيات لا نمتلك منها إلا الشيء اليسير، ولأن عقلية البيروقراطية التقليدية ستصبح بيـروقراطية إليكترونية هي الأخرى. ولأن الجريمة العالمية المنظمة التي يراد محاصرتها بالتكنولوجيا قد تسلحت هي الأخرى بتكنولوجيا لا تمتلكها دول العالم الثالث.
لقد قالوا سنسخر لهذا الغرض شبكة إنترنت عالية التدفق تعادل 660 ميغا بايت، وماذا ينفع هذا التدفق أمام مشكلة انقطاع التيار الكهربائي اليومي، وأمام غزو الإدارة من طرف الانتهازيين والمرتشين، وللفائدة فإن الجزائر مصنفة -حسب المنتدى الاقتصادي الدولي-في الرتبة 113 من بين 133 دولة في مجال تكنولوجيا الإعلام والاتصال.
والذي قرأناها عن تجربة بعض الدول المجاورة المصنفة في الرتبة 88 أن البطاقات البيومترية زادت من معاناة المواطنين وأرهقتهم من جراء الوثائق المطلوبة، وقد بدأنا نسمع عن بعض الإجراءات الجزائرية الغريبة كاشتراط الضامن والكفيل!!
الوقفة الخامسة : البيومترية امتحان للهيئات والأحزاب الإسلامية
إن البطاقة البيومترية بالمعايير المقترحة تعتبر تحديا جديدا من تحديات الأمة في وجه العولمة والتغريب، وجبهة أخرى من جبهات الصراع بين العلمانية والإسلام، فبعد أن خسر الشعب الجزائري معركة تغريب التعليم، وقانون تجريم الإمام، وتحريم المسجد على الدعاة والعلماء، وخسر معركة قانون الأسرة، (وكل هذا صدر بقرارات لم يستشر فيها العلماء ولا الهيئات المخولة للنظر في مثل هذه الأمور شرعا وإداريا)
أقول بعد كل ذلك ها هي معركة أخرى وامتحان آخر لهذه الهيئات لتبرز أثرها وصلابتها في الدفاع عن مبادئها، والامتحان الأكبر للأحزاب الممثلة في السلطة، لأن كرامتهم وأعراضهم في الميزان وكذا مصداقيتهم أمام الأمة وقبل ذلك أمام مناضليهم، أما السؤال يوم القيامة فلا نتحدث عنه الآن!!
الوقفة السادسة : عام الدّعوة إلى الحجاب
يسأل كثير من الناس عن الطريقة المثلى لمواجهة هذا القرار، أما الهيئات والأحزاب والأشخاص النافذون فلست أنا من يعلمهم كيفية ذلك، فيكفيني أن أؤكد على ضرورة الوقوف ضد هذا القرار حتى يلغى.
وأما غيرهم من الأفراد من المثقفين والمعلمين والدعاة والأئمة وكل إنسان غيور على دينه فأنا أدعوهم جميعا ليجعل هذا العام عام الدعوة إلى الحجاب في البيت، والمدرسة، والمسجد، والمؤسسة، والمحلات، والحافلات، والولائم، والشارع، وفي كل مكان، فهذه فرصة لا تعوض، الأمة تحركت عاطفتها نحو الدين وكل الناس يصوتون ضد القرار حتى المتبرجات وأزواج المتبرجات وآباء المتبرجات، فلندع إلى الحجاب بكل قوة ولنرفع أصواتنا بالدعوة إلى التستر والحشمة، حتى يموت دعاة العري بغيظهم، ولا نشك أن تجندنا لهذه الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة بشكل جماعي في جميع الأوساط سيكون له أثر أكبر وأنفع إن شاء الله تعالى، فتوكلوا على الله وأخلصوا نيتكم يبارك لكم ربكم عز وجل، ولا تستهينوا بهذا العمل، فإنه والله أنفع وأوقع من ألف تنديد ومن مليون تصويت.
قال تعالى : (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) [محمد/38]