القائد الاعظم مؤسس باكستان
محمد علي جناح لم يكن رجل عادياً ولكنه رجل ارتبط اسمه بقيام دولة باكستان، عرف جناح بلقب "القائد الأعظم" هذا اللقب الذي أطلقه عليه الباكستانيون لما مثله من مكانة عظيمة في نفوسهم، فهو رجل أحبه شعبه ووثق به فكان جناح المدافع عن قضاياهم الحامل لهمومهم، وأخيراً يرجع له الفضل في قيام دولة باكستان وانفصالها عن الهند في الرابع عشر من أغسطس عام 1947.
ولتمر ذكرى وفاته في الحادي عشر من سبتمبر لتتذكر باكستان أحد زعمائها الذين ناضلوا من أجل أن تنال الأقلية المسلمة في الهند حقوقها.
البدايةولد محمد علي جناح في الخامس والعشرين من ديسمبر 1876 بمدينة كراتشي، وينحدر من أسرة برهمية انتقلت إلى الإسلام، وكانت أسرته ميسورة الحال حيث عملت بتجارة الجلود، تلقى جناح دراسته الابتدائية في إحدى مدارس كراتشي ومنها إلى بومباي حيث تابع دراسته إلى أن التحق بمدرسته العليا التابعة لجماعته الإسلامية، ثم ما لبث أن عاد إلى كراتشي وحصل منها على شهادته المؤهلة للتعليم الجامعي وذلك في الخامسة عشر من عمره عام 1891، أنتقل جناح بعد ذلك إلى إنجلترا لدراسة الحقوق والإدارة، وهناك كون خبرته بالحياة الإنجليزية وشارك في أنشطة الطلاب الهنود من أجل الوطن، وبعد أن حصل جناح على شهادته في الحقوق عاد مرة أخرى إلى الهند عام 1896 ليعمل بالمحاماة وهيأ له عمله هذا التعرف على العديد من السياسيين والزعماء، وسريعاً ما ذاع صيت جناح كمحامي بارع وذكي وجرئ.
خوض الحياة السياسيةأمن جناح بأهمية الوحدة بين كل من المسلمين والهندوس وكان لا يؤيد تقسيم الهند، بل كان معارضاً لذلك، فكان جناح حاملاً للهم القومي ككل، وفي عام 1905 خطى بشكل جدي نحو طريقه السياسي فانضم إلى حزب المؤتمر الوطني الهندي، وسافر إلى لندن من أجل الترويج للقضية الهندية مطالباً باستقلال بلاده من بين براثن الاستعمار البريطاني.
ودليل على إيمانه بأهمية الوحدة بين جميع أطراف الدولة الهندية، هو ما حدث من غضب وثورة داخل حزب المؤتمر عند إعلان تقسيم منطقة البنغال إلى قسم هندوسي وقسم إسلامي عام 1906، لأن أعضاء حزب المؤتمر ومعهم جناح اعتبروا هذا بداية لتقسيم الهند.
عقب العودة من لندن عمل جناح كسكرتير لرئيس حزب المؤتمر الوطني الهندي، وقام بإلقاء أول خطاب سياسي له في مدينة كلكتا عام 1906 والذي دعا فيه لاستقلال الهند.
إيمانه بالوحدة
كما سبق أن ذكرنا كان جناح متمسكاً بالوحدة بين أفراد الشعب الهندي إلى أبعد الحدود، وكان انضمامه إلى حزب المؤتمر الوطني الهندي من أجل الكفاح من خلاله لنيل الشعب الهندي كافة من مسلمين وهندوس استقلاله، وعندما قرر جناح الانضمام إلى الرابطة الإسلامية ليخدم المسلمين، أكد أن انضمامه للرابطة الإسلامية ورعايته لمصالح المسلمين لا تعني نقضه الولاء لقضية القومية الكبرى والتي وقف حياته عليها، ولذلك ظل مخلصاً ومنتمياً لكل من حزب المؤتمر والرابطة الإسلامية معاً محاولاً تقريب الآراء وتوحيد الأهداف وإزالة ما قد ينشب من خلاف وذلك في الفترة ما بين 1915 – 1920.
كان يساند محمد جناح في حزب المؤتمر الوطني الهندي زعيم الحزب الهندوسي المعتدل "جوكهيل"، فكانا يعملان معاً حتى يتحقق التوحيد بين صفوف الأمة الهندية، ولكن واجه جناح بعد وفاة جوكهيل تيار من المتعصبين الذين فرضوا سيطرتهم على سياسة المؤتمر، وعكف جناح على محاولات التوحيد والتوفيق بين المسلمين والهندوس على الرغم من نشوب النزاع الطائفي، إلا أن محاولات جناح واجهها الفشل.
نضال جناحبذل جناح الكثير من الجهد في سبيل الوحدة بين الأطراف مع المحافظة على حقوق الأقلية المسلمة، وفي عام 1926 وفي اجتماع المجلس المركزي تقدم جناح بسياسة تعالج الخلاف بين الهندوكيين على الحدود الشمالية الغربية بالهند والذي يشكل المسلمون أغلبية بها، ولكن قوبلت سياسته الجديدة بالرفض من بعض الزعماء المتعصبين.
وفي عام 1928عقد حزب المؤتمر الوطني الهندي اجتماع في كلكتا ليتم فيه بحث مطلب الحكم الذاتي للهند، إلا أن المؤتمر تجاهل مطالب المسلمين، وكان هذا بمثابة الشرارة التي انطلقت لتغير فكر جناح في المؤتمر ففقد الأمل أن يحقق حزب المؤتمر أو أي حزب هندوسي أخر أي أهداف تخص أو تخدم المسلمين، وقرر أن يركز جهوده على الرابطة الإسلامية.
تم عقد مؤتمر إسلامي عام في دهلي عام 1928 ليحدد عن طريقه وجهة النظر الإسلامية في الأسلوب الذي يتم به تطوير الاستقلال الهندي، وجاء فيه أنه يجب منح المسلمين عدد من الحقوق مثل انتخاب ممثليهم في المجالس التشريعية الهندية، وانه يجب أن يكون للمسلمين في المناطق التي يشكلون فيها أقلية حصة عادلة في الوزارات المركزية، وانه يجب تعيين نسبة عادلة من المسلمين في المصالح الحكومية وحماية الثقافة والمؤسسات التابعة للمسلمين وغيرها من المطالب التي أمل جناح أن تمنح للمسلمين في الهند.
الرحيل والعودةقرر جناح الرحيل إلى إنجلترا بعد أن يأس من إصلاح الأوضاع في الهند عام 1930، وظل هناك لفترة كان لا يزال خلالها الجدال دائر في القضية الهندية وأوضاع المسلمين هناك، وأصيبت الرابطة الإسلامية بالضعف نتيجة لوفاة عدد من قادتها، وفي عام 1934 أجمع أعضاء الرابطة على اختيار جناح رئيساً لها، عاد جناح مرة أخرى لوطنه فبعث النشاط مرة أخرى في الرابطة الإسلامية، وحاول محمد إقبال وهو محامي ومثقف وعضو الرابطة الإسلامية إقناع جناح بفكرة تقسيم الهند وإنشاء وطن مستقل للمسلمين وكان إقبال قد دعا لتقسيم الهند عام 1930 إلا أن جناح كان لا يزال متمسكاً بأمل الوحدة بين الهندوس والمسلمين ورافضاً فكرة التقسيم.
نشأة باكستانظل محمد إقبال متمسكاً بفكرته بتقسيم الهند إلا أن الرابطة الإسلامية ظلت رافضة للفكرة ومستبعدة لها، محاولة تكريس جهودها في تحقيق مطالب المسلمين في ظل كيان الدولة الهندية، وجاءت وفاة محمد إقبال في إبريل 1938 دون أن يشهد تحقق حلمه.
ثم جاءت الحرب العالمية الثانية وأرغمت بريطانيا الهند بالمشاركة في الحرب كوسيلة للمساومة على نيل حريتها واستقلالها، وجاء عام 1940 لتشهد لاهور اجتماع عام للمسلمين المنضمين للرابطة الإسلامية، كان من نتائجه إعلان الرابطة برئاسة محمد علي جناح عن رغبتها في إنشاء باكستان كوطن للمسلمين.
وتمكن جناح من الصمود في وجه المعارضات والاحتجاجات التي شنت ضده، وتمكن حزب الرابطة الإسلامية – الحزب الوحيد الممثل للمسلمين- من الفوز في الانتخابات العامة التي أجريت بالهند عام 1946، وفي فبراير 1947 عين لورد مونتباتن نائباً للملك بالهند وأجرى الكثير من المفاوضات والمناقشات مع جناح، جاء نتيجة لها اقتناع بريطانيا بأهمية استقلال باكستان عن الهند وإنشاء دولة للمسلمين وبالفعل أعلن استقلال باكستان في الرابع عشر من أغسطس 1947، وأصبح أول رئيس لجمهورية باكستان الإسلامية.
تفجرت قضية كشمير كنتيجة مترتبة على الانفصال حيث اندلعت الحرب بين باكستان والهند على منطقة كشمير فكل منهما يريد أن يفرض سيطرته عليها، وجاءت الحرب عقب إعلان الحاكم الهندوسي لإقليم كشمير ذي الأغلبية المسلمة انضمامه إلى الهند لقمع ثورات المسلمين الراغبين في الانضمام لباكستان.
وفاة القائد الأعظمعلى الرغم من أن الفضل يعود لجناح في نشأة دولة باكستان، إلا أنه كان رافضاً التقسيم وكثيراً ما نادى بالوحدة بين المسلمين والهندوس، ولكن لم يكن هناك بد من حدوث الانفصال حتى تنعم الأقلية المسلمة بحقوقها في ظل دولة خاصة بها، ومما قاله جناح ويتضح به فكره هو أن الدولة الجديدة لن تفرق بين مسلم وهندوسي طالما أن الاثنين سيعملان فيها على إنهما مواطنان صالحان بها.
وقد رفض جناح طلب أعضاء الرابطة الإسلامية بانتخابه رئيساً لها مدى الحياة وطلب منهم أن يجددوا انتخاب الرئاسة عاماً بعد عام.
كان الزعيم الهندي المهاتما غاندي معاصراً لنفس الفترة التي عاشها جناح فكان كل منهما مناضلاً بطريقته وحاملاً هم وطنه الأكبر الهند، ورافضاً للانقسام، وكان غاتدي دائماً ما يدعو الهندوس إلى احترام حقوق الأقلية المسلمة، مما قاله غاندي عن جناح " إني ألاحظ مما يكتبه القائد الأعظم أن ليس بصدره ضغينة ضد الهنادكة بل أنه يريد أن يعيش معهم في سلام".
جاءت وفاة جناح في الحادي عشر من سبتمبر 1948 عن عمر يناهز 72 عاماً بعد حياة حافلة، تغيرت فيها شكل الخارطة الهندية وانبثقت من تحت عباءتها الدولة الباكستانية.