المبحث الثاني : التعليم عند المناسبات
ويقابل التعليم المبتدأ التعليم عند المناسبات الذي يمكن أن نقسمه إلى ما يأتي:
المطلب الأول : التعليم عند قيام الحاجة
فأما قيام الحاجة وهي من آكد مواضع التعليم والوعظ، فإذا أقدم الابن على فعل أمر معين لم يسبق له فعله فلابد من تحضيره وإعداده له، فإذا وصل إلى سن الصلاة مثلا علم أحكام الوضوء والصلاة، وإذا كان يوم ذهابه إلى المسجد يعلم آدابه وينهى عما ينبغي اجتنابه، وإذا كان الدخول المدرسي يُذكر بآداب ويُحذَّر من أشياء لم يكن حُذِّر منها من قبل وهكذا في كل مناسبة تستدعي التعليم لشيء جديد.
واتباع هذا المنهج من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم ، فإنه لما أرسل معاذا إلى اليمن وكان رفيقه أبو موسى الأشعري كان مما نصحهما به قوله:" يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا"([1])، فعلَّمهما أمورا تخص الدعاة وأمورا تخص من ولي أمور الأمة (كترك الاختلاف الذي دافعه الإصرار على الرأي، والتضييق حيث السعة). ومن هذا القبيل أيضا ما نزل من القرآن في مناسبات معروفة كالأجوبة القرآنية عما طُرِح على النبي صلى الله عليه وسلم من أسئلة، وما حدث له من قضايا توقف فيها.
ومن المواضع المناسبة للتعليم أن يسأل المتعلم عما يحتاجه، فإنه من واجب المعلم أن يجيبه حينها ، ولا يعرض عن الإجابة إلا إذا علم أنه يسأل عما لا ينفعه أو لا يقدر على فهمه فينبغي أن يوجهه، فقد ثبت في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أقيمت الصلاة خرج ليجيب سائلا وترك الناس قياما، بل وثبت عنه أنه قطع خطبة الجمعة لجواب سائل، ولما سأله رجل متى الساعة؟ أرشده إلى ما ينفعه وقال وما أعددت لها؟
ولا ينبغي للمربي أن يعتمد على غيره في مثل هذه القضايا، سواء كان أبا أو أما أو معلما في المسجد أو في المدرسة، ولا بد على الآباء خصوصا أن يعوا أنَّ واجب تعليم كثير من هذه الآداب واجبُهم هم قبل غيرهم، وأن لا يظنوا أنهم بإرسال أولادهم إلى المسجد أو المدرسة قد قاموا بواجبهم كاملا أو انتهت مهمتهم.
المطلب الثاني : التعليم عقب الحوادث والآيات الكونية
وهذا أيضا من آكد المناسبات للتعليم، وهو أمر يكاد يغيب في هذه الأيام، وإن كان المعني به ليس الآباء والمعلمين فقط، بل هو أمر يعني بدرجة أكبر أهل التذكير من أصحاب المنابر والأقلام، الذين إن لم يعيشوا واقعهم تفسيرا وعلاجا عُدُّوا ممن ضيع الأمانة.
ومن الهدي النبوي في هذا المضمار أن خطب صلى الله عليه وسلم عقب خسوف الشمس وقال: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ"([2]).
فإذا كان هناك زلزال ما، قريب أو بعيد اشتهر ذكره؛ وجب الوقوف عنده وتفسيره تفسيرا شرعيا، على أنه مظهر من مظاهر قدرة الله تعالى وسيطرته على الكون وضعف الإنسان مع كل ما أوتي من علم وقوة وأنه من مظاهر التخويف وعقوبة الله سبحانه للأقوام الذين يستحقون العقاب، وأن كثرة الزلازل من أشراط الساعة التي تظهر لما يجاهر الناس بشرب الخمور ويستحلون المعازف، وهكذا يُستغل الحدث لترسيخ ربوبية الله تعالى، ولتخويف الناشئة وغيرهم من عاقبة المعاصي.
وأيضا إذا كان ثمة عدوان ما، من الكفار على المسلمين في أي جهة من الجهات، ينبغي أن يستغل الحدث لبعث عقيدة الولاء والبراء في نفوس الناشئة، ولطرح السؤال الملح لِمَ يسلَّط الكفار على المسلمين؟ ثم الجواب عنه ببيان علل الخذلان وكذا أسباب النصر من توحيد لله تعالى ودعاء وتوحيد للصف وإصلاح للنفوس.
وكذلك ينبغي أن تستغل الأحداث التاريخية المختلفة، وبيان أبعادها الحضارية لتعميق الشعور بالانتماء إلى هذه الأمة ولوازم ذلك العملية من التزام بالدين الإسلامي وتعظيم للغة العربية.
المطلب الثالث : التعليم إثر وقوع الخطأ
ومن آكد المناسبات للتعليم التعليم إثر وقوع الخطأ، وذلك من جهة اهتمام قلب المتعلم، ثم لاجتناب تكرار حدوثه، ولأن السكوت عن الخطأ ربما كان من قبيل الإقرار للمنكر، وكثيرا ما يستدل به الطفل على صواب صنيعه.
ولهذا تطبيقات كثيرة في السنة النبوية، منها لما جاء ذاك الأعرابي الذي بال في المسجد فهَمَّ به بعض الصحابة، فصدهم النبي صلى الله عليه وسلم عما هموا به وقال:" فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ"([3])، وأخذ الأعرابي في رفق وقال له معلما:" إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ"([4]).
وفي هذا السياق نبين خطأ جسيما مركبا يقع فيه كثير من المربين، وهو سكوتهم عن بيان الأخطاء حين وقوعها، ولهم في ذلك دوافع مختلفة، فمنهم من يجمع الأخطاء لتكون حجته يوم يزمع على تسليط العقوبة على الولد أو التلميذ، وهذا لا يجوز لأن الولد لا يستحق العقاب إلا بعد النصح ولأن العقاب على فعل مضت عليه أيام أو أسابيع لا جدوى منه لأن الطفل غير مستحضر للخطأ.
ومنهم من يقول:" دعه إنه ما زال صغيرا"!!، وهذا خطأ أيضا لأن الولد إذا لم يُرب في صغره ويعلم فمتى يكون ذلك!؟ وكذلك فإن الطفل يستدل بسكوت مربيه وبضحكه على صواب فعله كما ذكرنا، نعم قد تكون هذه العبارة (أي الاعتلال بالصغر) عبارة صالحة، لكن في موضع واحد، وهو زجر من يريد تسليط العقوبة على صغير لا يعقل أن ما صنعه فساد.
ونذكر في ختام هذا الفصل أن الأصل في أسلوب التعليم هو المباشرة باللسان، ولا بأس للآباء أن يستعينوا بغيرهم من المعلمين فيما لا يقدرون عليه (خاصة فيما يتعلق بمسائل الشرع من فقه وتفسير ونحو ذلك). ولهم أن يستعينوا بالكتب والأشرطة والبرامج التعليمية المختلفة، وربما ارتقى أمر الاستعانة إلى حد الوجوب عليهم، وسيأتي إن شاء الله مزيد تفصيل لهذا عند الحديث عن الوسائل المعينة على التربية.
[1]/ رواه البخاري (3038) ومسلم (1733).
[2]/ رواه البخاري (1044) ومسلم (901) عن ابن عباس.
[3]/ رواه البخاري (220) عن أبي هريرة .
[4]/ رواه مسلم (285) عن أنس .