الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، أما بعد فإن التاريخ يعتبر مرآة الأمم يعكس ماضيها ويترجم حاضرها، وتستلهم من خلاله مستقبلها، وإنه من الأهمية بمكان العناية به، وتدوينه ونقله إلى الأجيال نقلاً صحيحاً، بحيث يكون نبراساً وهادياً لها في حاضرها ومستقبلها، والأمم التي تعيش بدون تاريخ أمم تعيش بدون ذاكرة، وهي معرضة لإعادة إنتاجه مرة أخرى من غير استفادة منه وقد يكون ذلك في غير صالحها.
وللتاريخ أثر عظيم في التربية الفكرية للأجيال وفي تكوين شخصية الأفراد وصناعة توجههم في الحياة، وإننا بتعليم تاريخنا للأطفال الناشئين نرسخ فيهم البعد الإسلامي والعربي لثقافتنا وحضارتنا، وتتكون لديهم معاني الوطنية الصحيحة، وهذا أمر بين لا ينكره إلا جاهل أو مغرض.
مما ينبغي أن يعلمه المربي أن معرفة التاريخ الإجمالي لأمتنا ليس تخصصا كمعرفة الفيزياء والرياضيات، بل هو من العلوم العامة التي يحتاجها كل فرد من أفراد الأمة فهو كتعلم القراءة والكتابة والحساب، لأن فائدته تتعلق بتكوين شخصية المرء وبناء فكره.
علم التاريخ من علوم الدين
ومما تجدر الإشارة إليه أن علم تاريخ أمتنا الإسلامية يعتبر علما شرعيا من جهة ثمرته ومن جهة كثير من مضامينه، وفي هذا يقول الشيخ محمد رشيد رضا معاتبا المسلم لعدم اهتمامه بتاريخه في فاتحة المنار السنة العاشرة :" ألم يرشد القرآن إلى السير في الأرض؛ لاستطلاع العبر؟ ألم ينبئك بسننه في نظام البشر، ألم يهدك إلى أنه- تعالى -لا يهلك المصلحين؟ وإن كانوا في العقيدة مشركين، وأنه لا يبقي على الظالمين، وأن العاقبة للمتقين، فما لك لا تعد من هذا الدين معرفة تواريخ الأمم الغابرة، واختبار أحوال الأمم الحاضرة، ومعرفة الأقطار والبقاع، والعلم بشؤون الاجتماع، أليس هذا من إقامة القرآن، واستعمال الفرقان والميزان ؟ أليس قد أنزل الثلاثة لترقية شأن الإنسان؟ فكيف تشغلك أحكام حركات الأبدان ومعاملات الأقران عن حكم الديان في الأناسي والأكوان".
وزيادة على ذلك فإن قسما كبيرا من التاريخ ومن تاريخ أمتنا مرتبط بعقيدتنا، لأنه متعلق ببدء الخلق وتاريخ الأنبياء والمرسلين وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وجزء عظيم منه جاء موضحا في القرآن الكريم من خلال قصص القرآن الذي تضمن أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية، ولم يكتف ربنا عز وجل بهذا الإيراد حتى امتن به على نبيه الكريم وجعله من جملة ما أسداه إليه من النعم فقال جل وعلا: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود/120] وقال: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا) [طه/99]. وكذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه بأخبار الأمم الذين قبلهم، ويحكي من ذلك ما يشرح به صدورهم ويقوي إيماناهم ويشد عزائمهم ويثبتهم.
فوائد التاريخ التربوية
إن التاريخ عظات وعبر وآيات ودلائل، وقد عز وجل: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [الأنعام/11]، وهذه بعض فوائده من الناحية التربوية للناشئة:
أولا : إذا نظرنا إلى قصص الأنبياء والمرسلين، وجدنا من فائدته زيادة الإيمان, فإن من الإيمان بالرسل معرفتهم ومعرفة أخبارهم وأحوالهم مع أقوامهم, وقراءة ما أُرخ عنهم من جملة الأسباب المعينة على ذلك.
ثانيا : وإذا نظرنا إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فإننا نجد من آثارها التربوية محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، ونجد فيها وفي سير علماء الأمة القدوة الصالحة التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، وتركت صفحات بيضاء ناصعة، لا تُنسى على مر الأيام والسنين.
ثالثا : وإذا نظرنا في التاريخ الإسلامي في أزهى مراحله، نجد فيه صورا حية للواقع الذي طُبقت فيه شرائع الإسلام، وبالاطلاع عليه نقف على جوانب مشرقة في جميع الميادين يتشرف بها أولادنا وتجعلهم يعتزون بدينهم وبأسلافهم.
وربما يجدون أيضاً بعض المواقف السلبية التي وقع فيها أفراد من الأمة عبر التاريخ، وهذه أيضا يأخذون منها العبر من جهة محاولة تجنب نظائرها في عصرنا، وهذا عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين" متفق عليه.
رابعا : وفي تدريس ناشئتنا لتاريخ أمتنا المجيد شحذ لهممهم، وبعث للأمل والتفاؤل فيهم وطردٌ لروح العجز عنهم، وبثٌ لروح التنافس في الخير والتضحية في نفوسهم، فكم من أمة بلغت من العتو والاستكبار مبلغا فجاءها أمر الله ليلاً أو نهاراً فجعلها حصيداً كأن لم تغن بالأمس، وكم من أمة كانت مستضعفة فصبرت وثابرت فكانت العاقبة لها.
فإذا نظرنا في التاريخ القريب لبلدنا رأينا أمتنا عاشت عقودا مستضعفة مقهورة، تحت ظل استعمار وحشي حاول يشتى الطرق محو دينها ولغتها وجميع قيمها، ولكنها بفضل إيمانها بالله تعالى وتمسكها بكتاب ربها وتضحية رجالها عرفت كيف تقلب موازين القوة وكيف تسلك الطريق إلى تحقيق الاستقلال، ولقد كان ذلك درسا ليس فقط لأبناء هذا الوطن بل لجميع شعوب العالم التي لا تزال تذكر تاريخ جهاد الجزائر المبارك وأخباره.
خامسا : وكذلك إذا وجهنا ناشئتنا إلى دراسة التاريخ فإننا نوجههم إلى قراءة مواعظ حية، ترى فيها سنن الله الكونية وعدالته وإنصافه وانتصافه من الظالمين، وكم من إنسان قرأ في تاريخ الإسلام مواقف مؤثرة ففاضت عينه ورق قلبه وارعوى، وكان ذلك سببا لاستقامته وتركه لغيه وتغيير منهجه في الحياة.
سادسا : وإذا درَّسنا أولادنا التاريخ الإسلامي فإنهم يجدون فيه إجابة عن شبهات كثيرة يلقيها المغرضون من أعداء هذا الدين، الذين يعمدون إلى مغالطات تاريخية للنيل من الإسلام ومن المسلمين.
(من فوائد التخصص في علم التاريخ)
هذه بعض الفوائد التربوية العامة، أما علم التاريخ باعتباره تخصصا فله من الفوائد الشيء غير ما سبق ذكره، إذا من فوائده أنه يرزق دارسه المتخصص فيه بصيرة نافذة وحكمة عالية، ذلك أن الله تعالى يسير هذا الكون وفق سنن كونية لا تتبدل كما قال عز وجل: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر/43] فالتأمل في التاريخ يساعد أهل السياسة وعلماء الاجتماع في تحديد المواقف الصائبة في القضايا الحاضرة، ومنه يستلهمون أيضا مخططاتهم المستقبلية.
ومن الفوائد التي تذكر لعلم التاريخ أنه يعين على معرفة حال الأمم والشعوب، وعوامل قيام الدول وأسباب سقوطها, فالتاريخ يلخص لقارئه حقبا كاملة وعمر دول عظيمة في سطور, والدول شأنها في هذه الحياة شأن كل شيء يجري عليها قانون للأسباب، ونواميس الكون وسننه.
إنه لأهمية التاريخ في الحفاظ على الهوية وصناعة الشخصية الإسلامية حرمت فرنسا على آباءنا يوم كانت جاثمة على أرضنا أن يدرسوا تاريخ أمتنا، وفرضت على من تعلم من أبنائنا في مدارسها أن يدرس تاريخ فرنسا ليصير فرنسيا بشعوره وتكفيره، وكلفت من جهة أخرى من يكتب تاريخا مزورا مغلوطا لبلدنا، لتقطعه عن أصوله ومنابعه وتربطه بتاريخ أوروبا والنصرانية، ولكن الله تعالى سلم ولم يمكنهم من بغيتهم، وأصبح صنيعهم هذا جزءا من التاريخ الذي يعتبر به المعتبرون.
(يتبع)