مذهب عقيل وفتنة الجزائر
حين الفتنِ تُبلى السرائر، وتبتلى المعادن والضمائر، فيظهر الغثُّ من السمين، ويمتاز أهل الشِّمال عن أهل اليمين؛ ذلك أنَّ الفتنة تُرغم كلَّ إنسان على التحيُّز لخياراته "الإيمانية-الكونية-العميقة"، وتُذهب – مثل الفقاعات – خياراته "النِّفاقية-المصلحية-الظرفية".
في هذه الأيام، وقد هزَّت الجزائرَ فتنة عمياء خرقاء، تذكَّرنا قوله تعالى، وكأنَّه نزل فينا: "أولا يَروْن أنَّهم يُفتنون في كلِّ عام مرَّة أو مرَّتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون"!.
فما بين الزلازل والفيضانات، وما بين الاختلاسات والإضرابات... ها هي ذي فتنةٌ من نوع آخر، تُلقي بكلكلها علينا، وتحطُّ رَحلها في ديارنا، إنَّها فتنة الصغار في تحدِّي الكبار!!.
المصيبة أننا نبحث عن السبب ولا نجده، وعن النتيجة فنلقاها ماثلةً أمام أعيننا عَيانًا.
المجرمُ ملثَّم مستور، والضحية منكشفة مفضوحة.
أمَّا الوجه الذي صُفع – ولا يزال يُصفع - مرَّات كلَّ عام، فهو بيِّنُ القسمات، ظاهر المعالم: إنَّه وجه الجزائر. وأمَّا الأيدي الملطَّخة والأنامل المتَّسخة، فإنَّنا نراها يقينًا، ولكن لا نعرفُ بالضبط هي أيدي مَن؟ ولا أنامل مَن؟
وهنا أجدني مضطرًّا للاستعانة بتاريخنا، وأخذِ العبر منه؛ ذلك أنَّ المجتمعات، أوان رُشدها، تُعطي كلَّ القيم حقَّها ومستحقَّها، ولا تعرف انفصاما بين دينٍ ودنيا، ولا بين فكرٍ وفعل، ولا بين حقٍّ وواجب... أمَّا تلك المجتمعات المريضة، المتخلَّفة، المهزوزة... فتبدو كجسم غريب غيرِ متناسق، لا الرأسُ رأسٌ، ولا الرجل رِجلُ؛ بل قد يحلُّ رِجل مكان العقل، وقد يشغَل عقلٌ حيِّز القدَم...
في مثل هذه الحالات تختلط الأمور أيما اختلاط، وذلك ما يسميه القرآن الكريم: "الأمرَ المريج"، ويقول عن أهله: "بل كذَّبوا بالحقِّ لمَّا جاءهم فهم في أمر مريج"؛ وسماه في موطن آخر "الأمر الفرط"، وقال لنبيه: "ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، واتَّبع هواه، وكان أمره فُرطا".
وقد حفظ لنا التاريخ مذهبًا قلَّ من يعرفه بالاسم، لكنَّ الكثيرين منَّا يمارسونه بالرسم؛ إنه "مذهب عقيل".
وعقيلٌ، هذا، هو أخٌ لأمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب، رضي الله عنه.
فإذا كان عليٌّ صاحبَ قضية وموقف، وإذا كان معاوية صاحبَ قضية وموقف؛ بغضِّ النظر عن الصواب كانَ إلى جوار مَن؛ فإنَّ عقيلا كان متذبذبًا، شاكًّا، مائلاً مع مصلحته أنَّى مالت... فحفظَ لنا التاريخ المتخاصِميْن، صاحبي القضية والموقف، ورمَى ذلكم التاريخُ في "مزبلته" اسم عقيل؛ لأنـَّه لا يليق لشيء، ولا يصلح لأمر، وهو الذي قالها صراحة: "إنَّ صلاتي مع عليٍّ أقوم، وإنَّ طعامي عند معاوية أدسم"!.
فكم من عقيل – اليومَ – في أمَّتنا العربية المهزومة، وفي جزائرنا الحبيبة المكلومة؛ إنهم يُصلُّون مع الإمام، ويَطعمون – مع السلطان – ألذَّ أنواع الطعام؛ بل إنَّ بعض المنسوبين إلى الإمامة – زورا وبهتانا – تحوَّل إلى عقيل، ومن أصحاب السلطة من التحق بمذهب عقيل؛ وكأنَّ "لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء" صارت هي الأصل، وهي الحق، وهي الغاية، والقضية، والموقف... أمَّا "الثبات على المبدأ"، "والدفاعُ عن الدين والوطن، وعن العرض والخلق..."، و"الجوعُ في سبيل الحقِّ"، و"تحمُّل الأذى لأجل النصرة"... كلُّ ذلك صار فرعاً، وشذوذا، ووصمة عارٍ.
على كلٍّ، أيها المسلم الجزائري، ويا أيها المسلم أنَّى كنت، أمامك ثلاثة خيارات، لا رابع لها:
*إمَّا أن تكون مع الحق.
*أو تكون ضدَّ الحق.
*أو تكون على مذهب عقيل، لا مع الحقِّ ولا ضدَّ الحقِّ!.
والله سبحانه محاسبك على كلِّ خيار، "يوم تُرجعون فيه إلى الله، ثمَّ توفَّى كلُّ نفس ما كسبت، وهم لا يظلمون"، و"يوم تأتي كلُّ نفس تجادل عن نفسها، وتوفّى كل نفس ما عملت، وهم لا يظلمون".
بهذا أوصاني عقيلٌ:
قبل أن يغادر عقيل صفحة التاريخ، طلبتُ منه جملة من النصائح والوصايا، لعلَّها تفيد كلَّ واحد منَّا عمليًّا، فيكونَ مع الحقَّ لا ضدَّه، وصاحب قضية وموقفٍ، لا خدن مصلحةٍ وضيقِ أفقٍ؛ فأجابني مشكورا، وقال:
*عرفتَ الحقَّ فالزَم الصدق، وإلاَّ فاصمت؛ فذلك خير لك، ولدينك، وأمَّتك، ووطنك...
*لا تستهلك إلاَّ ما هو ضروريٌّ، إذ كلُّ ما هو إسراف وتبذير ينخر جسم الأمَّة، ويُهلك قِوامها.
*اعتنِ بالتربية والأخلاق الحسنة، في ذاتك، وفي ذريتك، وفي كلِّ حركاتك وسكناتك.
*اجتهد في القيام بأمرِ مُعوزٍ، أو فقيرٍ، أو جاهلٍ... من جيرانك، وأقاربك، ومحيطك؛ "ومن لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم".
*لتكن غايتُك من كلِّ علم، وفي كلِّ عمل، ومنصبٍ، ومسؤولية... وعند كلِّ منبر، وقسم، وصحيفة... الخ؛ هي ابتغاء رضوان الله وحده، والحرص على مصلحة الوطن.
*عالج كلَّ الأمور بمنطق "الواجب" لا بلغة "الحقِّ"؛ واسأل عن واجبك لا عن حقِّك، بهذا فقط تزدهر أمتك، وتبلغ رشدها.
فإن فعلت كنت عاقلا (من العقل)، وإن لم تفعل صرت عقيلا (من العقال)...
د. محمدبن موسى باباعمي
5 صفر، 10 جانفي، 1432-2011
لا تنسونا من صالح دعائكم...