بحث دراسي حول وكالة ناسا – بحث شامل عن وكالة ناسا
” ناسا “، ذلك الاسم الذي يستحضر في الأذهان كما من الصور والمشاعر المدهشة: الهبوط على القمر، والمكوك الفضائي، والتلسكوب الفضائي “هابل”، وعددا من الرحلات والمشاريع العلمية المتنوعة، وكذلك عددا كبيرا من مشاهير علوم وتكنولوجيا الفضاء، كيف تبدو من الداخل
لما لذلك العالم من مناخ خاص, مناخ العلم في أعلى درجاته, والعمل التعاوني في أجمل صوره, والإبداع العلمي المكرس لغايات تبدو مستحيلة خارج دوائر الاختصاص. فنسعد للبشرية لما يتحقق لها في هذه المراكز من وجهة نظر علمية, وأتألم للفجوة الواسعة والعميقة التي ما فتئت تتسع بين العالمين الشمالي والجنوبي, والتي يتعجب المرء كيف يمكن أن تتوحد الكرة الأرضية من فوقها في المستقبل القريب أو البعيد.
ثمرة التحديات
تعود جذور ( ناسا ) في الحقيقة إلى عام 1915 عندما أنشأ الرئيس وودرو ولسن المجلس الوطني الاستشاري لعلوم الطيران ( NACA) ( ناكا) الذي تم تحويله إلى ( ناسا ) عندما أطلق السوفييت الصاروخ (سبوتنيك), وأحس الأمريكان أن القطب الشيوعي بصدد تحقيق سبق وتقدم استراتيجي بالغ الأهمية. وتم بالتالي إعداد عدد من المشاريع الفضائية: (مركوري) ( Mercury), أول برنامج مخصص لتحقيق الرحلات الفضائية المأهولة بالبشر, وقد شارك فيه 54 رائداً في 6 رحلات تدريبية, ثم (جيمناي) ( Gemini) الذي تضمن رحلات أطول في ظروف منعدمة الجاذبية وسباحة في الفضاء والتقاء مركبتين, ثم مشروع (أبولو) ( Apollo) العظيم برحلاته الإحدى عشر الناجحة, منها ست حطت على سطح القمر سمحت في المجمل لاثني عشر رائداً بالمشي عليه, ثم (سكاي لاب) ( Skylab) الرحلة المطوّلة التي دامت قرابة سنتين وسمحت للبشر بقضاء مدد طويلة (أسابيع عدة) في الفضاء لاختبار مقاومة أجسامهم لظروف انعدام الجاذبية, وكذلك القيام بتجارب متنوعة على مواد معينة, وأخيراً جاءت مرحلة المكوك الفضائي الذي سمح بوضع أجهزة مهمة في الفضاء (التلسكوب (هابل), المرصد الفضائي للأشعة غاما, وغيرهما), والقيام بتجارب مختلفة ومتقدمة في مجالات علمية وتقنية وطبية.
وحدثت طبعاً خلال المسيرة الطويلة إخفاقات, وهو شيء طبيعي لابد أن يحدث في مثل هذه المشاريع البشرية الكبرى. فقد شهدت أيام (مركوري) و(جيمناي) و(أبولو) الأولى انفجارات للصواريخ ومشاكل كبيرة في الفضاء, وكذلك لم ينج روّاد (أبولو 13) بحياتهم- في رحلة شدت أنفاس العالم كله- إلا بأعجوبة. ولكن أكبر كارثة في تاريخ ( ناسا ) كانت- بلاشك- انفجار المكوك (تشالنجر) وعلى متنه 7 رواد- منهم أول مدرسة عادية- في يناير 1986. وأنا أذكر ذلك اليوم وذلك الحدث بشكل واضح, لأني كنت أكبر سنّاً حينها وكنت أحضر رسالة دكتوراه في مجال قريب من ذلك, وأذكر الهزة الكبيرة التي أحدثها في الأوساط الفضائية والعلمية لسنوات طويلة.
فقد توقفت الرحلات المكوكية لثلاث سنوات, حتى تم تحديد سبب العطل بدقة ومن ثم تحاشيه. ومن الإخفاقات الشهيرة أيضاً ذلك الخلل المهم الذي وجد في التلسكوب الفضائي (هابل) (الذي كان قد كلف ملياري دولار وسنوات طويلة من العمل والاجتهاد) بعيد وضعه في مدار حول الأرض في أبريل 1990.
ولكن تلك الإخفاقات تدل, أكثر من أي شيء آخر, على صلابة العزم لدى ( ناسا ) وقدرتها على تخطي الصعاب والمراحل الصعبة, بل والارتقاء الى مستوى هو أعلى من الطموح الأصلي. من منا لا يذكر ساعات العجب (التي زادت على المائة ساعة) التي قضاها روّاد الفضاء معلقين في الفراغ وهم يصلحون ويعوّضون قطع (هابل) المعيوبة, خاصة بعدما شاهدنا الصور المدهشة (والكم الهائل من المعلومات) التي تمكن التلسكوب من التقاطها وتقديمها للباحثين بعد أن تم التصليح.
تضم ( ناسا ) اليوم حوالي 19 ألف عامل, وهو رقم أقل بكثير من الحجم الأكبر (33 ألفا) الذي وصلت إليه في 1966 و1967, و24 ألفاً 1990. ولكن ( ناسا ) صارت تعتمد بشكل كبير أيضاً على الشركات المتعاقدة معها, وهي شركات ضخمة مثل (لوكيد) ( Lockheed) و(مارتن مارياتا) ( Martin Marietta), التي تضم هي الأخرى عشرات الآلاف من العاملين. أما ميزانية ( ناسا ) فكانت 13.6 مليار دولار سنة 1998 بعد أن تجاوزت 15 ملياراً في الثمانينيات, وانخفضت إلى نحو 10 مليارات في أواسط التسعينيات.
وتتشكل ( ناسا ) من مركز قيادة مهم في قلب واشنطن وتسعة مراكز علمية.
وبالإضافة إلى هذه المراكز التسع الرئيسية, تضم شبكة ( ناسا ) مركزين آخرين هما: (مخبر الدفع النفاث JPL ) الشهير في كاليفورنيا, الذي يعنى بالرحلات الكوكبية مثـل: (غاليلـيو) و (فويـاجر) و (ماجلان) و (باثفايندر) وغيرها, و (محطة والبس للطيران).
مركز (غودارد)
ولإعطاء فكرة أوضح عمّا يجري في هذا المركز, ربما يجدر بي تقديم صورة موجزة عن مركز (غودارد). لقد لعب هذا المركز دوراً ريادياً في أبحاث الفضاء منذ أنشئ في عام 1959. فمن مشاريعه الرئيسية نذكر التلسكوب الفضائي (هابل) الذي يشكل (غودارد) مركز عملياته والتحكم في حركاته, ثم هناك مشروع (الرحلة إلى كوكب الأرض) ( Mission to Planet Earth), الذي يهدف إلى دراسة كوكبنا كنظام بيئي شامل وموحّد, وكذلك مشروع القمر الصناعي GOES المخصص للدراسات البيئية. كما يعتبر (غودارد) مركزاً رائداً في العالم في تطوير وتطبيق التكنولوجيا المتقدمة في مجالات عدة, منها الكواشف الإلكترونية والأجهزة الضوئية وفيزياء الحرارة المنخفضة جداً, والإلكترونيات الدقيقة وأنظمة المعلومات والاتصالات المتقدمة, وتقنيات الرصد والمراقبة للأرض وفيزياء الفلك في مجال الطاقات العليا (الأشعة الكونية والسينية والغاما).
يتكون المركز الضخم من 32 مبنى, ويغطي مساحة تفوق 20 كيلومتراً مربعاً. يعمل فيه حوالي 12 ألف شخص, منهم حوالي 8 آلاف باحث ومهندس وإطار فني. ويحظى بميزانية سنوية تصل إلى نحو 3 مليارات دولار. أما من الناحية الإدارية,
فيتشكل المركز من الأقسام الإدارية التالية:
1- مكتب المدير العام: وهو الذي يسير المركز ككل, وينسق بين الأنشطة المختلفة للمركز, ويرتكز على قسمين مساعدين هما: مكتب الثروة البشرية ومكتب المسئول المالي الأول.
2- مكتب تسيير العمليات: الذي يوفر مختلف الإمكانات الضرورية لإنجاح المشاريع العلمية والتقنية.
3- مكتب تأمين الرحلات: المسؤول عن سلامة وضمان جودة البرامج المختلفة المؤدية إلى نجاح الرحلات, بما في ذلك التحكم والتأكد من المركبات الإلكترونية المختلفة والمواد المكونة لها وطرق الاشتغال كلها. وهذا المكتب مسئول أيضاً عن ضمان المراجعة والفحص المستقلين لكل التصاميم الخاصة بالأجهزة والمركبات والرحلات بشكل عام.
4- إدارة مشاريع الرحلات: التي تقوم بتنظيم وإدارة تسيير مشاريع الرحلات الكبرى للمركز, وتشرف على المشاريع الجديدة في مراحل دراستها الأولى, وكذلك برامج التعاون الدولي ومشاريع المركبات الصغيرة والمتوسطة.
5- إدارة عمليات الرحلات وأنظمة المعلومات: التي تقوم بالتخطيط والتصميم والتطوير والتنفيذ لشبكات الاتصالات الفضائية, وكذلك تتبع الرحلات, وتقدم الأنظمة المعلوماتية الضرورية للرحلات القريبة من الأرض.
6- إدارة علوم الفضاء: حيث يتم التخطيط والتنظيم والتقويم لمجموعة واسعة من مواضيع البحث في علوم الفضاء, على الصعيدين النظري والتجريبي. ومن نفل القول أن ثمة تشاوراً كبيراً ومستمراً بين هذه الإدارة والإدارات والمكاتب المهتمة بالرحلات.
7- إدارة علوم الأرض: التي تتم فيها الأبحاث العلمية الرامية إلى فهم الآليات المختلفة لبيئة كوكبنا, وكيفية تغيرها بشكل شامل, وكذلك التعرّف على مدى توافر وتوزع الثروات الطبيعية على سطح الأرض وفي باطنها, وكيفية الاستفادة منها بأفضل الطرق باعتماد تكنولوجيا الاستشعار عن بعد.
8- إدارة الهندسة: التي تقدم الخبرات والدعم في مجالات التصميم والتطوير والاختبار للمركبات والأجزاء المعقدة والأنظمة الشاملة التي تدخل في مشروع ما. كما يقوم مهندسو (غودارد) بالتشاور والتعاون مع ممثلين من مراكز أخرى لـ( ناسا ) ووكالات وصناعات أخرى, بل ودول أخرى في مجال الأنظمة الفضائية الآلية والتكنولوجيا المرتبطة بذلك.
إلى جانب هذه المكاتب والإدارات, يحتوي المركز على مجموعة من المصالح والأنشطة العامة مثل المكتبة ومركز الزوار ومكتب العلاقات العامة وإدارة المحاضرات والمعارض, نود إعطاء لمحة عنها هي الأخرى فيما يلي:
* المكتبة, وتنقسم إلى جزئين:
أ ـ الكتب, التي يزيد عدد عناوينها على مائة ألف (50 كتاباً جديداً يضاف كل شهر)
ب ـ الدوريات, التي يفوق عددها الألف, وتعود معظمها إلى عشرات السنين- وبعضها إلى أكثر من قرن- إلى الماضي.
ويسمح لأي شخص- عامل دائم أو زائر عابر- بالاستفادة من المكتبة بكل خدماتها, من مراجعة الميكروفيش إلى التصوير المجاني لكل الوثائق (كتب, مجلات, وغير ذلك )!
أن المكتبة تتمتع بأحدث أنظمة المعلومات, من ترتيب الكتب والدوريات وشتى الوثائق على الحاسوب, وإمكان البحث عن بعد عن طريق شبكة الإنترنت, بل إن الباحث بوسعه طلب أي وثيقة بالكمبيوتر لتصله بالبريد الداخلي, ويمكنه أيضاً طلب الحصول على كتاب أو وثيقة غير متوافرة بالمكتبة, فتطلبه له الإدارة من مكتبة أو مؤسسة خارجية في أقصر الآجال… وكذلك استفادت المكتبة من قدرات التخزين على الأقراص المدمجة ( CD-ROM) فوضعت عليها بنوكاً من المعلومات مثل: مرجع (مك غرو- هل) العلمي والتقني, وفهرس النجوم المرشدة, ومناخ العالم, وملخصات الأبحاث الجوية والأرضية الفلكية الفيزيائية, والمكتبة الإلكترونية ( IEEE) والمرجع الجغرافي, وغيرها كثير.
* مركز الزوار, الذي يحتوي على قاعة عرض كبرى فيها مجسمات وخرائط وشاشات عرض لأفلام وثائقية قصيرة, ومكتب خاص لتزويد المدرسين (مجانا) بمواد تعليمية متنوعة, وكشك صغير لبيع الهدايا والتذكار. ومن خلال المركز يتم تنظيم زيارات مع دليل إلى أنحاء عديدة من المركز, بما فيها قاعات التحكم في الأقمار الصناعية والمركبات وقاعات تصنيع الأجهزة وتركيبها. والمركز مفتوح 6 أيام في الأسبوع من الساعة التاسعة إلى الرابعة.
* مكتب العلاقات العامة, الذي يشكّل حلقة الوصل مع المجتمع عامة ووسائل الإعلام خاصة, ويوفر آخر المعلومات عن الرحلات والنتائج العلمية وأنشطة المركز, ويمكن من خلاله الوصول إلى أي موظف بالمركز, حيث يحتفظ ببنك معلومات حاسوبي شامل يحتوي على كل المعلومات البشرية والمعطيات التقنية الماضية والحاضرة, ويقدم أيضاً آخر الصور والتسجيلات حول مختلف المشاريع, ويقوم أيضاً بتنظيم الحوارات واللقاءات الصحفية مع الباحثين والمسئولين.
* إدارة المحاضرات والمعارض, التي تنظم من خلالها المحاضرات التقنية والتخصصية داخل المركز والمحاضرات العامة التي تلقى في مؤسسات خارجية (مدارس, جامعات, شركات هندسية, مؤسسات سياسية, الخ…), من طرف بعض الباحثين والعاملين حول مشاريع ( ناسا ) الحالية والمستقبلية ومدى استفادة المجتمع من التكنولوجيا المطوّرة لدى ( ناسا ), والاهتمامات المختلفة للعلماء والباحثين اليوم وغدا. أما داخل المركز, فتلقى حوالي عشر محاضرات أسبوعياً في الأقسام العلمية والتقنية المختلفة تتراوح بين المتخصصة جداً والعامة, الموجهة إلى كل العلميين بمختلف مشاربهم. وضمن هذه المحاضرات كان لي شرف لقاء الدكتور فاروق الباز (الجيولوجي المصري الأمريكي البارز الذي عمل في مشروع أبولو ثم مشاريع استشعار عن بعد مهمة كثيرة), منذ عدة سنوات, وعلماء كبار آخرين مثل آلن ساندج (تلميذ (هابل) ووريثه العلمي), وروجر بنروز (أحد كبار علم الكون والفيزياء النظرية المعاصرة).
خلاصة القول أن (غودارد), وكل مراكز ( ناسا ) الأخرى, عالم علمي كامل. فالعمل- أو بالأحرى الحياة- في هذا العالم سهل جداً, بفضل تعاون الجميع وتكاتفهم من أجل المصلحة العامة. فموظفو المكتبة يجدون متعة في مساعدة الباحثين والمهندسين على الوصول إلى المعلومات التي يحتاجون إليها, بل ويحاولون تخفيف ضغط العمل والبحث عليهم, فيوفرون الجرائد اليومية والمجلات للقراءة في صالة الاستراحة. وكذلك تجد المهندسين والمشرفين على أجهزة الحاسوب وشبكاتها على أتم الاستعداد لحل أي مشكلة تطرأ على أي باحث أو موظف, بل وأيضاً لتقديم المشورة والنصيحة في الجوانب التقنية مثل التحليل الرقمي أو المحاكاة الحاسوبية التي قد يحتاج إلى اعتمادها الباحث من حين لآخر. وإن من اللافت للنظر أن معظم المباني والمكاتب والقاعات التي تتم فيها الأبحاث مفتوحة للجميع في كل وقت, فمن النادر جداً أن تلقى باباً مغلقاً في لحظة ما, بل تترك جل القاعات والمكاتب مفتوحة وقت الغداء ولا تقفل إلا ليلا,و تصوير الوثائق مجانيا ومفتوحا للجميع في كل مبنى وفي كل وقت, لا يحتاج أي واحد إلى بطاقة أو رقم سري ولا يتم عدّ كمية التصوير أو الورق المستهلك في آخر اليوم أو الشهر. حتى إرسال الظروف بالبريدإلى أي مكان (داخل المركز أو خارجه, داخل أمريكا أو خارجها) لا يكلف الباحث شيئاً على الإطلاق, فما يحتاج إلا إلى كتابة عنوان المرسل إليه على الظرف ووضعه في أحد الأكياس الموضوعة عند مدخل كل مبنى, إذ يتم جمع الظروف مرتين في اليوم وإرسالها من طرف المصلحة المعنية بذلك. كل ذلك من أجل تسهيل عمل الباحث وتخليصه من كل الأعباء حتى يتفرغ ذهنه كلياً للبحث والابتكار.
ويمكن تصنيف مشاريع ( ناسا ) للعشرية القادمة تحت بابين رئيسيين:
دراسة الكون ودراسة الأرض. تحت الباب الأول يمكن وضع برنامجين كبيرين هما:
(المراصد الفضائية الكبرى), ومشروع (مصادر) ( Origins),
أما الباب الثاني فيضم المحطة الفضائية الدولية ومشروع (رحلة إلى كوكب الأرض).
يضم برنامج (المراصد الفضائية الكبرى) أربعة أقمار صناعية علمية مهمة هي: التلسكوب الفضائي (هابل), و (المرصد الفضائي للأشعة غاما) ( GRO) و (المحطة المتقدمة للأشعة الفضائية السينية)( AXAF) و (المحطة الفضائية للأشعة ما تحت الحمراء) ( SIRTF), أما برنامج (مصادر) فيهتم بدراسة الحياة ومصادرها في الكون, ويضم أيضاً الرحلات المزمع إرسالها إلى المريخ وإلى عدد من أجرام المجموعة الشمسية.
وإذ تشكل هذه المشاريع مرحلة مهمة ومتقدمة في مجال أبحاث الفضاء والكون, أودّ هنا تقديم بعض المعلومات التفصيلية لكل منها.
تلسكوب ومرصد
( هابل) هو حلم ظهر في ذهن أحد العلماء هو (لايمن سبتزر) لأول مرة في الأربعينيات, وتم تصميمه وتركيبه في السبعينيات والثمانينيات, ثم وضع في مدار حول الأرض سنة 1990. ويحتوي التلسكوب على مرآة رئيسية قطرها متران وأربعون سنتيمتراً ومجموعة واسعة ومتكاملة من الأجهزة, منها خاصة كاميرات ثلاث ومطيافان ومجسّات للمواقع الدقيقة. وقد وضع المرصد على ارتفاع 600 كم من سطح الأرض, مما يسمح له بتفادي التأثيرات السلبية للغلاف الجوي وبالتالي التقاط صور عالية الدقة (فتكون ثرية بالمعلومات) لمختلف الأجرام الكونية في مجالات الضوء المرئي وما فوق البنفسجي وما تحت الأحمر. فالمراصد الأرضية, حتى ذات المرائي الكبرى (التي تصل اليوم الى 10 أمتار قطراً) نادراً ما تصل دقتها إلى ثانية واحدة من الزاوية, إلا عندما تتوافر ظروف مشاهدة استثنائية, بينما تصل دقة (هابل) إلى عشر تلك القيمة, أي عشر مرات أحسن!
كانت الخطة الأصلية التي وضعت للمرصد تقضي بإرجاعه إلى الأرض كل خمس سنوات من أجل تجديده وصقله, ولرحلة ضبط وتعديل كل سنتين ونصف. لكن الخطة تغيرت جذرياً سنة 1985, وتم إلغاء فكرة الإرجاع إلى الأرض كلية, وتقرر القيام برحلات تصليحية وتجديدية كل 3 سنوات فقط, تكون كافية للمحافظة على قدرات المرصد لمدة 15 عاماً على الأقل. وقد كانت بالفعل الرحلات التصليحية الكبرى التي تمت في ديسمبر 93 وفبراير 97 ناجحة إلى أبعد الحدود, بل رفعت كفاءة المرصد إلى مستويات أعلى سمحت بالحصول على نتائج أهم وأروع في كل مرة.
ويتم التحكم في كل حركات وأعمال (هابل) الذي يكمل دورة حول الأرض مرة كل 95 دقيقة, من مركز (غودارد) إذ ترسل الأوامر بين حواسب القاعدة وحاسوب المرصد عدة مرات في اليوم من أجل القيام بالبرامج المجدولة له بشكل مستمر ومتجدد.
وإذ نود الاختصار هنا في الحديث عن كل مشروع مهما كان عظيماً, دعونا نقدم قائمة لأهم إنجازات التلسكوب خلال عشريته الأولى هذه:
1- أدلة رصدية قطعية- ولأول مرة- عن وجود ثقوب سوداء ضخمة في مركز كثير من المجرات.
2- قياس لعمر الكون أعطى قيمة (حوالي 10مليارات سنة) أصغر بقدر معتبر من القيم المتحصل عليها سابقاً (12 إلى 15 مليار سنة).
3- الحصول على أول أدلة بصرية (بالصور) بأن الكون يتطور على النحو الذي تتنبأ به نظريات الانفجار العظيم ( Big Bang), إلى جانب قياسات دقيقة لكميات عنصر H ( نظير الهيدروجين) تدعم هي الأخرى نظرية الانفجار العظيم.
4- اكتشاف كويزرات (عارية), أي لا توجد في قلب مجرات.
5- إسقاط فرضية النجوم القزمية الحمراء كحل لإشكالية (الكتلة المفقودة) للكون.
6- تقديم أدلة على أن الكواكب- وبالتالي الحياة- قد تكون جدّ وفيرة في المجرة و (الكون).
7- تقديم صور مفصّلة للأحوال الجوية والطبيعية على كواكب المجموعة الشمسية.
8- الحصول على صور لكوكب يدور حول نجم بعيد (غير الشمس).
9- التقاط صور لنجوم يتم توليدها حالياً في سديم النسر, وهي ربما أروع صورة فلكية التقطت في تاريخ الإنسان.
10- التقاط أعمق وأشمل صورة للكون, أثبتت أن عدد المجرات الحقيقي هو أكبر بحوالي خمس مرات من التقديرات السابقة.
ولايزال التلسكوب الفضائي (هابل) يقدم أدق وأروع الصور الكونية ويسمح للفلكيين باستنتاج معلومات ومعطيات جديدة تغير المفاهيم والتصوّرات بشكل جذري أحياناً.أما المرصد الفضائي للأشعة (غاما), فقد صمم هذا المرصد, الذي يلتقط الأشعة (غاما) (ذات الطاقات العالية والموجات القصيرة جداً جداً) التي لا يمكن التقاطها من على سطح الأرض لعدم اختراقها الغلاف الجوي, للكشف عن المصادر الكونية للأشعة القوية, أو بتعبير آخر عن المواقع التي تحدث فيها تفاعلات عنيفة جداً. فالأشعة غاما لا يمكن أن تصدر إلا عن طريق تفاعلات نووية قوية أو التقاء المادة (إلكترونات أو جسيمات أولية أخرى), مع مثيلاتها المضادة, أو في ظروف تفوق درجة الحرارة فيها بليون درجة مئوية أو تصل فيها المجالات المغناطيسية إلى بلايين ما يوجد على الأرض, أو بجوار الثقوب السوداء والنجوم النترونية حيث تتوافر مجالات جاذبية تفوق بملايين بلايين المرات ما تعوّدنا عليه في حياتنا وبيئتنا.
ومع توافر هذا المرصد, يكون الإنسان ولأول مرة قد رصد السماء والكون في كل مجالات الطيف الكهرومغناطيسي, من أضعف الأشعة طاقة (أطولها موجة), أي الراديو, إلى أقواها طاقة (وأقصرها موجة), أي الأشعة (غاما) مروراً بالأشعة القصيرة (الميكروويف) وما تحت الحمراء والمرئية وما فوق البنفسجية والسينية.
وبالفعل أطلق المرصد, الذي أعطي اسم العالم الفيزيائي (آرثر كومبتن) لكون هذا الأخير وضع بعضاً من القوانين الفيزيائية الأساسية التي تقوم عليها أجهزة المرصد, في 5 أبريل من سنة 1991, وكان يفترض أن يشتغل مدة سنتين إلى أربع, لكنه مازال يعمل وسيظل يقدم النتائج المهمة بعد أن تم رفعه أخيراً إلى مدار أعلى (حوالي 515 كم) فوق سطح الأرض, ويحمل هذا القمر الاصطناعي, الذي يزن إجمالياً حوالي 16 طناً, أربعة أجهزة علمية رئيسية- عدا اللوحات الشمسية وهوائيات الاتصال وغير ذلك- تستطيع دراسة ظواهر كونية متعددة ومتنوعة, وقد قدمت هذه الأجهزة كميات هائلة من النتائج الجديدة والمهمة, عكف على تحليلها وتفسيرها ما يزيد على 750 باحثاً من 23 دولة!
محطات فضائية
تعتبر المحطة الفضائية للأشعة السينية, التي اطلقت في يوليو 1999, أهم وأدق تلسكوب للأشعة السينية صنع لحد الآن, وقد قررت ( ناسا ) أخيراً, إثر مسابقة عامة فازت بها تلميذة من إحدى الثانويات, تسميته (تشاندرا) تمجيداً للعالم (الهندي الأصل) (تشاندر اسيخار) الذي قدم لفيزياء الفلك نظريات مهمة خلال الثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن.
وقد صمم هذا الجهاز البديع لرصد الأشعة السينية التي تنبعث من المناطق الساخنة والعالية الطاقة في المجرة والكون, مثل الغازات الساخنة والسوبرنوفا.
وينتظر أن يقدم (تشاندرا) معلومات فريدة وجوهرية حول طبيعة أجسام متنوعة, من المذنبات في مجموعتنا الشمسية إلى الكويزرات عند أطراف الكون. ومن الأسئلة التي تنتظر أجوبة ومعطيات من هذا التلسكوب, يمكن ذكر:
1- ما هي, وأين توجد (المادة الظلماء) في الكون, خاصة في هالات المجرات ومجموعات المجرات, ولهذا الغرض سيقوم (تشاندرا) بقياس درجة الحرارة والضغط في الغازات الحارة داخل وبين المجرات في المجموعات النائية.
2- ما هو المصدر الطاقوي, أو (المحرك), للنشاط الانفجاري الذي تشهده كثير من المجرات البعيدة?
3- ما هي الظروف الفيزيائية الموجودة في المحيط القريب للثقب الأسود ? وللتعرف على هذا, سيقوم (تشاندرا) بقياسات دقيقة للإشعاعات السينية الصادرة من تلك المناطق تحت تأثير الجاذبية العظمى.
هذه بعض الأسئلة, وبعض الأهداف المطروحة أمام التلسكوب (تشاندرا) السيني, ولاشك أنه سيقدم (كعادة مثل أجهزة الاستكشاف هذه) أجوبة في مسائل لم تطرح عليه أصلاً.
وكسابقتها تأتي المحطة الفضائية للأشعة ما تحت الحمراء, وتتكون المحطة من تلسكوب ذي مرآة قطرها 85 سنتيمتراً وثلاثة أجهزة مبردة إلى درجات حرارة جد منخفضة, قادرة على التصوير والتحليل الطيفي في مجال الطول الموجي ما بين 3 و180 ميكروناً (جزء من الألف من الميليمتر). ولأن المحطة استفادت من آخر التطويرات التكنولوجية في مجال الكواشف ما تحت الحمراء, فإن قدرتها تمثل قفزاً بدرجات عديدة إلى مستويات أعلى بكثير مما توافر لحد الآن في البرامج المماثلة. ورغم أن المشروع يشترط أن تتمكن المحطة من العمل بسلام مدة سنتين ونصف, فإن الاختبارات والمحاكاة دلت على أنها قد تدوم خمس سنوات على الأقل, خاصة إذا تم إعادة تزويدها بالسائل المبرّد, الذي هو ضروري جداً للسماح للأجهزة بعدم التشويش على نفسها بالإشعاع الحراري الذاتي.
وتعول ( ناسا ) الكثير على هذا المشروع لأنه قادر على رصد ظواهر سماوية عديدة جداً ومتنوعة, ولأنه قد يمهد الطريق بالمعلومات التي سيحصل عليها لبرنامج (مصادر) (الذي يهتم أساساً بالبحث عن الحياة ومصادرها في الكون). ويضم البرنامج العلمي لهذه المحطة المواضيع التالية:
1- الأقزام البنية, هي أجسام متوسطة في الحجم والأوصاف بين الكواكب والنجوم, وهي من الأجرام التي يصعب رصدها رغم كثرتها في المجرة والكون لأن معظم إشعاعها يتم في مجال ما تحت الأحمر.
2- الكواكب العملاقة, التي تشكل كتلتها حوالي جزء من المائة من كتلة الشمس (أي حوالي 10 أضعاف كتلة المشتري, أكبر كواكب المجموعة الشمسية), وهي أيضاً لا تشع إلا ضوءاً خافتاً تحت الأحمر.
3- الأقراص الكوكبية الأولية, التي تمثل الحالة البدائية لكتلة في طور تكوين مجموعة شمسية. وهذه الأقراص صعبة الرصد من على الأرض, وهي تهمنا كثيراً لمعرفة مدى تواتر تكوين المجموعات الكوكبية (وبالتالي الحياة) في المجرة.
4- الأنوية المجرية النشيطة ( AGN), التي تشع معظم ضوئها في المجال ما تحت الأحمر, وهي مهمة لأنها تعطي معلومات إضافية ومن زاوية جديدة لما يحدث في قلب ومراكز المجرات (التي يعتقد أنها تحوي ثقوباً سوداء عملاقة).
5- الكون العميق والقديم, حيث يتوقع الباحثون أن تكتشف المحطة حوالي 3000 مجرة في كل درجة من الزاوية, حسب ما أشار إليه المرصد الفضائي للأشعة ما تحت الحمراء (الأوربي) (آيسو) بأن عدد المجرات الحقيقي قد يفوق ما كان يفترض بحوالي عشر مرات. ولذلك ستقوم المحطة بمسح للسماء عند مستويات لمعان متعددة وبفتحات (اتساع زاوية) تصوير متنوعة.
في كل هذه المشاريع والبرامج, يحتاج الأمر إلى تصميم خارق للعادة ودقة جد عالية في التنفيذ لكون تلك الأجهزة سوف توضع في الفضاء لتعمل مدة سنين عديدة في ظروف فيزيائية حادة, تتغير درجة الحرارة فيها بين مئات الدرجات فوق الصفر (عندما تقابل الشمس) ومئات الدرجات تحت الصفر (عندما تكون في ظل الأرض), وذلك في ظرف ساعة أو ساعتين, وتتعرض لظروف الفراغ الحاد والقصف المتواصل من الأشعة الكونية والريح الشمسية وغير ذلك. كل هذا بعد أن تكون قد تحمّلت بالطبع عملية الإطلاق من الأرض على متن مكوك أو صاروخ. فمن الواضح أن هذه المشاريع تستلزم إبداعات متواصلة من طرف الباحثين وانضباطاً كبيراً في التسيير من قبل المسئولين من أجل التوصل إلى تخطي العقبات والمشاكل التي تظهر دوماً بشكل مفاجئ.
أما الملف الكبير الثاني الذي شرعت ( ناسا ) منذ بضـع سـنوات فـي تنـفـيذه, فـيضـم مـوضـوعين:
أـ استكشاف المجموعة الشمسية والبحث عن الحياة ومصادرها,
ب ـ المحطة الفضائية الدولية.
وتندرج ضمن المجال الأول مجمل الرحلات التي تعتزم ( ناسا ) إرسالها إلى مختلف الكواكب والأقمار, خاصة منها الكوكب الأحمر (المريخ) بعد النجاح الباهر (علمياً وإعلامياً) الذي حققته رحلة (باثفايندر) ومركبتها الصغيرة (سوجورنر), وفيما يلي لمحة وجيزة عن الرحلات المزمع إرسالها إلى المريخ والكواكب الأخرى:
1- المريخ: رحلة (مسح المريخ Mars Surveyor 01) ( سنة 2001) التي تحمل مركبة مثل (سوجورنر) تحط على سطح الكوكب وقمراً صناعياً يبقى في مدار حوله ليقوم بعملية مسح شاملة, ثم رحلة (مسح المريخ 30) (سنة 2003) مشابهة للسابقة تقوم أيضاً بفحص التربة وتحليلها والبحث عن الماء, ثم رحلة التقاط العينات) سنة 2005 أو 2006 والعودة بها إلى الأرض في حدود عام 2008, وربما رحلات أخرى على ضوء ما تتحصل عليه هذه الرحلات من معلومات جديدة. وتهدف دراسة المريخ أساساً إلى البحث عن الحياة (البدائية) في الطور الأول من تاريخ الكوكب, وكذلك مدى توافر الماء على سطحه (في الماضي) وفي أعماقه (حالياً), وأيضاً فهم تطور مناخ المريخ, وأخيراً البحث عن المواد (الطبيعية) المتوافرة على سطح الكوكب والتي قد يستفيد منها الإنسان مستقبلاً في محاولته القفز إلى كوكب بعيد.
2- زحل: رحلة (كاسيني) التي انطلقت في نوفمبر 97 وستصل الكوكب بعد 6 سنوات (بعد أن تمر بالزهرة ثم الأرض ثم حزام الكويكبات), والتي من أهدافها الرئيسية دراسة القمر (تايتان) بمسبار يغوص في أجوائه في عملية دراسية انتحارية مهمة لكون (تايتان) يشبه في حالته الراهنة ما كانت عليه الأرض في طورها الأول, أي عندما بدأت الحياة البدائية تظهر عليها.
3- بلوتو (وربما حزام كويبر): رحلة مبرمجة لما بعد 2003 لزيارة الكوكب الوحيد الذي لم ترسل إليه أي مركبة حتى الآن, ويأمل أصحاب هذا المشروع أن تتمكن الرحلة أيضاً من الوصول إلى حزام (كويبر) الذي يشكّل الجزء الداخلي من منطقة المذنبات.
أما مشروع (مصادر) ( Origins), فهو برنامج ضخم, يهدف إلى الإجابة عن أسئلة جوهرية حول مصادر الحياة والكواكب والنجوم والمجرات, أسئلة يمكن صياغتها على النحو التالي:
- هل هناك حياة- بدائية أو متطورة- في مجموعتنا الشمسية أو خارجها (أي في المجرة) ?
- كيف بدأت الحياة على الأرض ?
- هل تستطيع بعض الكواكب أو الأقمار في مجموعتنا الشمـسـية أو خارجها أن تحمـل الحياة وتحميها حتى تتطور ?
- كيف تتكون الكواكب والنجوم ?
- كيف تشكلت المجرات الأولى ?
فلأول مرة في تاريخنا, صرنا نملك الإمكانات التقنية للإجابة عن هذه الأسئلة الجوهرية والأزلية. فنحن قادرون على صنع تلسكوبات تستطيع النظر إلى أطراف الكون وماضيه البعيد, حين كانت أولى المجرات والنجوم مازالت تتشكّل. ولأول مرة في تاريخنا العلمي, صرنا نعرف أن الكواكب موجودة بأعداد كبيرة في المجرة, ونتوقع ألا تمر فترة طويلة قبل أن نكتشف كواكب تحتوي على الماء بوفرة, وبالتالي ربما تحمل شكلاً من أشكال الحياة, خلاصة القول, أن مغامرتنا العلمية (وربما الفكرية) قد تكون على عتبة ثورة جديدة.
رحلة إلى كوكب الأرض!
يشكل هذا المشروع, الذي أعيدت تسميته أخيراً (مهمة علوم الأرض) ( Enterprise EarthScience), أحد المحاور الرئيسية لبرنامج ( ناسا ) للعشرية القادمة. ربما اندهش البعض لكون ( ناسا ) تهتم بدراسة الأرض, وهي وكالة لأبحاث الفضاء, إلا أن التطور الكبير الذي شهده مجال الاستشعار عن بعد في العشريات الأخيرة, سمح للعلماء بمعرفة أحوال كوكبنا من الفضاء بشكل أدق وأكثر تفصيلاً مما يمكن التوصل إليه من على الأرض.
وقد تبين من الاستكشافات الطويلة والمتتالية للمجموعة الشمسية أن الأرض نظام طبيعي وبيئي جد معقد, إذ يؤدي أي تأثير أو تغيير في ناحية منه إلى تقلبات مهمة- قد تكون طويلة الأمد- في الكوكب كله, علاوة على كون الأرض هي المكان الوحيد المعروف حتى الآن بامتلاكه محيطات مائية هائلة وحملة للحياة بأشكالها المتنوعة, العاقلة والبدائية. ولا يمكن تتبع أحوال الكوكب ككل والعوامل البيئية المؤثرة والمتأثرة فيه (هواء, ماء, أرض, حياة) وكيفية تفاعلها مع بعض إلا من منظور عام. وتعتمد هذه الأنواع من الدراسة طبعاً على الأقمار الصناعية التي تحمل الكاميرات (العاملة في المجال المرئي وما تحت الأحمر) والمجسات المتنوعة.
أما مشروع (مهمة علوم الأرض) هذا فيهدف تحديداً إلى:
- رصد سطح الأرض وقياس العوامل المختلفة التي تحدد ظروفه البيئية.
- تحديد التغيرات البيئية التي تسبب أو يتسبب فيها الإنسان بشتى الطرق, وذلك على نطاق إقليمي محدد أو نطاق شامل.
- محاولة التنبؤ بنتائج هذه التأثيرات وبالتغيرات المستقبلية على النظام الكوكبي العام وعلى الظروف الإقليمية الخاصة.
- زيادة معلومات البشرية (بشكل واسع, أي عند مختلف الدول والشعوب), حول الأرض في مختلف المجالات.
- المساهمة في وضع سياسات بيئية حكيمة.
- السماح للقطاعات العامة والخاصة بالاستفادة من تكنولوجيا هذا المشروع.
ولأن الأرض تتشكّل من مكونات كبرى تتفاعل فيما بينها (الكتل الأرضية, المساحات المائية, القبعات الجليدية, الأوزون, الغلاف الجوي, والأحياء من نبات وحيوان), فإن الأبحاث في هذا المشروع يجب أن تركز على الجوانب التالية خاصة:
- التغيرات في المساحات الأرضية وكيفية استعمالنا لها.
- دراسة الأخطار الطبيعية (الفيضانات, الحرائق الكبرى, الزوابع, الزلازل, حالات الجفاف الكبرى, البراكين, الانزلاقات الكبرى), ووضع شبكات الإخطار السريعة بفضل الأرصاد والاتصالات الفضائية.
- دراسة دورات المحيط المختلفة: دورة الكربون, دورة الماء, دورة الطاقة.
- دراسة الأوزون الجوي والوصول إلى فهم دقيق للآليات الكيميائية والفيزيائية والإشعاعية لتفاعلات وتغيرات كميات الأوزون الموجودة في طبقات الجو العليا والمتوسطة.هذا وقد شرعت ( ناسا ) في تنفيذ المشروع سنة 1991 بإرسالها القمر UARS ( قمر الأبحاث حول طبقة الجو العليا) الذي تبعته تجربة (توبكس/بوسيدون TOPEX/POSEIDON ) الأمريكية- الفرنسية التي كانت تهدف إلى دراسة المحيطات بدقة, وقد تم قياس ارتفاعات وانخفاضات سطح المحيط بقعة بقعة, ودراسة التبادلات الحرارية في المناطق المائية المختلفة.
أما المرحلة الثانية من المشروع. فقد انطلقت سنة 1998 مع إرسال سلسلة من المركبات الفضائية الصغيرة تشكل (نظام رصد الأرض). ويتوقع أن تستمر هذه المرحلة حوالي 15 سنة, ليتمكن الخبراء تدريجياً من وضع تنبؤات دقيقة, قصيرة وطويلة المدى, للتغيرات المناخية والبيئية للأرض ولتأثيراتها على حياة الإنسان والمخلوقات الأخرى.
المحطة الفضائية الدولية
يعود هذا المشروع إلى سنة 1984 حين قرر الرئيس الأمريكي رونالد ريجان الشروع في تصميم وبناء مركز فضائي كبير ودائم تتم فيه الأبحاث بشكل مستمر ومفيد للبشرية جمعاء ويكون نموذجا للتعاون الدولي. وبعد عقد ونصف من العمل والجهد, وبعد صرف ما يزيد عن أربعين بليون دولار على المشروع, بدأ تركيب المحطة في تشرين الثاني 98 عندما حمل الصاروخ (بروتون) الروسي أولى القطع, المسماة (زاريا), وتبعته وحدة الربط (اتحاد) الأمريكية.
وتمثل المحطة هذه ثمرة تعاون بين أمريكا وروسيا وكندا واليابان و 11 دولة مشاركة عن طريق وكالة الفضاء الأوربية, إضافة إلى مساهمة متواضعة من طرف البرازيل, واحتمال مشاركة أوكرانيا لاحقاً. وقد دعيت روسيا للمشاركة بعد الحرب الباردة كإشارة إلى التعاون الدولي (رسمياً) وكمحاولة (فعلياً) لإبقاء الخبراء الروس يعملون في مراكزهم وعدم تسربهم للعمل في مشاريع نووية غير مرغوب فيها.
وكانت التكلفة الإجمالية للمشروع قد قدرت بنحو 40 بليون دولار, تقسم كما يلي: أمريكا 18 بليوناً (زائد 13 بليون دولار ميزانية التشغيل للسنوات العشر الأولى 2003-2012), روسيا 10 بلايين, أوربا 77.3 بليون, اليابان 1.3 بليون, كندا 850 مليوناً, إضافة إلى 350 مليوناً من إيطاليا (غير ما تشارك به ضمن الوكالة الفضائية الأوبية). لكن بعض الملاحظين يرون أن التكلفة النهائية للمشروع ربما تصل في النهاية إلى ما يقارب المائة بليون دولار!
وقد شبه المشروع, الذي يسميه البعض بـ (المدينة الفضائية) لكون المحطة تزيد في الطول على المائة متر وتتشكل من بيوت وغرف كبيرة ومتعددة, شبه ببناء الأهرام, خاصة لأنه يوظف اليوم حوالي 10000 عامل (5000 منهم عند شركة (بوينغ) وحدها), ولأن عملية التركيب فقط ستحتاج إلى ما لا يقل عن 45 إطلاقاً بالصواريخ والمكوك الفضائي, وعندما تكتمل (المدينة) ستكون ألمع جسم في السماء الليلية بعد القمر والزهرة, وتلف حول الأرض مرة كل 90 دقيقة.
وينص برنامج المشروع على أن تنتهي ( ناسا ) وشركاؤها من التركيب الكامل في أواخر سنة 2003 وأن يشرع الباحثون الرواد, الذين سيكون عددهم في العادة 6 أو 7, في العمل فوراً.
أما عن الأبحاث التي ستتم على متنها, فستتمحور جلها حول مجالات ما يسمى (الجاذبية الضئيلة) ( Microgravity), وهي مجالات تقدر ( ناسا ) عدد العلميين المهتمين بها بحوالي 900 شخص, ويمكن- على سبيل المثال- ذكر المواضيع التالية التي تندرج تحت هذا الباب:
1- العلوم الأساسية: استنبات وتطوير البلورات المثالية (في تناظراتها), ولذلك تطبيقات عدة, وهناك كذلك بحث حول الكشف عن الجسيمات الأولية المضادة ( Antiparticles).
2- علوم المواد: محاولة تصنيع معادن مزيجة بمواصفات عالية الجودة, وكذلك محاولة ابتكار طرق جديدة أكثر فعالية في حرق الوقود.
3- البيوتكنولوجيا: محاولة التعرف أكثر على آليات البروتينات وكيفية ظهور وانتشار المرض في الجسم وإمكان مقاومة ذلك, وتتم الأبحاث باستخدام (المفاعلات البيولوجية) في الفضاء لزرع وتنمية استنباتات تكون أقرب ما يمكن للأنسجة الطبيعية.
وفي المجال نفسه, سيهتم الباحثون كثيراً بما يحدث للأجسام البشرية في الفضاء (في ظروف انعدام الجاذبية), خاصة أسباب الفقدان الكبير لكالسيوم العظام (بنسبة 10 مرات أعلى مما يحدث على الأرض), وذلك قصد تمكين البشر من السفر بعيداً ولمدد طويلة في الفضاء- إلى المريخ مثلاً.
4- علوم البيئة: سوف تتم مراقبة الأرض وأجوائها (غازات الغلاف الجوي, طبقة الأوزون, الأعاصير, إلخ…), بفضل منظار قطره 50 سم موجه صوب الأرض باستمرار.
كل هذا الجهد.. لماذا ?
بعد هذا العرض, وهذه الجولة في مراكز ومشاريع الوكالة الفضائية الأمريكية, ربما يتساءل البعض: ولكن لماذا هذا الجهد العظيم, وهل نجني فائدة كبيرة تعوّض المصاريف الهائلة والجهود المبذولة ? الجواب هو أولا: أن الحضارات الكبرى يجب ألا تقيس إنجازاتها بالفائدة الفورية التي تجنيها من مشاريعها, خاصة إذا كانت استكشافية تتطلع إلى المجهول, لكنه يمكننا الإشارة إلى أن الأبحاث الجادة تفرز دوماً اكتشافات غير متوقعة تؤدي إلى تطبيقات ملموسة في الحياة لم يكن أحد يبحث عنها أساساً
كلمة أخيرة: في الذكرى مأساة (تشالنجر), أصدر دانيال غولدن, المدير العام لـ( ناسا ), بياناً جاء فيه: (إنني فخور برجال ونساء ( ناسا ), إنهم يسطرون طريق المستقبل. فهم يصنعون مركبات المحطة الفضائية الدولية, وينشئون الأجهزة والمركبات التي سوف تستكشف أطراف المجموعة الشمسية وأنحاء الكون المختلفة, ويبنون الأقمار الصناعية التي ستراقب أجواء أرضنا وأحوال الكوكب الصحية لسنوات آتية. إنهم يقومون بأبحاث مبتكرة ومتنوعة وجدت, وستجد مئات التطبيقات في مجالات حياتنا المختلفة… إنها أكبر المغامرات البشرية!..) ونأمل أن تكون دائما مغامرة لخير الناس.