لم يسبق أن رأيت شيئا جامحا يشعر بالأسى على نفسه.. يسقط الطير الصغير من على الشجرة..ويموت.. دون أن يشعر بالأسى على نفسه..
يذهلنى فيما صادفت فى حياتى من أمور أن كثيرا من الأفراد يفقدون الرغبة فى الحياة،والغرض الذى يعيشون من أجله..قبل أن تستسلم أجسادهم للموت بأمد طويل ويجعلون من الأضرار –وربما أتفه الأضرار – التى تصيب شعورهم وكيانهم النفسى عاملا لاغيا تماما لكيانهم الشخصى..ويستسلمون تماما للرثاء لأنفسهم ،حتى يكون الرثاء هو السبيل الوحيد الذى يدخرون فيه كل طاقاتهم الشعورية..ويبخلون بها عما عدا ذلك سوى كراهية الحياة بالطبع..
أو كما قال الكاتب أنيس منصور فى أحد مقالاته: (ان الانسان اذا لم يجد الرعاية الانسانية..فانه يتحول الى الحيوانية؛فيكون ذئبا ويكون ثعلبا ويكون أفعى؛فهذه القسوة الاجتماعية توقظ فيه كل غرائز الحيوان كى ينقض على الآخرين)..
أى انسان معرض للألم والاصطدام مع الواقع،وحين تجف طاقته الشعورية ويصبح فاقد الأمل فهذه نتيجة طبيعية مؤقتة لآلامه النفسية..ولكن أن تتبدد هذه الطاقة تماما ويصبح دامى القلب وربما بلا قلب على الاطلاق..مجرد ترس آلى يدور فى عجلة الحياة..فهذه ليست حياة.. لأنها "الموت .. على قيد الحياة".. فالانسان الذى لا يستطيع أن يتحمل قلبه صدمة واحدة أو تجربة مؤلمة..ليس جديرا بالحياة.."الحياة التى ينعتونها بالغادرة".. الحياة لا تتصف بصفة لأنها تستمد صفاتها من عناصرها..ونحن أهم عناصرها..فبالتالى الحياة ليست خائنة وغادرة كما يروج البعض،فنحن نعيب الحياة والعيب فينا؛لأننا من نمنح الحياة لونها الخاص..وقسوة المجتمع التى يشكو منها الجميع هى قسوتنا نحن؛لأن المجتمع لا يصنع نفسه..الناس هم المجتمع..قسوة المجتمع هى قسوة الناس..صحيح أن الانسان يعيش فى المجتمع،ولكن الفرد أقوى من المجتمع..مهما كان هذا المجتمع..لأن الفرد كائن حى مستمر،والمجتمع كلمة مجردة..
نحن كل شىء وكل ما يحيط بنا..ان مزاجنا يصبغ دنيانا بلونه الخاص ويحدد بالتالى نظرتنا الى الواقع..ولعل ذلك السبب فى أننا كثيرا ما نهدر حياتنا ونحن نحاول أن نكون شيئا،ولكن ليس الشىء الذى يحقق قصارى ما فينا..لأننا لا نعرف أنفسنا ولا نعرف أصدق ما لدينا..والذكاء ليس وحده أصدق ما لدينا.. ان قوة العقل لا تستطيع الصمود للحياة وحدها..فمن هنا تنبع القسوة التى نفرضها على مجتمعنا،أن نحتمى بعقولنا ولا نقيم للمشاعر أدنى اعتبار..
مشاعرنا هى القوة الحقيقية؛لأنها أصدق شىء فينا..وكلما زاد صدقنا..زادت طاقاتنا على مواجهة مشاكلنا وعلاجها..قد يكون للقدرة العقلية الأهمية الكبرى فى تجريد الأمور وتناولها،ولكن حين تقطع هذه الأمور العقلية صلتها بالمشاعر،قد تفتح الطريق أمام أفعال مهلكة غير انسانية..فحين نقطع الصلة بمشاعرنا..نقطع صلتنا بأرفع السجايا الانسانية فينا..
ان العجز عن الشعور حالة من الموت..الوجه الميت للحياة.. الشعور هو جوهر الحياة؛لأن الانسان لا يحيا لأنه يتنفس ويتحرك،هذه ليست الا مظاهر الحياة..الانسان لا يعتبر حيا الا اذا شعر به من حوله،وشعر هو بمن حوله.. ومن لا يفهم ما تحت أفعاله من مشاعر فانه لا يفهم نفسه أبدا..وعن طريق فهم مشاعرك،فانك تستطيع أن تتحسس كثيرا من الأشياء فى نفسك..وفى عالمك..فتتقبل عيوبك دون أن تعيب الحياة..ودون الحاجة الى تشويه الواقع..
ان نقطة التحول الرئيسية التى قد تكون فى حياة الكثيرين منا هى أن يتقبلوا الاعتراف بعيوبهم ويكفوا عن محاولة اخفائها.. عليك أن توقن بأن عيوبك مهما كانت من الغرابة فانها لا تختلف عن عيوب الآخرين..فحتى الأزهار فى الطبيعة لها أشواك جارحة..انها لحظة مشرقة فى الحياة حين يدرك الانسان أن عيوبه شبيهة بعيوب سائر البشر..وأن محاولة اخفائها قد تؤدى الى صعوبة اصلاحها..فحين تتدفق الطاقة لتحمى العيوب فانه لا يتبقى منها الا شىء قليل للاصلاح. يقول توفيق الحكيم فى أحد كتبه:أنت جزء من الناس وطاقتهم..ولكن كيف يمكن هذا الشعور بأنك جزء من ناس لا تعرفهم..
تماما مثل الاصبع ،فهذا الاصبع لايعرف بقية اليد لكنه يتألم بألمها ،وهذا شىء طبيعى ؛لأنه جزء من نفس الكيان الذى يجمع بقية الاصابع..وهو كيان واحد.. وعلى هذا فحين يتحرك الاصبع مثلا ..لا نقول حركة الاصبع،بل حركة اليد ككل..وكذلك الاشخاص الناجحون فى مجتمعاتهم،لا نقول شخص متقدم..بل مجتمع متقدم،فالافراد هم صانعى المجتمعات.. فاذا كان مجتمعا ما ملىء بالعيوب فان كل فرد يتحمل مسئولية جزء من هذه العيوب
ان صورة الانسان أمام نفسه تلعب دورا هاما فى حياته..وفى المجتمع..فالانسان الذى ينظر الى صورته نظرة الفريسة،التى تصرعها كل تجربة،يخلق ذلك منه شخصية مهزوزة،خاضعة، خائفة..أما اذا كانت نظرة الانسان لنفسه نظرة انسانية،فان ذلك يمنحه الثقة بالنفس،والجرأة..والقدرة على العطاء..فهل لنا أن نتصور مجتمعا ينظر أفراده الى أنفسهم هذه النظرة الدونية التى تدور فى فلك السلبية..ونأمل من هذا المجتمع خيرا؟!
..لا يوجد شىء اسمه مواجهة الحياة فى الحقيقة..فأنت جزء من الحياة..نبض فى شريان الحياة،هل تواجه كيانك..نفسك..عالمك ؛ولكن مواجهة الحياة هو اللفظ الدارج الذى نستخدمه جميعا لنعبر عن المعنى الحقيقى..وهو معايشة الحياة..بكل جمالها وصعابها فى الوقت ذاته..والنفس الجميلة هى التى تصاحبها ارادة قوية،وقدرة عالية على الصبر والتجاوز لما فى الحياة من صغائر..وهى التى تحتفظ بجمالها فى أشد الظروف قسوة..
ولا أعرف حقا متى سنحطم نظرية المجتمع..ونؤمن بنظرية الفرد..ونتجاهل فلسفة "نظرة المجتمع"..ونصنع فلسفتنا الذاتية.. فليس المهم أن تغير مفردات الحياة حولك ،ولكن الأهم ألا تدع تيار الحياة يغير مفرداتك..ويمحى ظلك..ويأسر فكرك.. ويستبيح حرمة شعورك..