التسامح الديني
كثيرا ما نسمع ونقرأ عن التسامح الديني دون أن نقع على تعريف محدد له وليس في الأمر مغالاة إذا قلنا إن إيجاد تحديد وتعريف دقيق لمفهوم التسامح الديني هو من الصعوبة بمكان, ولكن الأهم هو الإحاطة بهذا المفهوم, ورصد التطور الذي طرأ عليه في السنوات الأخيرة ضمن المجتمعات التي تعرف التعدد الديني والثقافي.
إن تطورا جوهريا كان قد طرأ على تعريف التسامح الديني خاصة مع نمو ظاهرة ما يسمى ب عودة الدين أمام انحسار الحركات الفكرية الأخرى.
لقد كان المعنى السائد للتسامح الديني يقوم على مبدأ قبول الآخر باختلافه وتباينه. ولكن التسامح الديني في معناه العميق اليوم يرتكز إلى مبدأ فلسفي وديني طليعي وهو القول بالوحدة الكونية والإنسانية. يقبل هذا المبدأ بالفروقات والاختلافات الدينية والثقافية على أنها طرق أخرى في فهم الله والإنسان والكون. فالتسامح, بهذا المعنى, ليس مساومة فكرية أو دينية , كما أنه بالمقابل لايلغي الخصائص والمميزات الفريدة, ولا يقفز فوق الفوارق الدينية والحضارية, إنه الاعتراف الهادئ بوجود التباينات, ومن ثم احترام هذه التباينات باعتبارها إثراء للوجود البشري ودعوة إلى التعارف والتثاقف: } يا أيها الناس إنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا{ ( الحجرات 13).
خلق الله اذا الناس مختلفين اثنيا واجتماعيا وثقافيا ولغويا, ولكنهم في الأساس بنو جنس واحد كما جاء في القرآن الكريم : } كان الناس أمة واحدة فاختلفوا{ ( يونس 19), أي أن اختلافاتهم على تعددها لاتلغي الوحدة الإنسانية.
ينطلق التسامح, إذا, من أن التعدد شرعة إلهية وسمة الوجود. وهكذا يتجاوز فكرة القبول السلبي, الاضطراري بالآخر إلى فكرة أن الآخر شرط مؤسس ومكمل للشخصية الذاتية, وأن التسامح ليس هو السكوت عن الآخر, في انتظار أن تسنح لحظة إلغائه, بل استدعاء لهذا الآخر, محاورا وشريكا في تكوين الحقيقة.
لهذا وبينما كان التسامح الديني, في أقصى مدى له, يرنو إلى حسن الجوار صار التسامح الديني يعني اكتشاف الآخر في بهائه والتعرف على المطلق في كل دين.
وتاليا, فإن الشرط الأول للتسامح الديني الحقيقي هو المعرفة, معرفة حقيقية للذات وللتاريخ وللهوية ثم معرفة الآخر, تاريخا وثقافة وفكرا, لا يستقيم التسامح الحقيقي, لاالتسامح الشكلي والبروتوكولي, إلا على قاعدة المعرفة الرصينة, فالجهلاء لايتسامحون, ولا يتحاورون.
فالتسامح الذي يقوم على الصمت المؤقت عن الاختلاف ليس تسامحا خلاقا أو مساهما في عمران الكون, بل هو رأفة القوي بالضعيف وتعامل يقوم على منطق القوة والأكثرية النسبي, فالدين السائد في منطقة جغرافية محددة يشكل أقلية ضيقة في بقعة جغرافية أقرب أو أبعد.
ليس التسامح خيارا بين خيارات, يمكن أن تستقيم الأحوال السياسية والدينية والحضارية في العالم بوجوده أو انتفائه, بل هو الخيار الإلزامي, المعبر الضروري إذا شاءت البشرية أن تنمو وتزدهر. إنه القيمة التي تجعل الحياة ممكنة, وقادرة على أن تهزم الموت والحروب والدمار. ففي غياب التسامح, لاثقافة للسلام وللعيش المشترك.
تنطوي الأديان السماوية على قيم التسامح الديني التي تقود المؤمنين إلى التحلي بأخلاقه.
في المسيحية والإسلام الكثير الكثير مما يدعو ويؤسس لهذا المفهوم العميق للتسامح الديني. إن التقاء المسيحية والإسلام على تكريم الإنسان بصفته خليفة الله على الأرض (الاعراف 129 الأنعام 133), واعتباره كائنا حرا, ودعوتهما إلى إنماء الأرض إنماء مشتركا, على قاعدة العدل, إنما يشكلان منبعا ومصدرا لفكرة التسامح الذي يغتذي من مصدر إلهي, يكفي المؤمنين إذا أن يعيشوا ويلتزموا الكتب السماوية بصدق وإخلاص حتى يحققوا في واقعهم الحياتي اليومي ما تدعوهم إليه كتبهم المقدسة. أن تكون مسلما حقا, ومسيحيا حقا, يعني أن تذهب في إيمانك إلى مقاصده العليا, إلى الإعلاء من قدر الإنسان, ورفض أي استغلال أو إقلال من كرامته ككائن مخلوق على صورة الله.
وهكذا فإننا نحمي قيم التسامح الديني عندما نتخذ من العيش المشترك نهجا في حياتنا, ونصون العيش المشترك عندما ندافع عن قيم التسامح الديني. من خلال الفهم الديني العميق للمسيحية وللإسلام يجرد الدين من ثقل التاريخ والتصورات النمطية المشوهة في المخيلة الشعبية ويقود المؤمنين إلى التزام الإنسان الفرد الحر بعيدا عن دينه ولونه وعرقه وأصله.