إسماعيل عليه السلام مبارك، وذريته مباركة:
بارك الله تعالى في إبراهيم عليه السلام وذريته، إسماعيل وإسحاق - عليهما السلام -، قال تعالى : " وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ " [الصافات:١١٣]، ويقطع الله العهد مع إبراهيم، بعد أن رزق بإسماعيل، "وقال له: أنا الله القدير سرْ أمامي وكن كاملاً، فأجعل عهدي بيني وبينك، وأكثرك كثيرًا جدًا ... وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدًا أبديًا، لأكون إلهًا لك ولنسلك من بعدك، وأُعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكًا أبديًا، وأكون إلههم"[1]، وهذا يعني أن إسماعيل عليه السلام هو وريث هذا الوعد الإلهي باعتبار أن هذا العهد كان قَبْلَ وِلادة إسحاق عليه السلام وحين تَفِرُّ هاجر من سارة يؤكد لها ملاك الرب بركة إسماعيل: "وقال لها ملاك الرب: تَكْثِيرًا أُكثر نسلك فلا يُعد من الكثرة، وقال لها ملاك الرب: ها أنت حبلى فتلدين ابنًا وتدعين اسمه إسماعيل؛ لأن الرب قد سمع لمذلتك، وإنه يكون إنسانًا وحشيًا، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه، وأمام جميع إخوته يسكن"[2]، ويتكرر في التوراة هذا الوعد ولكن بعد أن يحذف اسم إسماعيل عليه السلام ويوضع اسم إسحاق عليه السلام مع إبقاء الوصف الخاص بإسماعيل عليه السلام باعتباره الابن البكر[3]، لقد فسر اليهود والنصارى البركة بأنها تعني "أممًا وملوكًا على الشعوب"، "قال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك، فقال: الله بل سارة امرأتُك تلد لك ابنًا وتدعو اسمه إسحاق، وأقيم عهدي معه عهدًا أبديًا لنسله من بعده، وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أبارِكُهُ، وأُثْمِرُهُ، وأُكثِّرُهُ كثيرًا جدًا اثني عشر رئيسًا يلد وأجعلُه أمةً كبيرةً"[4].
إسماعيل عليه السلام مبارك، وذريته مباركة
وحسب زعم التوراة الحالية تُطرد هاجر مع ولدها من أحضان أبيه تحقيقًا لرغبات سارة، "ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزح، فقالت لإبراهيم: اطردْ هذه الجارية وابنها؛ لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق ... فَبَكَّرَ إبراهيمُ صباحًا وأخذ خبزًا وقربة ماء وأعطاهما لهاجر واضعًا إيَّاهما على كتفها والولد وصرفها فمضتْ ... فسمع الله صوت الغلام، ونادى ملاك الله هاجر من السماء، وقال لها: مالك يا هاجر، لا تخافي؛ لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو، قومي احملي الغلام، وشدي يدك به؛ لأني سأجعله أمة عظيمة"[5]، ولكن تجمع نصوص التوراة على أن إسماعيل عليه السلام ومن ثم ذريته مباركة، ومن خصائص ذريته أنها شجاعة قوية كالوحوش، وأنه عليه السلام سيلد أمة عظيمة، واثنى عشر رئيسًا يلد، ويده فوق كل أحد رئيسًا على الأمم، مخالط للشعوب، وأحيانًا مرؤوسًا "ويد كل أحد عليه"[6]، وعلماء المسلمين يرون بركة إسماعيل مثل بركة إسحاق - عليهما السلام - بينما أحبار أهل الكتاب يرون بركة إسماعيل عليه السلام لا تعني غير الأمم والملوك، أما النبوة فلا[7]، ولتفنيد تخصيص النبوة في فرع دون آخر وجوه:
أولاً: لا يمكن أن تكون أمة مباركة من قبل الله عز وجل إلا أن تكون هذه الأمة فيها ميراث النبوة، ويرسل فيها الأنبياء، فقد بارك الله في ذرية إبراهيم عليه السلام وجعل فيها النبوة والكتاب، فكما كان من ذرية إسحاق عليه السلام النبوة والكتاب كان من ذرية إسماعيل النبوة والكتاب.
ثانيًا: "أما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه، وأثمره، وأكثره كثيرًا جدًا"، "إن كانت تلك الأمة كافرة لم تكن عظيمة، بل كان يكون أبًا لأمة كافرة، فعلم أن هذه الأمة العظيمة كانوا مؤمنين"[8].
إسماعيل عليه السلام مبارك، وذريته مباركة
ثالثًا: جعل الله الختان لإبراهيم عليه السلام ولكل ذكر من نسله علامة عهد مع الله تعالى: "هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك يُخْتَنُ منكم كل ذكر"[9]، يقول العلماء: إن كان العهد للختان فإن إسماعيل عليه السلام داخل فيه، وإن كان العهد للنبوة فإن إسماعيل عليه السلام داخل فيه، وذلك لأنه عليه السلام قد اختتن بالفعل[10]، ولأن له بركة كبركة إسحاق[11]، ومما يؤكد أن العهد للنبوة أن هرقل كان حذاء فنظر في النجوم، فقال: إن ملك الختان قد ظهر، ولما قابل أبا سفيان وأخبره بخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنَّه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه"[12]، ووفق هذا العهد ليس للنصارى نصيب فيه لأنهم أمة لا تختتن .
رابعًا: الدليل على أن بركة الملك والنبوة والعهد لإسماعيل أن اليهود حرفوا قصة الذبيح ليكون المقصود إسحاق عليه السلام ولكن الله عز وجل أبقى دلائل تشير إلى أن المقصود هو إسماعيل عليه السلام حين يخاطبه الله خذ ابنك وحيدك، وهذا يعني أن المقصود إسماعيل عليه السلام لا إسحاق u: "يقول الرب: إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر، ولم تُمسك ابنك وحيدك أباركك مباركة، وأكثرُ نسلك تكثيرًا كنجوم السماء، وكالرَّمل الذي على شاطئ البحر، ويرثُ نسلك باب أعدائه، ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنك سمعت لقولي"[13]، ويلاحظ أن هذه الأوصاف هي أوصاف إسماعيل عليه السلام وذريته: وحيدك، ومن حيث القوة والكثرة والبركة.
إسماعيل عليه السلام مبارك، وذريته مباركة
خامسًا: أحقية إسماعيل عليه السلام بالعهد من الأمور المسلمة، فالبدو الرحل في تلك الفترة ما كانوا يرثون أرضًا ولا مرعى، ولكن الابن الأمير يخصص لكل من أبنائه عشيرة تخضع له، وكقاعدة متبعة يرث الابن الأصغر خيمة أبيه، أما الابن البكر فيخلف أباه في الحكم إلا إذا لم يكن أهلاً لذلك، وقد انطبق هذه القاعدة على أولاد إبراهيم عليه السلام فإسحاق أصغرهما ورث خيمة أبيه، أما إسماعيل عليه السلام فأرسل إلى الحجاز ليحرس بيت الله، ويدافع جيمس هيستنج عن حق البكورية لإسماعيل عليه السلام فيقول: لقد جانب التوفيق كُتاب سفر التكوين، أولئك الذين حاولوا أن يجعلوا نسل إسماعيل واستحقاقه لحقوق البكورية أقل مرتبةً زعمًا أن انتماءه لأمه هاجر يفقده حق البكورية، لكون هاجر جارية سارة، ومن ثم فإن البكورية لإسحاق ابن سارة الزوجة الحرة، وبهذا الصنيع هم يغفلون قانون الأسرة الواضح والصريح في التوراة الذي ينص على حقوق الابن البكر[14] الذي لا يمكن إسقاطه بسبب الوضع الاجتماعي للأم، وحالة إبراهيم تنطبق عليها الشريعة، وصارت التوراة تعطي النصيب المضاعف من المجد لابن الحرة مما يجعل التوراة متناقضة مع الشريعة[15].
سادسًا: لم يَقْتَصِر إرسال الرسل على بني إسرائيل فقط، فرحمة الله شملت الإنسانية جمعاء، قال تعالى : " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ " [النحل:٣٦]، والتوراة تشير إلى مثل ذلك، فأيوب عليه السلام لم يكن من بني إسرائيل وكان نبيًا، وله سفر في العهد القديم، فلِمَ تُقتصر النبوة وعبادة الله إذًا في بني إسرائيل، وإبراهيم عليه السلام حين قدم أرض كنعان باركه (مَلْكِي صَادِق) الذي كان كاهنًا لله العلي، وكان يعبد الله وحده لا شريك له[16]، ويذهب سبينوزا إلى قريب مما يقرره الإسلام من أن النبوة لم تقتصر على بني إسرائيل فقط[17].
نخلص إلى أنه لا يمكن أن يطلق الله تعالى على أمةٍ: مباركة وعظيمة ويكون لها شأن في التاريخ إلا إذا سارت على نهجه، وخصها برسالة من عنده، ومن هنا نقول: إن ذرية إسماعيل عليه السلام ذرية مباركة قد خصها الله عز وجل بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم.
--------------------------------------
[1] - تكوين، 17 : 2ـ 8 .
[2] - تكوين، 16: 9 ـ 12 .
[3] - راجع تكوين، 22: 1 ـ 17 .
[4] - تكوين، 17: 18ـ 20 .
[5] - تكوين، 21 : 9 ـ 18 .
[6] - راجع السقا، البشارة بنبي الإسلام، 1/ 88 ـ 89.
[7] - راجع التوراة السامرية، ص/398، وابن قيم الجوزية، هداية الحيارى، ص/161، والسقار، هل بشر الكتاب المقدس بمحمد r، ص/ 43.
[8] - ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، 3/ 311 .
[9] - تكوين، 17: 10.
[10] - تكوين، 17: 25 .
[11] - راجع السقا، البشارة بنبي الإسلام، 1/ 63.
[12] - أخرجه البخاري في صحيحه: بدء الوحي/6، 1/5 ـ6.
[13] - تكوين، 22: 16ـ 18.
[14] - راجع تثنية، 21: 15 ـ 17 .
[15] - راجع إبراهيم خليل، محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل والقرآن، ص/ 37 ـ 38.
[16] - تكوين 14 : 17 ـ 20 .
[17] - راجع سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ص / 172 ـ 185 .