في غمرة السعي إلى إدراك الأماني وبلوغ الآمال والظفر بالمرغوبات يغفل أو يتغافل فريق من الناس أن عاقبة هذا السعي لن تكون وفق ما يأمُل على الدوام، ولذا فإنه حين يقع له بعض حرمانٍ مما يحب، وحين يُحال بينه وبين ما يشتهي وهناك تجد البعض قد تضيق عليه الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه, فيصبح ويمسي مثقلاً بالهموم, مضطرب النفس, لا يهنأ له عيش ولا تطيب له حال.
وإن الباعث على هذا هو الخطأ في معرفة حقيقة العطاء وحقيقة المنع, وتصور أنهما ضدان لا يجتمعان, ونقيضان لا يلتقيان.
العطاء والمنع:صفتان ثابتتان لله في الكتاب والسنة، قال تعالى:{ إنا أعطيناك الكوثر }(الكوثر:1) وقال تعالى:{ قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى }(طه: 50 ) وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الانتهاء من صلاته: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد » رواه البخاري ومسلم ومعنى هاتين الصفتين: أن الله هو المتفضل بالعطاء، فهو يعطي المواهب والنعم لمن يشاء من عباده بغير حساب، وهو الذي يمنع من عطائه من شاء من عباده، فهو يملك المنع والعطاء، وليس منعه بخلا منه، لكن منعه حكمة، وعطاؤه جود ورحمة.
من أجل ذلك كان للسلف رضوان الله عليهم في هذا الباب وقفات محكمات لبيان الحق والدلالة على الرشد والهداية إلى الصواب، فقد نقل الإمام سفيان الثوري رحمه الله عن بعض السلف قوله: "إن منع الله عبده من بعض محبوباته هو عطاءٌ منه له؛ لأن الله تعالى لم يمنعه منها بخلا، وإنما منعه لطفاً".
إن الله سبحانه لم يكن ليمنع أحداً من خلقه شيئاً من الدنيا إلا لحكمةٍ بالغة وتقديرٍ عليم ومصالح قد تخفى على أكثر الناس، يدل لذلك قوله في الحديث الذي أخرجه الترمذي في جامعه وابن حبان في صحيحه بإسناد صحيح عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه، عن النبي أنه قال: ((إن الله إذا أحبَّ عبداً حماه عن الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء))
ويشهد لهذا أيضاً كما قال العلامة الحافظ ابن رجب رحمه الله: "أن الله عز وجل حرَّم على عباده أشياء من فضول شهوات الدنيا وزينتها وبهجتها حيث لم يكونوا محتاجين إليه, وادَّخره لهم عنده في الآخرة، وقد وقعت الإشارة إلى هذا بقوله عز وجل: وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وٰحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوٰباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَالأَخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].
وصح عن النبي أنه قال: ((من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) أخرجه الشيخان في صحيحهما.
وفي الصحيحين أيضاً من حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تلبسوا الحرير ولا الديباج, ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة, ولا تأكلوا في صحافها, فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)).
وأخرج الشيخان في صحيحهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة)). هذا مع أنه شتان بين خمرٍ لذةٍ للشاربين, لا يُصدّعون عنها ولا يُنزفون, وتلك هي خمر الآخرة، وبين خمرةٍ هي رجس من عمل الشيطان يريد أن يوقع بها العداوة والبغضاء بين المؤمنين, ويصدهم بها عن ذكر الله وعن الصلاة, وتلك هي خمر الدنيا.
وإن الواقع الذي يعيشه كل امرئٍ في حياته ليقيم الأدلة البينة والبراهين الواضحة على صدق وصحة هذا الذي نقله سفيان رحمه الله، فكم من مأملٍ ما لو بُلِّغ أمله لكانت عاقبة أمره خُسرا, ونهاية سعيه حَسْرةً وندماً، وكم من حريصٍ على ما لو ظفِرَ بما أراد لأعقبه ظَفَرُه هزيمةٍ يجر أذيالها, ويتجرع مرارتها, ولذا وجّه سبحانه الأنظار إلى حقيقة أن المرء كثيراً ما يُحب من حضوض الدنيا ما هو شرٌ له ووبال عليه, ويكره منها ما هو خيرٌ له وأجدرُ به فقال عز اسمه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
قد تقع المصيبة أو لا تستجاب الدعوة أو يمنع الانسان من الأولاد الذكور أو من البنات أو يكون عقيماً وفي ذلك حكم من الله قد تخفى على العبد المسلم فليتنبه لذلك
لقد بين نبينا صلى الله عليه وسلم وهو قدوتنا وأسوتنا نموذجاً رائداً رائعاً في التعامل مع المنع والعطاء روى الامام
الحاكم بسند صحيح :
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الأمر يسره قال الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا أتاه الأمر يكرهه قال الحمد لله على كل حال
إذن من أنعم الله تعالى عليه يقول الحمد لله ومن منعه الله تعالى يقول الحمد لله لأن في المنع والعطاء هناك عطاء ،. لأن العطاء عند بعض الناس قد يوجهه إلى الفحشاء أو السوء أو المعصية فلو مُنِع كان أفضل له.