أحمد بن يحيى الزهراني
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد : فإن أدب المرء : عنوان سعادته وفلاحه ، وقلة أدبه : عنوان شقاوته وبواره .
فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل: الأدب ولا استجلب حرمانها بمثل: قلة الأدب .. قال سفيان بن عيينة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر فعليه تعرض الأشياء : على خلقه وسيرته وهديه فما وافقها فهو الحق وما خالفها فهو الباطل ، وقال ابن سيرين : كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم .
وقال مخلد بن الحسين : نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث . انظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي – رحمه الله - (1/120-122) . وهذه جمله من الآداب التي ينبغي على كل مسلم تعلمها والعمل بها والدعوة إليها - بصدق وإخلاص - والصبر عليها.
قال ابن القيم – رحمه الله – في مدارج السالكين ( 2/387-391 ) :
فصل : وأما الأدب مع الرسول : فالقرآن مملوء به .
فرأس الأدب معه : كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولا أو يحمله شبهة أو شكا أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل.
فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما : توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول فلا يحاكم إلى غيره ولا يرضى بحكم غيره ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره وإلا فإن طلب السلامة : أعرض عن أمره وخبره وفوضه إليهم وإلا حرفه عن مواضعه وسمى تحريفه : تأويلا وحملا فقال : نؤوله ونحمله .
فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب على الإطلاق ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بهذه الحال ولقد خاطبت يوما بعض أكابر هؤلاء فقلت له : سألتك بالله لو قدر أن الرسول حي بين أظهرنا وقد واجهنا بكلامه وبخطابه : أكان فرضا علينا أن نتبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم .
فقال : بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه .
فقلت : فما الذي نسخ هذا الفرض عنا وبأي شيء نسخ فوضع إصبعه على فيه وبقي باهتا متحيرا وما نطق بكلمة .
هذا أدب الخواص معه لا مخالفة أمره والشرك به ورفع الأصوات وإزعاج الأعضاء بالصلاة عليه والتسليم وعزل كلامه عن اليقين وأن يستفاد منه معرفة الله أو يتلقى منه أحكامه بل المعول في باب معرفة الله : على العقول المنهوكة المتحيرة المتناقضة وفي الأحكام : على تقليد الرجال وآرائها والقرآن والسنة إنما نقرؤهما تبركا لا أنا نتلقى منهما أصول الدين ولا فروعه ومن طلب ذلك ورامه عاديناه وسعينا في قطع دابره واستئصال شأفته بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون [ المؤمنون : 6374 .
والناصح لنفسه العامل على نجاتها : يتدبر هذه الآيات حق تدبرها ويتأملها حق تأملها وينزلها على الواقع : فيرى العجب ولا يظنها اختصت بقوم كانوا فبانوا فالحديث لك واسمعي يا جارة والله المستعان .
ومن الأدب مع الرسول : أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهى ويأذن كما قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله [ الحجرات : 1 ] وهذا باق إلى يوم القيامة ولم ينسخ فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم .
قال مجاهد رحمه الله : لا تفتاتوا على رسول الله وقال أبو عبيدة : تقول العرب : لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب أي لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه .
وقال غيره : لا تأمروا حتى يأمر ولا تنهوا حتى ينهى .
ومن الأدب معه : أن لا ترفع الأصوات فوق صوته فإنه سبب لحبوط الأعمال فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به أترى ذلك موجبا لقبول الأعمال ورفع الصوت فوق صوته موجبا لحبوطها؟
ومن الأدب معه : أن لا يجعل دعاءه كدعاء غيره قال تعالى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا [ النور : 63 ] وفيه قولان للمفسرين:
أحدهما : أنكم لا تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا بل قولوا : يا رسول الله يا نبي الله فعلى هذا : المصدر مضاف إلى المفعول أي دعاءكم الرسول.
الثاني : أن المعنى لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضا إن شاء أجاب وإن شاء ترك بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد من أجابته ولم يسعكم التخلف عنها ألبتة فعلى هذا : المصدر مضاف إلى الفاعل أي دعاؤه إياكم .
ومن الأدب معه : أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد أو رباط لم يذهب أحد منهم مذهبا في حاجته حتى يستأذنه كما قال تعالى : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه [ النور : 62 ] فإذا كان هذا مذهبا مقيدابحاجةعارضة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين : أصوله وفروعه دقيقه وجلبله هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ النحل : 43 ] [ الأنبياء : 7 ] .
ومن الأدب معه : أن لا يستشكل قوله بل تستشكل الآراء لقوله ولا يعارض نصه بقياس بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولا نعم هو مجهول وعن الصواب معزول ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد فكل هذا من قلة الأدب معه وهو عين الجرأة.
فصل : وأما الأدب مع الخلق : فهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم فلكل مرتبة أدب والمراتب فيها أدب خاص :
فمع الوالدين : أدب خاص وللأب منهما : أدب هو أخص به .
ومع العالم : أدب آخر.
ومع السلطان أدب يليق به .
وله مع الأقران أدب يليق بهم .
ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه وذوي أنسه .
ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته .
ولكل حال أدب : فللأ كل آداب وللشرب آداب وللركوب والدخول والخروج والسفر والإقامة والنوم آداب وللبول آداب وللكلام آداب وللسكوت والاستماع آداب
وأدب المرء : عنوان سعادته وفلاحه
وقلة أدبه : عنوان شقاوته وبواره فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب .
فانظر إلى الأدب مع الوالدين : كيف نجى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصخرة والإخلال به مع الأم تأويلا وإقبالا على الصلاة كيف امتحن صاحبه بهدم صومعته وضرب الناس له ورميه بالفاحشة .
وتأمل أحوال كل شقي ومغتر ومدبر :
كيف تجد قلة الأدب هي التي ساقته إلى الحرمان
وانظر قلة أدب عوف مع خالد : كيف حرمه السلب بعد أن برد بيديه.
وانظر أدب الصديق رضي الله عنه مع النبي في الصلاة : أن يتقدم بين يديه فقال : ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله كيف أورثه مقامه والإمامة بالأمة بعده فكان ذلك التأخر إلى خلفه وقد أومأ إليه أن : اثبت مكانك جمزا وسعيا إلى قدام بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قدام تنقطع فيها أعناق المطي والله أعلم.
نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما قال الإمام الهمام القيم ابن القيم رحمه الله رحمة واسعة وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .