عبد الحميد بن باديس باني النهضة وإمامها ومدرب جيوشها : عالم ديني، ولكنه ليس كعلماء الدين الذين عرفهم التاريخ الإسلامي في قرونه الأخيرة، جمع الله فيه ما تفرّق في غيره من علماء الدين في هذا العصر، وأربى عليهم بالبيان الناصع، واللسان المطاوع، والذكاء الخارق، والفكر الولود، والعقل اللماح، والفهم الغواص على دقائق القرآن وأسرار التشريع الإسلامي..
والاطلاع الواسع على أحوال المسلمين ومناشئ أمراضهم، وطرق علاجها، والرأي السديد في العلميات والعمليات، من فقه الإسلام وأطوار تاريخه، والإلمام الكافي بمعارف العصر، مع التمييز بين ضارها ونافعها، مع أنه لا يحسن لغة من لغاتها غير العربية، وكان التضلع في العلوم الدينية واستقلاله في فهمها. إماما في العلوم الاجتماعية، يكمل ذلك كله : قلم بليغ شجاع يجاري لسانه في البيان والسحر، فكان من أخطب خطباء العربية وفرسان منابرها، كما كان من أكتب كتابها.
وهو من بيت عريق في المجد والملك والعلم، يتصل نسبه الثابت المحقق بالمعز بن باديس، مؤسس الدولة الباديسية الصنهاجية، إلى صنهاجة القبيلة البربرية العظيمة التي حدثناكم عن دولها وأثارها بالجزائر، والمعز بن باديس هو جذم الدولة التي كانت بالقيروان، ويزعم بعض النسّابين أنها يمنية وقعت إلى شمال إفريقيا في إحدى الموجات التي رمى بها الشرق الغرب من طريق برزخ السويس في الأولين، كما رماه بالموجة الهلالية في الآخرين.
هذا الرجل النابغة يشهد التاريخ أنه واضع أساس النهضة الفكرية في الجزائر، وقد سلك لها المسلك العلمي الحكيم، وهو مسلك التربية والتعليم، وأعانه على ذلك استعداده الفكري وكمال أدواته، فتصدر للتعليم حوالي سنة 1914م ببلدة قسطنطينة التي هي مستقر أسرته من المائة السابعة للهجرة، وعمره إذ ذاك دون الخامسة والعشرين، فجمع عليه عشرات من الشبان المستعدين فعلمهم ورباهم وطبعهم على قالبه ونفخ فيهم من روحه، وبيانه، تطوعا واحتسابا، لا يرجو إلا جزاء ربه ولا يقصد غير نفع وطنه.
وكان - رحمه الله - يؤثر التربية على التعليم، ويحرص على غرس الفضائل في نفوس تلامذته قبل غرس القواعد الجافة في أدمغتهم، ويدربهم على أن ينهجوا نهجه في العمل للعروبة والإسلام، فما انتهت الحرب العالمية الأولى حتى تخرّج على يده وعلى طريقته جيل من الشبان، تتفاوت حظوظهم من العلم النظري، ولكنهم طراز واحد في العمل، وصحة التفكير، والانقطاع للجهاد.
وكان من طريقته في التربية : أن يرمي إلى تصحيح الفكر، وصقل العقل، وترقية الروح، وتقوية الخلق، وتسديد الاتجاه في الحياة، وأنه يستخرج من قواعد العلوم التعليمية قواعد للاجتماع، وينتزع منها دروسا في التربية الأخلاق.
فمن القواعد الإصلاحية المعروفة قولهم - مثلا- الفاعل مرفوع، والعامل يتقدم. فمن أمثال هذه الجمل المبتذلة الدائرة على الألسن في دراسة العلوم : كان يستخرج من معانيها اللغوية : نظرات اجتماعية طبيعية. ككون الفاعل العامل مرفوع القدر عند الناس، وككون العامل يجب تقديمه على الكسلان العاطل، في جميع المقامات. وقد ذكر لي بعض من حضر درسه في قول صاحب الألفية : (كلامنا لفظ مفيد كاستقم). قال: سمعته يقرر القاعدة النحوية التي أرادها ابن مالك فسمعت ما أدهشني من التحقيق الذي لم يعهد من علماء عصرنا، بالأسلوب الذي لم يعهد من شراح الألفية سابقهم ولاحقهم، ما عدا أبا إسحاق الشاطبي، ثم انتقل إلى شيء آخر نقلني إلى شيء آخر، وسما بي من الدهشة التي ما فوقها مما لا أجد لها اسما، فكان درسا اجتماعيا، أخلاقيا، على ما يجب أن يكون عليه الحديث الدائر بين الناس، وأنه إذا لم يكن مفيدا في المعاش والمعاد: كان لغوا وثرثرة وتخليط مجانين، وإن سمّته القواعد كلاما، ثم أفاض في الاستقامة الدينية والدنيوية وأثرها في المجتمع، فعلمت أن الرجل يعمل على أن يخرج من تلامذته رجالا، وأنه يجري بهم على هذه الطرائق ليجمع لهم بين التربية والتعليم، وكأنه يتعجل لهم الفوائد، ويسابق بهم الزمن، ما دامت الأمم قد سبقتنا بالزمن.
وهكذا كان الأمر، فإنه أخرج للأمة الجزائرية في الزمن اليسير جيلا يفهم الحياة، ويطلبها عزيزة شريفة، ويتدرع إليها بالأخلاق المتينة، وقد كان يدربهم على الأعمال النافعة، كما يدرب القائد المخلص جنوده، ويعدهم لفتح مصرٍ، أو لقاء مصرع، ولتلامذته إلى اليوم سمات بارزة في إتقان الدعوة الإصلاحية، التي أعلنتها جمعية العلماء في حياته، وفي صدق الاتجاه، وفي إتقان صناعة التعليم على طريقته. وهم الرعيل الأول في الثورة الفكرية الجارفة، التي نقلت الجزائر من حال إلى حال.
وقد كان تعليمه والآفاق التي فتحها ذهنه الجبار، وأسلوبه في الدروس والمحاضرات، كل ذلك كان ثورة على الأوضاع التعليمية المعروفة في بلدنا، حيث ابتدأ التعلم، وتوسط فيها، وفي جامع الزيتونة حيث انتهى، ولم يكن علمه نتيجة دراسته التقليدية في البلدين، المحدودة بسنوات معدودة، وكتب مقروءة، على نحو ما في الأزهر، وإنما كان علمه نتيجة استعداد قوي، وذكاء خارق، وفهم دقيق، وذهن صيود لشوارد المعاني، غواص إلى نهاياتها، كما وصفناه في أول الحديث.
وحج في سنة 1913م ومر بالقاهرة ذاهبا وبدمشق آيبا وجاور بالمدينة ثلاثة أشهر بعد هجرتي إليها بسنتين، وكنا نجتمع في أغلب الليالي اجتماعا خاصا لا نتحدث فيه إلا عن القطر الذي يجمعنا وهو الجزائر، والبلد الذي يضمنا وهو قسطنطينة، والآمال التي تملأ نفوسنا، في ترقيته وإعداده للتحرير، فكنا نُجْمِع على أن لا وسيلة لذلك إلا العلم تنتشر أعلامه، والجهل ينقشع ظلامه، ثم تصور الخواطر لي وله مدارس تشاد للنشء وألسنة تفتق على العربية، وأقلاما تتشقق على الكتابة، فتصور لنا قوة الأمل، ذلك كله كأنه واقع نراه رأي العين. فإذا انتهينا من التصورات أخذني بالحجة، وألزمني بالرجوع إلى الجزائر، لنشترك في العمل، المحقق للأمل، وأقام لي الدليل من الدين على أن هذا العمل أشرف وأقرب إلى رضى الله من الهجرة، ولم أكن أنكر عليه هذا، ولكن والدي - رحمه الله- كان يأبى على ذلك، فكنت أتخلص بالوعد بالرجوع عند سنوح الفرصة.
ورجع هو من عامه، فابتدأ التعليم، وانثال عليه الطلبة من المقاطعات الثلاث، وقدّر الله فرجعت بعد سبع سنوات من افتراقنا، فوجدت عمله قد أثمر، وأملنا قد بدأ يتحقق، ووجدت الحرب قد فعلت فعلها في نفوس أمتي، فكان من آثارها حياة الاستعداد الفطري، الذي أماته الاستعمار في تلك المرحلة، التي عددنا لكم ما غرسته أيامها في نفوس الجزائريين من بذور خبيثة، كان من ثمراتها : تخدير الشعور، وإضعاف المعنويات.
وكان لرجوعي إلى الجزائر في نفس الشيخ عبد الحميد بن باديس ما يكون في نفس القائد اتسعت عليه الميادين، وعجز عن اقتحامها كلها، فجاءه المد لوقته، وتلقاني رحمه الله بمدينة تونس، مهنئا لي ولنفسه وللوطن، ومذكرا بعهود المدينة المنورة، ومبشرا بمواتاة الأحوال، وتحقق الآمال، فكانت مشاركتي له بالرأي والتفكير والتقدير والدعاية، أكثر مما هي بالتعليم والتدريب، لما كان يحول بيني وبين الانقطاع إلى ذلك من عوائق، وإن كنت شاركت في تحضير أذهان العامة للنهضة الكبرى بسهم وافر، بواسطة دروس ومحاضرات، ورجع أفراد من الإخوان الذين كانوا بالشرق مهاجرين، أو طلابا للعلم، وجماعة من تلامذة الأستاذ ابن باديس الذين أكملوا معلوماتهم بجامع الزيتونة، تنطوي نفوسهم من أستاذهم على فكره وروحه، ومن جامع الزيتونة على متونه وشروحه، فاستقام الصدد، وانفتح السدد، وتلاحق المدد، وكانت من أصواتنا مسموعة ما يكون من الصيحة رَجّت النائم، ومن أعمالنا مجموعة ما يكون من الروافد انصبت في النهر فجاشت غواربه، وكانت تلك بداية النهضة بجميع فروعها، والثورة الفكرية بتمام معانيها. أ. هـ.