"أما الجزائر فهي وطني الخاص الذي تربطني بأهله روابط من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص وتفرض عليّ فك الروابط لأجله ? كجزء منه ? فروضاً خاصة, وأنا أشعر بأن كل مقوماتي الشخصية مستمدة منه مباشرة, فأرى من الواجب أن تكون خدماتي أول ما تتصل بشيء تتصل به مباشرة. وكما أنني كلما أردت أن أعمل عملاً وجدتني في حاجة إليه: إلى رجاله وإلى ماله وإلى حاله وإلى آلامه وإلى آماله, كذلك أجدني أعمل إذا عملت قد خدمت بعملي ناحية أو أكثر مما كنت في حاجة إليه. هكذا هذا الاتصال المباشر أجده بيني وبين وطني الخاص في كل حال, وفي جميع الأحوال, وأحسب أن كل ابن وطن لا بد أن يجد نفسه مع وطنه الخاص في مثل هذه المباشرة وهذا الاتصال".
هذا الكلام كتبه في صحيفة "الشهاب" الجزائرية قبل سنوات من رحيله المفكر والمناضل عبد الحميد بن باديس, الذي كان ولا يزال يعتبر إلى اليوم واحداً من الآباء المؤسسين لعروبة الجزائر ونزعتها الإسلامية, أي لتلك الهوية الجزائرية التي ساعدت الجزائريين على الوقوف معاً في وجه الاستعمار الفرنسي الذي كان همه الأساسي في الجزائر أن يطمس هوية السكان في عملية "فرنسة" ندر أن كان لها مثيل في تاريخ علاقة الاستعمار الفرنسي بالدول والبلدان المستعمرة.
ومن هنا, فان ابن باديس يعتبر واحداً من السدود المنيعة التي وقفت, في هذا المجال, في وجه السياسة الفرنسية. وهو لئن كان قد ابتعد عن العنف? في كفاحه ضد الفرنسيين مؤثراً أن يكون نضاله نضالاً فكرياً يرتبط بنوعية الشعب الجزائري على هويته الإسلامية والعربية, فان قيادات الثورة الجزائرية التي اندلعت بشكل جدي, بعد نحو خمسة عشر عاماً من رحيله كانوا ينسبون أنفسهم, في غالبيتهم العظمى, من تلاميذه وحوارييه.
ولئن كان عبد الحميد بن باديس جزائري الهوية والهوى, فإنه يعود في جذوره العائلية إلى أسرة المعز بن باديس الصنهاجي مؤسس الدولة الصنهاجية في القيراون بتونس. والحال أن علاقة ابن باديس نفسه بتونس, لن تكون علاقة عابرة, إذ من المعروف أنه تلقى دروسه في جامعة الزيتونة في تونس العاصمة وتكوّن فكره هناك, وهو أمر افردت له الباحثة اللبنانية د. وداد القاضي دراسة كاملة تتناول "اثر التجربة الزيتونية في فكر عبد الحميد بن باديس وعمله", القت الباحثة اجزاء منها خلال الاحتفال الذي جرى في تونس أواخر 1979 لمناسبة ذكرى مرور 13 قرناً على تأسيس الزيتونة. ومن هنا فان ابن باديس يعتبر جزائرياً ولكن تونسياً أيضا.
ولد عبد الحميد بن باديس في 1887 بمدينة قسنطينة الجزائرية, التي تلقى فيها دروسه الابتدائية وقواعد الدراسة الدينية, ومن هناك اتجه إلى تونس حيث كانت سنوات دراسته الغنية في "الزيتونة". وفي 1912 قام ابن باديس برحلة إلى الحجاز حيث التقى بعدد من علماء الدين المسلمين المناضلين الذين كانت السلطات الفرنسية قد أبعدتهم فاختاروا الإقامة في المدينة المنورة, ولقد عرض عليه أولئك العلماء أن ينضم إليهم فيقيم مثلهم في الديار الحجازية, ولكنه رفض قائلاً: نحن لا نهاجر. نحن حراس الإسلام والعربية والقومية في أرض الوطن.
وحين عاد إلى الجزائر شرع ابن باديس في ممارسة الوعظ الديني, لكنه خلف ذلك كان قد حدد لنفسه مهمة واضحة وصعبة في الوقت نفسه, خلاصتها إعادة الجزائر إلى العروبة والإسلام والقومية. وكان يرى أن أفضل سبيل إلى ذلك هو تكوين الرجال أكثر مما هو تأليف الكتب. وهكذا حول الوعظ الديني إلى وعظ وطني واخذ يجمع من حوله عشرات الشبان الذين جعلوا منه أستاذهم ورائدهم, وكانوا النواة التي كوّن منها في 1931 "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" التي كانت النبع الأساسي لكل التحرك الثوري الجزائري بعد ذلك.
وبالنسبة إلى ابن باديس, كان من الواضح أن إيمانه بتكوين الرجال يقتضي عملاً يومياً متابعاً للأحداث ولمقتضيات الحال, ومن هنا كان اهتمامه بالصحافة كبيراً, لأنه رأى أن الصحيفة أقدر من الكتاب ومن أي شيء آخر على الوصول والفعل في العقول, وهكذا أصدر تباعاً العديد من الصحف والمجلات ومن بينها "المنتقد", "الشهاب", "الصراط", "السنة المحمدية", وكان عبر مجلاته وبالتعاون مع تلامذته يقود حملات عنيفة ليس ضد السلطات الفرنسية وحدها بل كذلك ضد المتعاونين معها, ولا سيما في أوساط رجال الدين الرسميين وحلقات المتصوفة التي كان يحدث لها ان تضع نفسها في خدمة الفرنسيين. ومن هنا كانت السلطات لا تتوقف عن ملاحقته وإقفال صحفه واحدة بعد أخرى.
بقي أن نذكر أن عبد الحميد بن باديس رحل عن عالمنا يوم 16 نيسان (ابريل) 1940 في وقت كان ما زرعه في عقول النخبة الجزائرية قد بدأ يثمر, بحيث تحول في نهاية الأمر إلى تلك الثورة التي قلبت كل المعادلات في الشمال الإفريقي.
- عن جريدة الحياة العدد 12466 ليوم 16 أبريل 1997.
ابراهيم العريس