مراحل تطور النقود
لقد مرت النقود منذ فجر التاريخ وإلى يومنا هذا بمراحل شتى كانت لكل مرحلة نوع خاص استلزمته ضرورة الحياة الإقتصادية، و نتناول هنا باختصار أهم تلك المراحل، بينما سنتناولها بالتفصيل عند الحديث عن الأنظمة النقدية.
ومن هذه المراحل:
1. مرحلة الإنتاج للحاجة
إن بداية الحضارة البشرية ظهرت بتجمع الأفراد على شكل قبائل، حول الأودية وعلى ضفاف الأنهار. متخلية بذلك على النظام البدائي الأول، فاتخذت من البيوت المتجاورة مأوى لها، ومن ممارسة وظيفتي الزراعة وتربية المواشي، تلبية لحاجة الجوع لديها. وبذلك نشأت علاقة وطيدة بين الإنسان والأرض، حيث أن النشاط الزراعي هو النشاط الرئيسي لديه.
ومع توطيد هذه العلاقة أكثر، كان لزاما عليه استعمال بعض الوسائل التي تسهل إستغلال الأرض. فأدى به ذلك إلى القيام بصهر المعادن وتشكيلها بأسلوب يساعده على صنع هذه الأدوات. ففتح أمامه مجال أخر، هو مجال الصناعة.
2. مرحلة التبادل التجاري
ومع تنوع الأنشطة التي يقوم بها الإنسان، لإنتاج مختلف السلع التي يحتاجها أصبح من الصعب عليه القيام بإنتاج كل ما يحتاجه لوحده، ومن ثم بدأ تقسيم العمل في ما بينهم بما يسمح لهم إنتاج كل ما يحتاجون إليه من سلع وخدمات. فكان هذا النظام (تقسيم العمل) إذانا ببدء مرحلة جديدة من مراحل ممارسة النشاط الاقتصادي وهو نظام المقايضة وأصبح كل فرد يقوم بإنتاج سلعة معينة في مجال تخصصه بالكمية التي تجعله يلبي منها حاجته، ويبادل الفائض منها بما يحتاجه من السلع الأخرى التي ينتجها غيره من الأفراد في مجال تخصصهم. ويمكننا توضيح ذلك أكثر عن طريق مثال بسيط، كان نفترض تجمع مكون من ثلاثة عائلات (أ ب جـ) حيث يقوم كل منها في مجال تخصصها بإنتاج السلع (1، 2، 3) على التوالي، في دورة إنتاجية محددة. وتقوم العائلة (أ) بإنتاج واستهلاك ما تحتاجه من السلعة (1) ومقايضة الباقي منها بما تحتاجه من الفائض لدى العائلتين (ب، ج) وتقوم العائلة (ب) بإنتاج السلعة (2)، وتستهلك ما تحتاجه مما تنتجه وتبادل الباقي منها بما تحتاجه من الفائض من السلعتين (1، 3) لدى العائلتين (أ، ج). وكذا بالنسبة للعائلة (ج). لكن نظام المقايضة هذا تشوبه الكثير من العيوب، والتي جعلته غير قادر على مواجهة التوسع في التبادل التجاري بين الأفراد في نفس المجموعة، وبين المجموعات البشرية المختلفة.
ومن بين هذه العيوب نجد:
- عدم توافق رغبات المتبادلين.
- عدم قابلية بعض السلع للتجزئة.
- عدم استقرار الأسواق، وتعدد نسب التبادل.
- صعوبة تأجيل الاستهلاك.
3. مرحلة النقود السلعية
للقضاء على عوائق نظام المقايضة في مرحلة ازدادت فيها التخصصات وتقسيم العمل بين الأفراد، بدأ الأفراد وبصورة تلقائية يستخدمون بعض الأنواع من السلع كوسيط في عملية المبادلة، للتوفيق بين رغباتهم، حيث كانت هذه السلع تكتسب بعض الصفات والميزات التي أهلتها لأن تكون وسيطا لتسهيل عملية المبادلة. كأن تكون هذه السلعة ذات منفعة بالنسبة لكل أفراد المجموعة الواحدة، أو بين العديد من المجموعات. وأن تكون معمرة ولا تتلف أو تفقد من قيمتها من فعل التداول والاستعمال، أو بفعل مرور الزمن. كما يجب أن تكون قابلة للتجزئة، وذات وحدات متجانسة، وأن لا تتسم بالندرة ولا بالوفرة المفرطة. وأن تكون قيمتها ثابتة ولا تتغير من فترة لأخرى.
فبفضل وجود هذا الوسيط في عملية المبادلة، استطاع الإنسان أن يقوم بكل مبادلاته مع الأفراد الآخرين بطريقة سهلة، وأن يحقق ويتحصل على ما يحتاجه وذلك عن طريق القيام بتخزين جزء من هذه السلعة (الوسيط) سواء كانت من إنتاج مجال تخصصه أو تحصل عليها عن طريق المقايضة على شكل وحدات يمكن تحويلها في أي وقت إلى أي نوع من السلع التي يحتاجها، مستقبلا للإستهلاك. ومن السلع التي استخدمها الإنسان، كوسيط في عملية المبادلة نجد، جلود الحيوانات، الحراب، أدوات الصيد، العاج، الماشية، المعادن النفيسة،.. الخ. وقد كانت هذه الأنواع من السلع الأشكال الأولى لما يطلق عليه بالنقود السلعية.
4. مرحلة النقود المعدنية
إن منفعة سلعة ما تختلف من جماعة بشرية إلى أخرى، ومن قبيلة إلى أخرى، ومن مكان لأخر. فقد تكون سلعة ما لها منفعة في قبيلة أو مجتمع ما وليس لها منفعة في قبيلة أو مجتمع آخر.
ولذلك فإن السلعة التي تصلح كنقود في قبيلة أو مجتمع ما قد لا تصلح أو قد لاتكون لها أي قيمة معينة لدى قبيلة أو مجتمع آخر. وبناءا على هذا فإننا إذا إنتقلنا من المستوى المحلي على مستوى القبيلة أو المجتمع الواحد، إلى المستوى الكلي أو العالمي فإننا نجد أن المجتمعات كلها كانت بحاجة إلى سلعة معينة أو عددا من السلع تتوافق جميع أطرافه (مجتمعاته) على قبولها كوسيط للمبادلة فيما بينهم. ولقد كانت المعادن النفيسة وعلى رأسها الذهب والفضة هي أولى السلع التي إستخدمتها المجتمعات على المستوى الكلي
5. مرحلة النقود الورقية النائبة
لقد لعبت المسكوكات المعدنية دورا كبيرا في تطور التبادل (التجارة) الداخلي والخارجي للمجتمعات وشغلت من إهتماماتهم وأفكارهم الكثير، فمنهم التجاريون الذين كانوا يؤمنون بأن قوة الدولة وتقدمها تكمن فيما لديها من معادن نفيسة. فانتهجوا سياسة جمع أكبر كمية منها، وحرصوا على دخولها إلى البلد وعدم خروجها منه، ولأجل ذلك كانوا يقومون برحلاتهم التجارية إلى كل مكان، إلى آسيا وإفريقيا... وإلى إكتشاف العالم الجديد (أمريكا)، وكانوا يصدرون إلى هذه المناطق مختلف السلع و المنتجات التي ينتجونها، مقابل ما يعادل قيمتها من مسكوكات ذهبية وفضية، غير أن إستعمال هذه المسكوكات والتعامل بها في إبرا م مختلف الصفقات التجارية، ونقلها من مكان إلى أخر. كان قد عرضها للكثير من المخاطر، كالسرقة من طرف قطاع الطرق والقراصنة، أو الضياع في عرض البحار بفعل تعرض السفن التي كانت تستخدم في التجارة إلى الغرف. ولتجنب ذلك فكر الكثير من التجار في وسيلة تجعل ثروتهم في مأمن، فذهبوا إلى وضع ما يملكونه من مسكوكات في بيوت خاصة تدعى "بيوت المال" والتي تحضى بالثقة والسمعة الطيبة، ويحصلون منها مقابل ذلك على صكوك تحمل حق ملكيتهم لودائعهم. ومنذ ذلك الحين أصبح التجار يتعاملون بواسطة تلك الصكوك في إبرام أهم صفقاتهم التجارية، كأن يقوم الطرف المدين بالتوقيع على الصك مبينا تنازله عن قيمته لدائنه ويستطيع هذا الأخير بأن يحصل على قيمة الصك بطلب ذلك من بيت المال أو أحد فروعه وبهذه الطريقة إستطاع التجار أن يقوموا بأعمالهم التجارية مع عدم تعرض أموالهم للمخاطر، فهذه الصكوك إستطاعت أن تحل الأشكال الذي كان قائما بإتخاذ المسكوكات الذهبية كوسيط في المبادلة، غير أن هذه الوسيلة الجديدة (الصكوك) لا تعتبر نقودا في حد ذاتها، بل تلعب دورا نيابيا عن نقود معدنية حقيقية مودعة في البنوك (بيوت المال) فأطلق عليها تسمية النقود الورقية النائبة.
6. مرحلة النقود الورقية الإئتمانية
في هذه المرحلة إزداد إستعمال الصكوك (أوراق البنكنوت) بصورة مكثفة، وهذا لما لها من مميزات في تسهيل عملية التبادل والتجارة من جهة، ولما للأفراد من ثقة في الجهة التي تصدرها، وقدرتها على صرف ودفع قيمة أي كمية من أوراق البنكنوت تقدم لها، في أي وقت أو مكان. ونظرا لذلك أخذت بعض البنوك ولما رأته من حسن ظن بها من طرف التجار بإصدار كميات كبيرة من أوراق البنكنوت جريا وراء الربح السريع من جهة أخرى. إلى درجة أصبحت فيها قمية أوراق البنكنوت المصدرة تفوق قيمة الأرصدة النقدية الفعلية الموجودة لديها. وأدى ذلك الوضع إلى وقوع هذه البنوك في أزمة إفلاس، ولم تقدر على صرف كل ما تقدم إليها من أوراق البنكنوت فكاد أن يؤدي ذلك إلى انهيار العلاقة الحسنة بين البنوك وأصحاب المودعات، وقيام أزمة إقتصادية حقيقية من جراء ذلك، غير أن تدخل الدولة وحكوماتها. كان قد حد من الوقوع في ذلك، حيث أصبحت هذه الحكومات تقوم بمراقبة عمليات إصدار أوراق البنكنوت وإشرافها على ذلك عن طريق إنشاء بنك مختص، هو البنك المركزي (بنك البنوك) يستمد سمعته من هيبتها، مما زاد الأفراد ثقة به وأزداد تقبلهم لأوراق البنكنوت التي يصدرها، وأصبحت العلاقة بين البنك والأفراد. أكثر توطيدا من ذي قبل.
7. مرحلة النقود الورقية الإلزامية
لقد ظهرت هذه النقود في خضم أحداث الحرب العالمية الأولى أين كانت الدول المشاركة في الحرب بعد استنزاف أموالها في حاجة إلى تمويل إقتصادها الحربي، فدفعها ذلك إلى الإقتراض من بنوكها المركزية التي توسعت بدورها في إصدار البنكنوت إلى درجة أصبحت فيها قيمة كمية أوراق البنكنوت المصدرة تفوق بكثير قيمة الأرصدة النقدية الفعلية الموجودة لديها، فأدى ذلك إلى إرتفاع أسعار السلع والخدمات (حالة التضخم) وهذا ما أدى بالأفراد إلى تشككهم في قدرة البنوك المركزية على صرف كل ما يقدم لها من أوراق البنكنوت.
كما أنهم رأوا من الأحسن لهم في ظل حالة إرتفاع الأسعار هذه، الإحتفاظ بثرواتهم على شكل نقود معدنية يكتنزونها، وذلك بإستبدال ما لديهم من أوراق البنوك مقابل النقود، وارتفع بذلك الطلب على النقود المعدنية بصورة كبيرة، ونظرا لعلم الحكومات بالفائض الموجود في البنوك، وعدم قدرة بنوكها المركزية على صرفها لهذا الفائض، وخوفها من الوقوع في أزمة إقتصادية. قامت بإصدار قوانين أعفت البنوك المركزية من تعهدها بصرف قيمة كل ما يقدم لها من أوراق البنوك واستبدالها بالنقود المعدنية (سبائك ذهبية) وألزمت الأفراد وفرضت عليهم قبول هذه الأوراق وفاءا للديون وبهذه القوانين استطاعت الحكومات أن تحد من وقوع الأزمة، كما أن بهذه القوانين فإن أوراق البنوك قد اكتسبت صفة النقود وكان ذلك إيذانا بانفصال الصلة بين القيمة السلعية للنقود وقيمتها النقدية ومن أمثلة هذه النقود في الوقت الراهن الدينار والدولار، الدرهم، الين، الريال... الخ.
8. مرحلة نقود الودائع
بعد أن كانت أوراق البنوك عبارة عن أوراق نقود نيابية، أي أنها ليست نقودا في حد ذاتها، بل تعبر عما لدى الأفراد من نقود معدنية في بنك من البنوك، وأن صفتها النقدية تستمد من مجرد ثقة الأفراد في البنوك التي تصدرها. وبعد تدخل الدولة بإصدارها للقوانين الملزمة لاستخدامها، أصبحت تستمد صفتها النقدية من قوة القانون، وصفتها في حد ذاتها. مما جعلها في غير منئ عن المخاطر التي قد تتعرض لها، ويتعرض لها حاملها وبذلك تعيد الأحداث نفسها.
وأصبح الأفراد يخافون على ثرواتهم، ودفعهم ذلك إلى البحث عن وسيلة تمكنهم من حمايتها من السرقة والضياع، ففكروا في وضعها لدى البنوك مرة أخرى، مقابل تعهد من جانبها يتمثل في ما يطلق عليه اسم "الشيكات البنكية"، والتي تلعب نفس الدور الذي لعبته النقود الورقية النيابية من قبل، وقد شاع استخدامها في الوقت الحاضر كوسيلة دفع، في كل الميادين وفي مختلف المجالات.
9. مرحلة النقود الإلكترونية
ظهر هذا النوع من النقود بفضل التطور التكنولوجي في الوقت الراهن، وتستعمل هذه الطريقة الجديدة للدفع، تقنيات حديثة لتداول النقود الكتابية "بطاقة الدفع وبطاقة القرض"1، وذلك بسحب محدود في الموزعات الأوتوماتكية للأوراق النقدية، وتسجل العمليات الدائنة والمدينة في ظل هذه الطريقة بواسطة التحويلات الأوتوماتيكية. كما تعد هذه الطريقة خلاصة ما توصل إليه التطور الكبير الذي عرفته النقود الكتابية في الوقت الحاضر.