جهز صلاح الدين جيشه للمعركة الفاصلة وكانوا 12 ألف مقاتل نظامي سوى المتطوعة وجهز الفرنج أنفسهم وتصالحوا وتجمعت ملوكهم وجيوشهم، وكونوا جيشاً من حوالي 63 ألف مقاتل.
اجتاز صلاح الدين نهر الأردن، وفتح طبرية بدون قلعتها، وبدأت المناوشات يوم الجمعة إلا أن المعركة احتدمت يوم السبت 24 ربيع الآخر 583هـ - 4 يوليو 1187م، وعانى الفرنج من الحر والعطش، وحصرهم المسلمون وأحرقوا الحشائش الجافة من حولهم ومن تحتهم «فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال»، ثم أمر السلطان بالتكبير وبالحملة الصادقة، فمنح الله المسلمين أكتاف الفرنج فقتلوا منهم ثلاثين ألفاً وأسروا ثلاثين ألفاً، وكان فيمن أسر جميع ملوكهم سوى أمير طرابلس «ولم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله، ودفع الباطل وأهله، حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفاً وثلاثين أسيراً من الفرنج، قد ربطهم بطنب خيمة، وباع بعضهم أسيراً بنعل ليلبسها في رجله، وجرت أمور لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين.
ووقع في الأسر الملك جاي ملك بيت المقدس وأخوه، وأرناط حاكم الكرك الذي قتله صلاح الدين بيده براً بيمينه لغدره وإيذائه المسلمين، وأسروا صاحب جبيل وابن هنفرى، ومقدم الداوية، وجماعة من الداوية وجماعة من الاسبتارية وقد أعدم المسلمون الداوية والاسبتارية لشدة نكايتهم في المسلمين.
هذه هي وقعة حطين، وهي إحدى المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي وتاريخ فلسطين، بات المسلمون ليلتها يكثرون من التكبير والتهليل، وانتهت بسجود صلاح الدين لله شكراً مع سقوط خيمة ملك الفرنج وأسره.وبعد هذه المعركة فتحت الطريق أمام المسلمين لتحرير معظم أرجاء فلسطين فخلال أيام قليلة تم فتح طبرية ثم عكا (10 يوليو)، ثم الناصرة وصفورية، ثم قيسارية وحيفا وأرسوف، ثم نابلس، ثم الفولة ودبورية وجنين وزعين والطور واللجون وبيسان وجميع ما يتبع طبرية وعكا، وتم فتح يافا. ثم اتجه المسلمون شمالاً ففتحوا حصن تبنين، ثم صيدا (29 يوليو)، ثم بيروت (6 أغسطس)، وجبيل. ثم اتجهوا جنوباً لاستكمال فتوح فلسطين ففتحوا الرملة ويبنه وبيت لحم والخليل، ثم عسقلان (4 سبتمبر)، وغزة والداروم، وأقام صلاح الدين بعسقلان حتى تسلم حصون الداوية في غزة والنطرون وبيت جبريل... وغيرها. وقد تمَّ ذلك كله لصلاح الدين في شهرين تقريباً وبعضها كان يحتاج إلى سنين من الحصار لاقتحامه وكان جملة ما فتح «خمسين بلداً كباراً كل بلد له مقاتلة وقلعة ومنعة.
تحرير بيت المقدس:
وتطلعت الأنظار إلى القدس فأعد صلاح الدين عدته وبدأ حصارها في منتصف رجب 583هـ -20 سبتمبر 1187م، وكان داخل القدس حوالي ستين ألف مقاتل صليبي كلهم يرى الموت أهون عليه من تسليمها. وخلال أيام حصارها جرت صدامات عديدة وحاول المسلمون اقتحامها واقتتلوا «أشد قتال رآه الناس، وكل واحد من الفريقين يرى ذلك ديناً وحتماً واجباً فلا يحتاج فيه إلى باعث سلطاني»(112). وطلب الفرنج الأمان مقابل تسليم المدينة فرفض صلاح الدين إلا أن يفعل بهم كما فعلوا بالمسلمين عندما احتلوها قبل حوالي تسعين عاماً، ثم عادوا وطلبوا الأمان وهددوا إن لم يعطوه أن يقتلوا أسرى المسلمين وهم ألوف، ثم يقومون بقتل نسائهم وذراريهم من النصارى ويحرقون ويعطبون أموالهم، ويقتلون حيواناتهم، ويخربون الصخرة والأقصى، ثم يخرجون ليقاتلوا حتى النهاية قتال المستميت. وشاور صلاح الدين أصحابه فأجمعوا على الإشارة بالأمان، فأمنهم صلاح الدين. وتم للمسلمين فتح القدس في 27 رجب 583هـ-2 أكتوبر 1187. وظهر من تسامح ورحمة صلاح الدين الكثير مما اعترف به الصليبيون أنفسهم(113).
وهكذا عادت بيت المقدس لتحكم براية الإسلام بعد 91 سنة هجرية (88سنة ميلادية)، وأعيد للمسجد الأقصى بهاؤه ونضارته، وعاد صوت الآذان يصدح في جنباته، وتم إحضار المنبر الذي أعده نور الدين للمسجد الأقصى قبل فتحها بعشرين سنة(114).
ومن المهم الإشارة إلى أن صلاح الدين تابع فتح المدن والقلاع الصليبية الأخرى، ففتح سنة 584هـ جبلة واللاذقية وقلعة صهيون، وفتح حصن بكاس والشغر وسرمينية وبرزية ودرب ساك وبغراس(115). كما فتح الكرك وما يجاورها كالشوبك بعد طول حصار بالأمان «وفرغ القلب من تلك الناحية وألقى الإسلام هناك جرانه وأمنت قلوب من كان في ذلك الصقع من البلاد كالقدس وغيره، فإنهم كانوا ممن بتلك الحصون وجلين ومن شرهم مشفقين». وفتح صلاح الدين صفد بالأمان بعد حصار وخرج الفرنج إلى صور «وكفى الله المؤمنين شرهم فإنهم كانوا وسط البلاد الإسلامية»(116)، كما فتح كوكب. وفي ربيع الأول 585هـ فتح صلاح الدين شقيف أرنوم وهي من أمنع الحصون(117).
وهكذا.. عادت أرض فلسطين لتحكم تحت راية الإسلام من جديد. ولكن ربيع الانتصارات لم يدم طويلاً فانفتحت صفحة جديدة من الصراع والتحدي.