الإنسان كائن اجتماعي، كما يقول علماء النفس، لأنه لا يستطيع أن ينعزل عن مجتمعه، ويتقوقع داخل ذاته، وإنما يمتلك ميلاً فطرياً إلى مد جسور الصلة مع أبناء جنسه، ليجد نفسه جزءاً من شبكة من العلاقات، التي تتشكل في صورة حلقات، تتسع كلما ترقى في السلم الحضاري. والمجتمع العربي، كغيره من المجتمعات الإنسانية، عرف، قبل الإسلام وبعده، علاقات اجتماعية وإنسانية، تجاوزت حدود الجزيرة العربية، على الرغم مما كان من صعوبة الاتصال، ووعورة الطرق، واضطراب الأمن، وأقام علاقات اقتصادية مع الشعوب المجاورة، وتضمنت مثل هذه العلاقات أنواعاً من المفاوضات، التي شملت جوانب الحياة الدينية، والسياسية، والاقتصادية. وكانت قريش ـ على سبيل المثال ـ تقوم بتأمين الطرق، وضمان حرية التبادل التجاري، وعقد مناذرة الحيرة تحالفاً سياسياً مع الفرس
، بينما تحالف الغساسنة مع الروم، على أساس تبادل المنافع والمصالح المشتركة، كما كانت القبائل توقع فيما بينها معاهدات، لترسيم الحدود بينها، وتحديد مناطق الرعي لكل منها، وموارد المياه، واقتضت مثل هذه الصيغ للتعايش مفاوضات كثيرة، قبل أن تتبلور في شكل معاهدات وتحالفات. ومن صور المعاهدات المعروفة قبل الإسلام:
1. المساندة: وهي تحالف قبيلة مع أخرى عند الحاجة، وهي أشبه ما تكون بالتحالفات العسكرية في عالم اليوم.
2. الموادعة: وهي نوع من الصلح، بحيث لا تعتدي قبيلة على أخرى، وكان لها أجل محدود، ولم تكن مدتها تزيد على عشر سنوات.
وعندما اتسعت حدود الدولة الإسلامية، اتخذت هذه المعاهدات أشكالاً أكثر تطوراً، تمثلت في عهد الأمان. وهذا يكون بين المسلمين ومواطني دولة العدو، فيستأمنون على حياتهم، وأموالهم، وأعراضهم. وكانت مدته، غالبا، لا تزيد على العام، بينما كان عهد الذمة يتمثل في التزام سكان البلاد المفتوحة من غير المسلمين، دفع الجزية، إذا ظلوا على ديانتهم.
وهذا العهد كان ينسحب على الأجيال المتلاحقة، ما دامت متمسكة بدينها، أما عهد الصلح فكان يمكن أن يكون محدداً بأجل أو دائما، إلا أن المسلمين كانـوا ميالين إلى عدم زيادته على عشر سنوات، كما هو الحال عند عقد صلح الحديبية.
ومن الطبيعي أن يكون الوصول إلى مثل هذه العهود، من خلال مفاوضات، تجري بين المسلمين وغيرهم. وكان المسلمون، إذا اقتربوا من مدينة، يبعث أمير الجيوش برسالة إلى من يتولى أمرها، يخيره فيها بين الإسلام، أو الجزية، أو القتال. وإذا رضي الطرف الآخر بدفع الجزية، يتم التفاوض بين الطرفين؛ لوضع الشروط والضمان اللازم. وكانت المفاوضات تتم إما من خلال قائد الجيش مباشرة، أو عن طريق مندوب يمثله، وفي حالة إقرار عهد بين الطرفين، يقوم الخليفة، أو من يفوضه، بالتوقيع عليه.
وتحتاج مثل هذه المفاوضات إلى جولات، حتى تتبلور في صيغة معاهدة صلح، وقد تطول وتقصر حسب مجرياتها، ويتضمن النص ما اتفق عليه الجانبان تفصيلاً.
ولخطورة ما يترتب على المعاهدات والاتفاقات، ولتعلقها بمستقبل الأمة، وجب توافر عدد من الشروط في الشخص المفوض بتمثيل المسلمين، ومن ذلك أن يكون التفويض خطيّاً أو شفهيّاً من الخليفة ، ما لم يكن الذي يقوم بالمفاوضات هو الخليفة نفسه. ولضمان سلامة ما يترتب على المفاوضات، لا بد للخليفة أن يوقع على المعاهدة، ومن هذه ألا يكون هناك إجبار أو إكراه، لأن من ضمانات نجاح أي اتفاقية، توافر الإرادة، وعدم الإملاء، وحسن النية، والتراضي بين الطرفين.
أما مضمون المعاهدة، فينبغي ألا يكون مخالفاً لحكم شرعي، وأن يكون فيه مصلحة للمسلمين.
ويستدل على مشروعية المفاوضات في القرآن الكريم، من قوله تعالى: )وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ( (التوبة، 6)، وجاء في تفسير ابن كثير: "يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: وإن أحد من المشركين"، الذين أمرتك بقتالهم، وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم، "استجارك"، أي: استأمنك، فأجبه إلى طلبته، حتى يسمع كلام الله، أي القرآن، تقرؤه عليه، وتذكر له شيئاً من أمر الدين، تقيم به عليه حجة الله، "ثم أبلغه مأمنه"، أي: وهو آمن مستمر الأمان، حتى يرجع إلى بلاده، وداره، ومأمنه، "ذلك بأنهم قوم لا يعلمون" أي: إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء، ليعلموا دين الله، وتنتشر دعوة الله في عباده، ولهذا كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعطي الأمان لمن جاء مسترشداً، كما جاءه، يوم الحديبية، جماعة من الرسل من قريش، فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما بهرهم، وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم، وأخبروهم بذلك، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم. ولهذا، أيضاً، لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال له: أتشهد أن مسيلمة رسول الله؟ قال: نعم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، "لولا أن الرسل لا تقتل، لضربت عنقك". والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة، أو تجارة، أو طلب صلح، أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أماناً، أعطي أماناً، مادام متردداً في دار الإسلام، حتى يرجع إلى مأمنه وموطنه".
ويتبيّن لنا من هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى شرع للمسلمين مفاوضة غيرهم، وعقد الصلح معهم. ومن آداب الإسلام، ألا يضار من جاء رسولاً إلى دار الإسلام أو طالباً لرزق، مادام قد طلب الأمان، ومن هذا المنطلق، تسامح الرسول الكريم مع رسول مسيلمة الكذاب. وقد تفاوض الرسول، مباشرة، أو من خلال وسيط، مع أطراف أخرى، كالمشركين في مكة، والمدينة وكاليهود، بل إن الرسول، صلى الله عليه وسلم، بدأ مفاوضات قبل الهجرة، تثبيتاً لدين الله ونشر دعوته، ففاوض ستة من عرب يثرب من الخزرج، في موسم الحج، وفي العام الذي تلاه، عقد بيعة العقبة الأولى مع اثني عشر رجلاً، منهم عشرة من الخزرج واثنان من الأوس، ثم عقد بيعة العقبة الثانية مع ثلاثة وسبعين رجلاً، اثنان وستون من الخزرج، وأحد عشر رجلاً من الأوس، وذلك بعد عام من بيعة العقبة الأولى.
وبعد الهجرة والانتصار في غزوة بدر الكبرى، تمت مفاوضات بين المسلمين والمشركين حول الأسرى، فكان أن طلب المسلمون أربعة آلاف درهم عن كل أسير، ومن يحسن القراءة والكتابة، ولم يكن معه فداء، يعلم عشرة غلمان من المسلمين.
ويقدم صلح الحديبية دليلاً حياً على أهمية المرونة في المفاوضات، واستصحاب الرؤية المستقبلية، وهذا ما كان من الرسول، صلى الله عليه وسلم، الذي قبل ألا يُكتَب "بسم الله الرحمن الرحيم"، وألا يذكر أنه رسول الله. بل إنه قبل اقتراح سهيل بن عمرو، ممثل المشركين، "على ألا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك، إلا رددته إلينا" وكان هذا موضع اعتراض عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وكان هذا الصلح، على ما يبدو في الظاهر، فيه إجحاف بحق المسلمين وانتصار لقريش، إلا أنه كان فتحاً للإسلام.
وقد دخل المسلمون في مفاوضات شتى مع دولتي الفرس والروم، في عهد الخلافة الراشدة، وفي عهد الخلافتين الأموية والعباسية، بل إن المفاوضات، في العهدين الأموي والعباسي، أثَّرت فيهما الصراعات بينهما، فكان هناك مفاوضات لدعم التحالف بين العباسيين والفرنجة؛ لتهديد إمارة الأمويين في الأندلـس، بل إن المفاوضات أخذت أحياناً طابعاً ثقافياً، مثل طلب الكتب النادرة، ودراسة الأماكن التاريخية المتعلقة بأحداث الدولة الإسلامية، أو مما ورد ذكره في القرآن الكريم، مثل سفارة الخليفة الواثق العباسي (842 ـ 847م ) إلى أفيوس بآسيا الصغرى؛ لزيارة قبور أهل الكهف، الذين استشهدوا أيام الإمبراطور دقلديانوس، والذين ورد ذكرهم في سورة الكهف في القرآن الكريم.
ولما كان للرسل المفاوضين من أثر في الطرف، الذي يفاوض المسلمين، كان حرص الخلفاء على اختيار من يرونه مناسباً لهذه المهمة العظيمة. ومن الصفات، التي توخوها، عند اختيار المفاوضين، أن يكون المفاوض جسيماً، تمام القد، جهير الصوت، ووسيماً، لا تعتمه العيوب، ولا تزدريه النواظر.
وكان اهتمامهم عظيماً، بأن يكون المفاوض على درجة كبيرة من نفاذ الرأي، وحصافة العقل؛ لاستنباط غوامض الأمور، ومتحلياً بالفصاحة، وطلاوة الحديث، وبلاغة الكلام، كما كانوا يتوخون أن يكون على درجة عالية من الثقافة، وعارفاً بأحداث الأمم، وقبل ذلك، على معرفة بأحكام الشريعة، والأدب، والسير، والتاريخ، كما كان يفضل أن يكون ذا نسب، مترفعاً عن الدناءات وسفاسف الأمور.
وحيث إن المجال يضيق عن ذكر أنواع المفاوضات، التي جرت في العصور الإسلامية المختلفة، نكتفي بذكر مثالين، يقدمان صورة واضحة عن المبادئ، التي كانت تحكم المفاوضات، في عهد الخلافة الراشدة، وفي العهود، التي تلت.
من المفاوضات الشهيرة، التي شارك فيها المسلمون، تلك التي كان الروم طرفاً فيها. فنتيجة لما كان للروم من سلطان ونفوذ على مساحات واسعة من هذا العالم، تحتم أن يحدث بينهم وبين المسلمين صراعات مختلفة، لأن المسلمين رأوا أن من واجبهم تبليغ دين الله للناس كافة، فما كان لهم أن يتم ذلك ما لم يوسعوا من نفوذهم، ويبسطوا سلطانهم لإعلاء كلمة الدين، ولم تكن المبادرة بالحرب سياسة، يتبعها المسلمون، وإنما كانوا يبدؤون، دائماً، بالدعوة إلى الإسلام بالحسنى، وهذا ما فعله أبو عبيدة عامر بن الجراح، حين أرسل إلى الغساسنة، حلفاء الروم، بعثة برئاسة هشام بن العاص، شقيق عمرو بن العاص، فاستقبله زعيمهم جبلة بن الأيهم، فرغبه هشام في الإسلام، إلا أنه أعرض إعراضاً ، فوجه إليه هشام إنذاراً شديد اللهجة، فرد بأنه سوف يلتزم ما يلتزم به حلفاؤه الروم، وتوجهت هذه البعثة إلى أنطاكية، حيث هرقل، زعيم الروم، الذي رفض عرض المسلمين بأن يسلموا أو يدفعوا الجزية. فعاد هشام بن العاص، والوفد المرافق له، إلى أبي عبيدة، وأبلغوه بنتيجة سفارتهم، فلم يكن هناك بد من قتال الروم وحلفائهم الغساسنة. ولكن، قبل أن تبدأ المعركة، أرسلت الروم تهدد المسلمين، وتطالب أبا عبيده بالانسحاب والعودة بجيشه إلى بلادهم، بلاد الفقر والقحط، ولكن رد أبي عبيدة جاء أكثر شدة، وبيّن لهرقل إصرار المسلمين على تبليغ دعوتهم، ونشر دين الله، متأكدين من نصره، سبحانه وتعالى. أخافت هذه الرسالة الروم، فطلبوا أن يبعث إليهم أبو عبيدة رسولاً، حتى يمكن التفاهم، وكان ذلك الرسول هو معاذ بن جبل، الذي أعجب به الروم، قبل بدء المفاوضات، لهيبته وثقته في نفسه، وحذّره الروم من قوتهم، إلا أن معاذاً أوضح لهم أن المسلمين لا تعنيهم كثرة أعداد أعدائهم، لأنهم يستمدون أسباب النصر من الله سبحانه وتعالى، وبدأ الروم المساومة، حين وجدوا قوة موقفه، فأعلنوا تنازلهم عن أرض البلقاء، وما والاها من بلاد الأردن، على أن يعينوا المسلمين على قتال الفرس، وعندما أبى معاذ هذا العرض، غضب الروم، متوعدين المسلمين بتشتيت شملهم، ولكنهم رأوا قبل أن يبدأ القتال بينهم وبين المسلمين، أن يتثبتوا من أن هذا الرأي، الذي رآه معاذ، هو رأي قائد المسلمين، أبي عبيدة، أيضاً، فبعثوا إليه رسولاً، يعرض عليه أن يأخذ كل راجل من جند المسلمين دينارين، والفارس خمسة دنانير وثوبين، في حين يأخذ أبو عبيدة ألف دينار، وخالد بن الوليد خمسمائة، وأن يرسلوا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ألفي دينار، مقابل جلاء المسلمين عن بلاد الشام، واحتفاظهم بأرض البلقاء، وما والاها، فردّ أبو عبيدة على المبعوث الرومي، أن رسالة المسلمين تبليغ دين الله، وأنه ليس أمام الروم، إلا الدخول في الإسلام، أو دفع الجزية، لتقع بعد ذلك معركة فحل، في عام 13هـ، لينتصر المسلمون فيها على الروم.
وقد جرت مفاوضات أخرى مع الروم، قبل معركة اليرموك، عندما بعث ماهان، قائد قوات الروم، مبعوثاً إلى أبي عبيدة، يطلب منه إرسال رسول للتفاوض قبل الحرب، فبعث إليه خالد بن الوليد، يرافقه ميسرة بن مسروق العبسي، مستشاراً له، وقد حاول ماهان أن يتقرب إلى خالد، وأبدى إعجابه بفسطاطه، فوهبه خالد إياه، وعرض ماهان أن يتنازل الروم للمسلمين، عما نالوا من أموال وأسرى في حروبهم مع الروم، مع دفع عشرة آلاف دينار لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وخمسة آلاف لأبي عبيدة، ومثلها لخالد، وألف دينار لمائة من رؤساء المسلمين، وخمسين ديناراً لكل من راجليهم، في مقابل انسحاب المسلمين من بلاد الشام وعدم العودة إليها. وقد رفض خالد هذا العرض، وخيره بين الدخول في الإسلام أو دفع الجزية، مبيناً حرص المسلمين على الموت، أكثر من حرصهم على الحياة، في سبيل إعلاء كلمة الله. وأعقب ذلك قيام المعركة وانتصار المسلمين.
ومن أشهر المفاوضات في التاريخ الإسلامي تلك، التي تمت بين صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد، في أثناء الحملة الصليبية الثالثة على الشرق 587 ـ 588هـ (1191 ـ 1192م). وقد شهدت هذه الفترة معارك، عسكرية، طاحنة، بين المعسكرين الإسلامي والصليبي، وقد وضعت النهاية في صلح الرملة، الذي وقع بينهما، في 2 سبتمبر/أيلول 1192م (22شعبان 588هـ). وكان للفريقين مسوغاتهما في دخول المفاوضات، وتوقيع هذا الصلح، كما أنهما أظهرا مهارات جمة في التفاوض، ينبغي تحليلها، والوقوف على ما يفيد منها في توضيح الأسس، التي تقوم عليها الدبلوماسية.
وقد بدأت المفاوضات، عقب وصول ريتشارد إلى الشرق، وبينما كانت المعارك تدور حول عكا، جاء رسول من ريتشارد إلى صلاح الدين، طالباً منه أن يجتمع بملك إنجلترا، فرفض صلاح الدين فكرة الاجتماع، من غير أن يكون هناك أساس يتفق عليه. وكان هذا الاتصال بمنزلة جس نبض لمعرفة الحالة النفسية لكل طرف، والروح المعنوية، التي عليها جيشه.
وقد أهدى ريتشارد إلى السلطان صلاح الدين بعض الطيور الجارحة، كما كان صلاح الدين دائم التزويد له بالبلح، وما يفضله من فاكهة، وظل ذلك طوال المفاوضات، التي استمرت بينهما.
ومع أن جيش ريتشارد دخل عكا، وأحدث الكثير من المذابح بين المسلمين، فإن المفاوضات ظلت مستمرة. ولم يرد صلاح الدين إقفال هذا الباب، حرصاً على جيشه، وانتظاراً للحظة المناسبة، وبخاصة أنه وقف على ما كان من خلاف بين قادة الحملة الصليبية، الذين كانت تتكون جيوشهم من جنسيات مختلفة.
وقد بدأ هذا التمزق بانحياز فيليب الثاني، ملك فرنسا، الذي عاد إلى بلاده، إلى جانب كونراد، بينما أخذ ريتشارد قلب الأسد جانب جي لوستيان.
وكان الملك ريتشارد على علم بهذا الواقع، فجعل المفاوضات بينه وبين صلاح الدين قائمة. وقد اشترك الملك العادل، سيف الدين، شقيق السلطان صلاح الدين، في هذه المفاوضات، واجتمع ريتشارد قلب الأسد بالملك، في 12 شعبان 587هـ (4سبتمبر 1191م)، وابتدأ الحديث بين الملك وريتشارد، بتناول عواقب الحرب وفوائد السلم، إلا أن الملك العادل طلب منه توضيح موقفه، وتحديد مطالبه، فكان أن رد ريتشارد، بضرورة أن يعود السلطان بجيشه إلى بلاده، وانتهى الاجتماع بخلاف بينهما. وأعقب ذلك انتصار ريتشارد في معركة أرسون، في 14 شعبان 587 (6سبتمبر/ أيلول 1191)، ليتجه بعد ذلك إلى مدينة عسقلان. واستغل السلطان صلاح الدين النزاع بين ريتشارد وكونراد، فدخل في مفاوضات مع الأخير، عن طريق رسول جاء إلى السلطان، وحدد مطالبه في أن يعطي المركيس كونراد بيروت وصيدا، نظير أن يناصر صلاح الدين، ضد الفريق الآخر من الفرنجة.
ولكن صلاح الدين طلب من كونراد أن يجاهر بذلك، وأن يهاجم مدينة عكا ويأخذها منهم، وأن يطلق سراح الأسرى المسلمين الموجودين في مدينة صيدا. ولم تنته المفاوضات إلى نتائج، إلا أنها حفزت ريتشارد على معاودة الاتصال، طالباً التحرك نحو الصلح، وكانت مطالبه في هذه المرة استرجاع القدس، والصليب، واسترجاع البلاد، التي استولى عليها صلاح الدين، ومقاسمته في بعض المراكز، موضحاً، من خلال رسالة بعث بها إلى صلاح الدين، أهمية القدس والصليب عندهم، ولكن صلاح الدين ردّ بأن القدس لها عند المسلمين أهمية أكثر مما عند الصليبيين.
فاجأ ريتشارد صلاح الدين، بأن اقترح عليه أن يتزوج الملك العادل سيف الدين شقيقته جوان، وكانت أرملة، وأن يؤول إليهما حكم البلاد الساحلية، الواقعة غرب نهر الأردن، وأن يشتركا في حكمها، وأن يسلم المسلمون القدس للفرنجة، وأن يُطلق سراح جميع الأسرى من الجانبين.
وأبدى السلطان صلاح الدين موافقته، واستمر في التفاوض مع ريتشارد، معتقداً عدم جديته في الاقتراح، الذي قدمه، ومحاولاً كسب الوقت، مستغلاً ما بين ريتشارد وكونراد من خلاف ونزاع. ثم حدثت بعض المستجدات، التي غيرت اتجاه المفاوضات، منها اتجاه ريتشارد لإعمار عسقلان، في 20 يناير/ كانون الثاني 1191، حيث ظل هناك إلى يونيه/ حزيران 1192، ومنها عدم مشاركة كونراد بجيوشه في العمليات العسكرية ضد المسلمين، ومنها، أخيراً، وصول أنباء محاولة أخيه يوحنا الاستيلاء على حكم بلاده، كما تحرك فيليب الثاني ضد ممتلكاته في نورماندي.
وقد حدث في ذلك الوقت أن اغتيل كونراد، وخلفه هنري، الذي تزوج أرملة كونراد، ونادى به الفرنجة ملكاً على بيت المقدس.
وفتح هنري باب المفاوضات مع صلاح الدين، وتشدد في مطالبه، مما جعل صلاح الدين يطالب بأن تُعقد المفاوضات على الأساس، الذي كان بينه وبين سلفه كونراد، وحاول ريتشارد التدخل لإصلاح العلاقات بينهما، بل جعل مطالبه تتقلص، ليكتفي بكنيسة القيامة.
وبعد استشارة رجاله، وافق صلاح الدين على عقد صلح، ويبدو أنه خشي من تململ جيشه، ورد على ريتشارد بأنه وافق على منحه كنيسة القيامة، وتقسيم بقية البلاد، بحيث تكون الساحلية بيد ريتشارد، والجبلية بيده وأن يتناصفا ما بينهمـا، بينما تكون عسقلان خراباً، ولا تكون لأي منهما.
وتوافقت مع هذه المفاوضات معركة يافا، التي أمل صلاح الدين أن ينتصر فيها، لتقوية مركزه التفاوضي، إلا أن النصر كان حليف الصليبيين.
وعند تقويم الوضع، وجد ريتشارد أن الظروف ليست في صالحه، بعد أن جاءت أنباء بتهديدات أخيه، وملك فرنسا، وإمكان وصول إمدادات إلى صلاح الدين من البلاد الإسلامية، كما أن صلاح الدين شعر بانخفاض معنويات جيشه، بعد طول المعارك، التي خاضها ضد الصليبيين، مما دفع الجانبين إلى عقد صلح الرملة، في 22 شعبان 588 (2سبتمبر/ أيلول 1192)، وتنازل ريتشارد مبدئياً عن عسقلان. وفي اللحظات الأخيرة، قبل توقيع الصلح، طالب بالرملة واللد، مقابل عسقلان، وأخذت المعاهدة صفة العموم بإشراك الملك هنري، كما اشترط صلاح الدين دخـول صاحب أنطاكية وطرابلس في الصلح.
وأُجْري التصديق من الجانب الفرنجي، حيث اعتذر الملك ريتشارد عن القسم، لأن الملوك لا يحلفون، وشهد هذا التوقيع العادل سيف الدين، رسولاً عن صلاح الدين، بينما حضر الملك هنري وجماعته الأمراء توقيع صلاح الدين. ومما يمكن استنتاجه من هذه المفاوضات الطويلة، التي تمت بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد ما يأتي:
ـ أهمية أن يتسم المفاوضون بطول النفس، ورحابة الصدر، وعدم قفل باب المفاوضات، مهما بدت العلاقات معقدة، وإذا كان هذا الأمر في ظل بدائية الأسلحة، التي كانت مستخدمة في ذلك الزمان، فإنه يبدو أكثر إلحاحاً، في وقتنا الحالي، حيث يمثل استخدام السلاح خطراً، لا يهدد أطراف القضية وحدهم، بل يهدد أمن العالم وسلامة البشرية.
ـ ضرورة أن تكون هناك علاقات على المستوى الإنساني بين المفاوضين، ولا أدل على ذلك من استمرار صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد في تبادل الهدايا في أحلك الظروف.
وقد أقام ريتشارد علاقات وطيدة مع أمراء المسلمين، وكان يتباسط معهم، بل إن هناك من يرى أن اقتراحه زواج العادل سيف الدين بشقيقته جوان، كان من واقع هذه العلاقة، التي ارتبط بها مع قادة المسلمين.
ـ أهمية استخدام نقاط ضعف العدو، كما فعل صلاح الدين، حين استغل النزاع، الذي كان بين أمراء الحملة الصليبية وقادتها.
ـ استخدام عنصر المفاجأة، كاقتراح ريتشارد قلب الأسد زواج العادل سيف الدين من جوان.
ـ ضرورة أن يكون هناك أساس يبنى عليه التفاوض، وقد رفض صـلاح الدين لقاء ريتشارد من غير وجود أساس، تسير وفقه المفاوضات بينهما.
ـ ضرورة استقراء الواقع، ومواجهة الحقائق، وفقد شعر صلاح الدين بتململ جيشه، فكان ذلك دافعا له لوضع حد للحروب، كما أن ريتشارد قلب الأسد استقرأ الظروف المحيطة به، من انقلاب أخيه وتحركات فيليب الثاني ملك فرنسا ضده، فتعجل إتمام الصلح.
ـ الحرص على "البروتوكولات"، التي يتم بموجبها توقيع الاتفاقيات والمعاهدات، كرفض ريتشارد أن يحلف مسوغا رفضه بأن الملوك لا يحلفون.
ـ معرفة حد التنازلات، التي يمكن تقديمها في مقابل الوصول إلى اتفاق، وقد رفض صلاح الدين التنازل عن القدس، بينما قبل التفاوض على مدن أخرى.