محطة البنزين ............................الجزء الثاني
...
كانت هي بذاتها، شاخصة أمام أبصاري، بنغمة صوتها، وبنظراتها وبخديها المتوردين، ولون عينيها الكستنائي .. شعرت وكأني أفقت من كابوس مزعج، أو كأني دخلت في آخر أكثر إزعاجا، وبدا وكأن قطعا من الصقيع البارد تنهمر علي رذاذا زمهريرا، ولم أشعر بنفسي إلا وأنا مستندا على ركبتاي أرضا.
رأيت في عينيها اندهاشا غريبا من هول ما أصابني، وبدا لي وكأنها تريد أن تصرخ بأعلى صوتها، ربما ظنت أني قد أصاب "بسكتة دماغية" ..
هل أنت بخير؟
......!
عصاااااااام !!!
أنا بخير شكرا .. ممكن كوب ماء لو تكرمت؟
حاضر لحظة !
شربت الماء بلهفة - لدرجة أنه انهمر على ثيابي- قبل أن أقف على رجلاي ..
أنت "زينب" عاملة محطة البنزين؟ !!!
لا سيدي، "زينب" توفيت قبل أيام، أنا أكون "زينة" أختها التوأم.
........ !!!
عفوا .. ومن تكون أنت؟
أنا ...... (..)
صمت قليلا وأنا أنظر إليها بارتباك وخوف كبيرين، وأردفت بعد أن بلعت ريقي :
عظم الله أجرك في أختك.
بارك الله فيك.
عم صمت مطبق للحظات قبل أن أستمر في حديثي :
ممكن أدخل لأعزي أهلك في مصابهم؟
لكن من أنت؟
حدقت في عينيها مطولا من دون أن أنبس ببنت شفة، إلى أن اعتراها نوع من الخجل الممزوج بكثير من التوجس، لتختفي عن أنظاري لبرهة، قبل أن تعود وتطلب مني أن أتفضل، وكأنها ارتاحت لدخولي بعد أن استشارت أهلها كما بدا.
دخلت وأنا مرتبك ومتردد، لكن في ذات الآن كنت أحاول أن أبدو أكثر هدوءً، وأكثر بشاشة على وجهي، لأني أدرك أنها حبل المودة قطعا. وأول ما أتت عليه عيناي -وأنا بداخل البيت المتواضع- هو صاحبته وهي نصف ممددة على أريكة قديمة وبجانبها مائدة صغيرة منتثرة عليها شتى صنوف الأدوية ..
بدت المرأة غير طاعنة في السن، لكن الزمن والمرض فعل أفاعيله بها.
السلام عليكم حاجّة
وعليكم السلام بني .. (وهي تحاول أن تأخذ جلستها على الأريكة).
دعكِ مرتاحة سيدتي .. (…) الحاج صاحب البيت موجود؟
لا يا بني، صاحب البيت فارق الحياة منذ مدة.
الله يرحمه .. وعظم الله أجرك في بنتك "زينب"، "والله يبدل محبتها بالصبر"
الله يبارك فيك، تفضل بني اجلس.
جلست، وعلامات الخجل بادية على محياي، ربما لم أكن أجرؤ على النظر في وجه المرأة أو حتى ألتفت يمنة أو يسرة ..
وبفضول لبق ولطيف قالت :
وكأنك صاحب المحطة التي كانت تعمل فيها ابنتي "زينب" ؟!
لا سيدتي، في الحقيقة أنا أحد زبائن المحطة التي كانت تعمل فيها المرحومة، وقد جئت اليوم إلى المحطة وقالوا لي هناك أنها توفيت، وصراحة صعب علي تصديق ذلك، وأتيت بنفسي إلى هنا لأستطلع الأمر.
نعم يا ابني، نحن أيضا لم نصدق ذلك بداية، لكنها إرادة الله، فزينب كانت مريضة.
هل مرضت بسبب طبيعة عملها؟
لا يا بني، "زينب" كانت مريضة منذ صغرها، لكننا لم نلحظ عليها ذلك، وبعد وفاة أبيها قبل أربع سنوات أصبحت هي معيل الأسرة الوحيد، بعد أن تركت دراستها وهي في السنة الأولى من المرحلة الثانوية، لتضمن لنا لقمة خبز ومصاريف دراسة أخويها، فبفضلها استطاعت أختها الالتحاق بالجامعة هذا العام ..
واستطردت وهي تذرف دموعا حارة : "زينب" كانت مصابة باللوكيميا، لكننا لم نكتشف ذلك إلا في مراحل متقدمة من مرضها، ومنذ مدة وهي تتابع علاجها عند طبيب في المدينة، وكثيرا ما كان يوصيها بألا تتعب نفسها كثيرا، لكن عنادها وإصرارها على أن تكمل أختها دراستها الجامعية كان أقوى منا جميعا، ربما لأنها تمنت لأختها أن تحقق ما لم تستطع تحقيقه هي، وحتى موتها الغير متوقع فاجأنا، لأنها كانت تبدو في حالة جيدة إلى حد ما، لكن قدر الله وما شاء فعل، أما وقد فقدنا معيل الأسرة، فلا محيد من أن أختها ستكون مضطرة للانقطاع عن الدراسة والبحث عن عمل لإعالة البيت وتسديد مصاريف علاجي.
كانت تحكي لي عن مآسي العائلة وأنا أقلب كفاي، وأنظر إليها فاغر الفاه، وجاحظ العينان. وبنهاية كلامها عم الصمت من جديد، ودخلت في دوامة من الحيرة، تشتتت معها أفكاري، وبين الفينة والأخرى، كنت أحاول أن أرفع رأسي قليلا، وأحوم بناظري بين مختلف أرجاء البيت، إذ كانت كل زاوية من جدرانه مرصعة بصور العائلة، خصوصا صور "زينب" و "زينة" وهما معا، وفي مختلف مراحل عمرهما، إذ بدتا وكأنهما واحدة، حتى ملابسهما كانت متشابهة.
ازداد توتري وأنا أعيد شريط الأحداث والمواقف التي قادتني إلى هنا، فكل شيء بدأ من أول وآخر مرة رأيت فيها "زينب" في المحطة، لكن واقعي الجديد يقول أن ما اختزنته من مشاعر عنها في تلك اللحظة الوجيزة من لقائي بها لم تمت، وظلت موشومة في ذاكرتي، و"زينب" أيضا لم تمت بالنسبة إلي، وصرت أكثر يقينا أنه مهما تقدم العقل فلن يصل إلى ما وصل إليه القلب.
كانت المرأة لا تتوقف عن ترديد عبارات من قبيل "الحمد لله" و"لا إله إلا الله" وغيرها، مما جعلني أهدأ قليلا وأنا الأحوج ما يكون للدعة والسكينة في مثل هذا الموقف ..
حمحمت قبل أن أتابع كلامي ..
ما شاء الله يا حاجّة، ابنتيك تبدوان وكأنهما شخص واحد، يتشابهان في كل شيء ..
ابتسمت وقالت :
نعم يا بني، حتى الجيران وزملائهما أيام دراستهما معا، كانوا كثيرا ما لا يفرقون بينهما.
نعم، كذلك حصل معي نفس الشيء قبل قليل عند الباب، حتى أني اعتقدت أن "زينب" لم تمت، وكاد يغمى علي قبل أن تخبرني بأن اسمها "زينة" وهي توأم المرحومة.
نعم يا بني، استشعرت ذلك حينما صرخت ودخلت إلى المطبخ لجلب الماء لك، وأكدت لي هي ذلك قبل أن تأذن لك بالدخول.
دخلت في لحظة جديدة من الصمت، وفي تفكير عميق، قبل أن أحمحم من جديد وأردف :
أعرفك بنفسي حاجّة، أنا اسمي نبيل، وعمري 26 عاما وأعمل مهندسا في شركة الكهرباء بالمدينة. لن أخفيك سرا إن قلت لك أن سبب تواجدي هنا كان هو "زينب"، لكن أما وقد رحلت عنا، فأنا الآن أطلب يد ابنتك "زينة" للزواج إن قبلتموني.
نظرت إلي باستغراب كبير من انسيابيتي وعفويتي في الحديث معها، وهي تحاول من جديد أن تأخذ جلستها على الأريكة ..
لكن الأمر متوقف عندها هي يا بني فإن قبلت فمرحبا بك وبأهلك.
خيرا إن شاء الله.
حملت جسدها النحيل بصعوبة من على الأريكة، وبينما نهضتُ محاولا مساعدتها، طلبت مني أن أجلس وألا داعي لذلك، ثم انصرفت لبعض الوقت لاستشارة "زينة" في الموضوع، لكن تلك المدة بالنسبة إلي كانت من أطول ما يكون، وبدا وكأن شيئا من الخوف والتوتر دب إلى صدري حينها، وانتشرت في شراييني قشعريرة غريبة، وصرت أقلب ذراعاي بعد أن كنت أقلب كفاي.
ثم عادت وأخذت مكانها على كرسي خشبي قبالتي ..
البنت موافقة يا بني وأنا أيضا، ونحن في انتظارك وأهلك لقراءة الفاتحة، والله يجمع بينكما في الحلال.
كان كلامها بردا وسلاما علي، وشعرت وكأني أجمع المجد من طرفيه وأنا موشح بتاج أميري ..
هذا شرف كبير لي سيدتي، إن شاء الله نأتي في نهاية الأسبوع القادم.
إن شاء الله بني.
أتركك الآن في رعاية الله.
رافقتك السلامة.
---
في محطة البنزين بدأت الحكاية،،
وهنا في حينا اجتمعت عائلتينا وأنا و"زينة"،،
وذكرى "زينب".
...
انتهت ...
...